معذرة إن حاولت الجمع بين الكتابة ضمن إطار السياسة، عذر يسبق كل قول وحديث عما ظهر وما خفي، لكنه حديث يستدعي إثارته وإن بدا أمرا غير مقبول من ناحية اللباقة.. وبين هذا وذاك أقول أن كل تشابه بين الأشخاص والأحداث ليس من قبيل الصدفة، ولكنه فعل صادر عن سبق إصرار وترصد. هم كُتّاب من زمن القرن العشرين، عايشوا وعاصروا أحداثا لم يشهد المغرب مثلها من قبل، ناضلوا رفقة زعماء كبار لأحزاب كانت كبيرة ثم تقزم حجمها بفعل دورة الطبيعة، شاركوا في اجتماعات مؤثرة في المشهد السياسي، مُنح لهم حق التدخل والتعقيب والاقتراح ونقطة نظام.. تقدموا مظاهرات مدينتي الرباط والبيضاء الحافلة.. كانت لهم شققا صغيرة يشاركون فيها رجال السياسة جلسات السمر والحُميا. وكانت لهم في نفس الآن أعمدة في منابر أحزابهم، يكتبون فيها ويحللون ما يجب تحليله إزاء حدث ما.. في نفس الوقت كانوا ينفلتون من صخب السياسة ودسائسها وكولساتها نحو أمكنة هادئة، ينعزلون فيها كي يتعرفوا على آخر ماجاد به الفكر.. فتراهم تارة يولون أوجههم شطر الكتابات الغربية وجديدها، وتارة أخرى يتوجهون نحو إنتاجات عرب سورية ومصر والعراق ولبنان.. هم كُتاب أغلبهم قدموا من الأدب والعلوم السياسية والاقتصادية والتاريخ. ثم الفلسفة والسوسيولوجيا بشكل أصغر، الذين أتوا من الأدب مثلا، تخندقوا داخل دائرة حنا مينة وعبد الرحمن منيف وسهيل إدريس وشريف حتاتة وأحمد مطر ومظفر النواب ومحمود درويش.. كان يبدو لهم نجيب محفوظ وهاني الراهب وغالب هلسا وإحسان عبد القدوس.. كُتابا من أزمنة طواها لسان حال الواقع، ومن الفكر وجدوا ضالتهم في كتابات سارتر وألتوسير الإيديولوجية، وغرامشي وماوتسي تونغ والمهدي عامل وحسين مروة.. ثم أهملوا في نفس الوقت كبريات الإبداعات البنيوية والفينومينولوجية والوجودية.. أما الموسيقى فقد كان يتماشى أغلبها مع موضة الشيخ إمام ومارسيل خليفة وقعبور وفيروز. عندما كانوا يكتبون في الأدب والفكر والاقتصاد والتاريخ، لم تكن إبداعاتهم تنزاح عن الخط الإيديولوجي للأحزاب التي ينتمون إليها، كان بعضهم يحاكم الواقع والإيديولوجيا تجره جرا غريبا، رأوا في التاريخ تراكما وتقدما وهم أبناء قرن يرى في التاريخ انتشارا وانشطارا وتقطعا، وقوة عظيمة تملك الإنسان بدل أن يملكها. لكم بدا لهم هذا الفهم رجعيا ومجرد وهم كرسته الرأسمالية للاستمرار في جشعها.. لم يستسلموا بدافع استلابهم من طرف إيديولوجيا أحزابهم.. يقترب الفيلم نحو نهايته، ننتظر بفارغ الصبر ما سيحدث، خاصة وأن السيناريست الكبير والناجح مبدع سادي بالفطرة.. تأتي النهاية فيراجع أغلبهم مواقفه، ثم يصل إلى حقيقة متأخرة ترى أن الكتابة مهما كان جنسها وشكلها فإنها يجب أن تكون خارج أي انتماء، سواء كان انتماء سياسيا أو دينيا أو اجتماعيا أو حتى عاطفيا. ينتهي الفيلم بانعزال جل كتابه، أما البقية فقد بدأت فيلما آخر من خلاله تقلدت مناصب سياسية سامية بعد المصالحة. عندما تلوذ هذه الفئة إلى نفسها تعترف بأن إنتاجها أصابه شُحٌّ مزمن، وترى في نفسها كائنا سياسيا متقلبا لا يهمه من المغرب سوى الامتيازات التي بات ينعم بها، أما الفئة الأولى فقد قررت حرق تاريخها الماضي، أو لنقل أنها دفنت ماضيها في مقبرة منسية.أبادته متفرغة لمصالحة الكاتب الذي يأبى الانتماء حتى إلى نفسه.. للأسف حصل هذا في وقت متأخر جدا.