اتضحت خريطة الترشيحات للانتخابات الرئاسية التونسية المبكرة بالإعلان عن 98 مرشحا يعكسون كل الاتجاهات والحساسيات التونسية، ومن المتوقع أن يعرف هذا العدد انخفاضا بعد أن تبت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في ملفات المترشحين. قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا العدد مبالغا فيه، وهذه ملاحظة وجيهة لو كان الأمر يتعلق بدولة استقرت فيها الديمقراطية ويعتبر الترشح فيها، وحده، مسؤولية لها تبعات؛ ولكن في الدول التي ما تزال في طور التحول والانتقال نحو الديمقراطية فالأمر عادي، حيث يكون الإقبال كثيفا على الترشح والمشاركة في الانتخابات وتأسيس الأحزاب ولا يخلو من مبالغة وكوميديا وفلكلورية أحيانا، ويفسر ذلك الاشتياقُ إلى ممارسة حق حجبه طول أمد الاستبداد. وهو الأمر الذي كانت عليه الانتخابات الرئاسية سنة 2014، حيث بلغ عدد الذين تقدموا للترشح 72 مرشحا قبلت الهيئة من بينهم 27 مرشحا. من الصعب جدا، في هذا الحيز الضيق، تناول كل المرشحين بنفس الحجم والأهمية لأن الترشيحات الجدية وذات الحظوظ للمرور للدور الثاني قليلة. ولذلك وجب انتقاء البعض منها فقط. وبالقدر الذي يمكن اعتبار الإقبال على الترشح إيجابيا، فهو، بالمقابل، سلبي لأنه يساهم في تشتيت الناخبين وتفويت فرص الفوز على بعض التكتلات ذات القواسم المشتركة. وهناك معايير عدة لتصنيف المرشحين، مثل المعيار الإيديولوجي، والمعيار السياسي، ومعيار السن، ومعيار الجنس. بالنظر إلى المعيار الإيديولوجي، يمكن التمييز بين ثلاثة تكتلات إيديولوجية: 1- الإسلاميون: بهذا المعيار، يمكن اعتبارهم أكبر مستفيد بحكم قلة مرشحيهم مقارنة مع قاعدتهم الانتخابية، حيث هناك مرشح حركة النهضة عبد الفتاح مورو، وحمادي الجبالي رئيس الحكومة الأسبق، ويمكن إضافة الهاشمي الحامدي زعيم تيار المحبة والقيادي السابق، في المرحلة الطلابية، في حركة النهضة والذي أضفى من الآن نبرة إسلامية على ملف ترشيحه وخطابه الانتخابي؛ 2- اليسار: وهو تكتل متضرر من تعدد الترشيحات مقارنة مع حجم قاعدته الانتخابية المحدودة، وينتمي لهذا التيار العريض تسمية كلا من حمة الهمامي القيادي بائتلاف الجبهة الشعبية، والمنصف المرزوقي قائد حزب “حراك تونس الإرادة، ومحمد عبو أمين عام حزب التيار الديمقراطي الذي كان أمين عام حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والرجل الثاني بعد المرزوقي قبل الانشقاق عنه،… 3- الدستوريين: وهم أكثر الأطراف المتضررة من التشتت في الترشيحات، حيث هناك يوسف الشاهد عن حزب “تحيا تونس”، وعبد الكريم الزبيدي وزير الدفاع المستقيل المدعوم من حزب “نداء تونس”، وعبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر والتي لا تخفي معارضتها للثورة التونسية والربيع العربي وتعتبر حزبها منبثقا عن حزب الرئيس المخلوع بن علي، والمهدي جمعة رئيس الحكومة الأسبق عن حزب البديل التونسي، وسفيان بن ناصر المستقيل من حركة نداء تونس، ورضا شرف الدين ورئيس النجم الرياضي الساحلي، ورجل الأعمال نبيل القروي أحد مؤسسي حزب “نداء تونس” ومالك قناة نسمة ورئيس حزب “قلب تونس” وممثل جمعية خليل تونس الخيرية ولذلك ينعت بمرشح الفقراء، وأحد أكبر داعمي السبسي في الانتخابات الرئاسية عام 2014، والذي تحوم حوله شبهات بالفساد، وكان القضاء التونسي قرر في يوليو الماضي، منعه من السفر وتجميد أصوله البنكية، وتوجيه تهمة ب “تبييض الأموال” إليه،… أما من حيث المعيار السياسي، ونعني بالأساس الاصطفاف والتموقع تجاه “ثورة 2011″ ومطالبها، فيمكن القول بأن معسكر أنصار الربيع العربي هم الأكثر تضررا من هذا التشتت في الترشيحات والذي قد يصنع مفاجأة، لا قدر الله، تُسقط جميع مرشحيه في الدور الأول. وهناك معيار السن، وقد فشل فيه كل مرشحي أنصار الثورة الذين تقارب أعمار مرشحيه السبعين سنة (المرزوقي: 74 سنة، مورو:71 سنة، الجبالي: 70 سنة، الهمامي: 69 سنة) وإن كان التركيز بخصوص هذا المعيار يقتصر على مرشح حركة النهضة لاعتبارات سياسوية محضة من طرف المتضررين من ترشحه، بينما توفق المعسكر الآخر في تقديم مرشحين شبابا (يوسف الشاهد: 44 سنة، نبيل القروي: 56 سنة، عبير موسى: 44 سنة). وبخصوص معيار الجنس، فشل كذلك معسكر أنصار الربيع العربي في تقديم مرشحة، بينما توفق المعسكر الآخر في تقديم عبير موسى. لماذا فشل المعسكر الثوري، الذي قاد تجربة الترويكا بنجاح نسبي، في تقديم مرشح مشترك؟ هل هو نقص في الوعي السياسي بمتطلبات المرحلة أم هو الغرور السياسي؟ أم هو سوء تقدير سياسي فقط؟ أم هي تداعيات الانتخابات الرئاسية السابقة التي خذلت فيها حركة النهضة المنصف المرزوقي ما تزال تخيم على المشهد التونسي؟ في حوار مع فرانس 24 يوم 20 ماي، استبق راشد الغنوشي الزمن وأعلن نية حركة النهضة دعم مرشح توافقي لم يسمه، ولكنه تحدث عن أهم مواصفاته حين شبهه ب”العصفور النادر”. ولم تمر مدة طويلة حتى جاء الرد بشكل غير مباشر من طرف منصف المرزوقي في حوار مع الجزيرة ببرنامج “بلا حدود” يوم 12 يونيو تحاشى خلاله الجواب عن سؤال طلب دعم النهضة معبرا أنه “يغرد خارج السرب”، وبأنه لا يومن “بالعصافير ولا بالدواجن”، ومعلنا أنه سيكون مرشحا لتكتل “المشترك الوطني” الذي يضم قيادات “حزب البناء الوطني” الذي يتزعمه رياض الشعيبي المنشق عن حركة النهضة، بل إنه تهرب، بطريقة تحمل أكثر من رسالة، من الجواب صراحة عن سؤال مباشر للمسير حين سأله عن موقفه إذا طلب منه الغنوشي أن يكون ذلك العصفور النادر. وكان هذا أكبر شرخ طال هذا المعسكر إن لم يكن هو فقط مظهر من مظاهر استحالة التوافق بين الطرفين. وشخصيا، أرى أن المرزوقي أخطأ الجواب، وخرجتُه الإعلامية تلك لم تكن موفقة ولم تكن في وقتها نهائيا لأنه لم يترك الوقت للمساعي النبيلة للتوفيق ولم تخدم أنصار دعمه من داخل حركة النهضة، وهو ما بدا جليا في أشغال مجلس شورى حركة النهضة. كما أن إعلانه الترشح بشكل منفرد وبدون تشاور مسبق وممثلا لتيار معين وليس لكل تيار الثورة غير مقبول من طرف قوة شعبية مثل النهضة سترفض حتما أن تحصر في اختيار واحد هو دعمه وأن تكون مجرد أصوات وحطب انتخابي. وطبعا هناك ترشيح حمادي الجبالي، الذي هو أشبه بترشح عبد المنعم أبو الفتوح في الانتخابات الرئاسية المصرية حينها، والذي استفز أكثر حركة النهضة. في مقال قادم نتحدث عن ترشيح النهضة لمورو وسياق ذلك، وهل هو تكرار لترشيح مرسي رحمه الله، ومكاسبه ومخاطره.