ليس هناك إلى حدود اليوم مثقف وكاتب أكثر إثارة من «إريك زيمور» الذي يباع كتابه الأخير «الانتحار الفرنسي» مثل شطائر الخبز الساخن. السبب وراء هذا النجاح وهذه الشهرة بسيط للغاية، إنه يتلخص في نقطة واحدة: تحميل مسلمي فرنسا المهاجرين مسؤولية الكارثة التي تتجه نحوها فرنسا. ولذلك فقد شبه «زيمور»، الذي نسي أنه بدوره ابن مهاجر يهودي جاء إلى فرنسا من الجزائر، في حوار له مع جريدة «كوريو دي لا سيرا» الإيطالية، إمكانية تهجير خمسة ملايين مسلم فرنسي بعملية تهجير خمسة ملايين ألماني كانوا مضطرين لهجرة ألمانيا بعد الحرب العالمية، وتهجير مليون فرنسي من الجزائر سنة 1960 نحو فرنسا. لا يحتاج المرء إلى موهبة خارقة لكي يفهم أن كتاب «الانتحار الفرنسي»، الذي يتم استقبال كاتبه في كل البرامج التلفزيونية الفرنسية والأوربية استقبال الأبطال، يدخل في إطار الحملة الصهيونية المنظمة ضد الإسلام كدين أولا، ثم ضد المسلمين ثانيا. ومن يقرأ كتاب جيسكار ديستان الأخير، الذي يحمل عنوان «أوربا: آخر حظ لأوربا»، يستنتج أن الخلاص الذي يبشر به «حكماء» فرنسا بالنسبة لأوربا المريضة، هو التخلي عن الدول الضعيفة، خصوصا تلك التي لديها عرقيات مسلمة، وتشكيل أوربا قوية مكونة من خمس دول تنتصر للعرق الأوربي المسيحي الخالص. هذا كله يعني أن أياما سوداء تنتظر مسلمي فرنسا بشكل خاص ومسلمي أوربا بشكل عام. وما هذه الآلة الإعلامية التي تحركت مفاصلها سوى إيذان بقرب حلول ساعة الصفر التي سيطلبون فيها من المسلمين جمع حقائبهم والتفضل نحو بلدانهم. علينا أن نتذكر أنه قبل قيام ألمانيا النازية بجمع اليهود في معسكرات ومعتقلات من كل أوربا، قامت آلة إعلامية رهيبة ومنظمة بتسهيل المشروع الألماني لهتلر، وذلك بتصوير اليهود كسبب رئيسي للأزمة الاقتصادية التي كانت تعيشها الدول التي كانوا مستقرين بها. وهكذا عندما دك هتلر أوربا تحت قدميه، سلمته الدول يهودها ولم يحرك ذلك في نفوس الأوربيين أي شعور بالرأفة أو الشفقة تجاههم. فقد كانوا جميعهم يرون أن ثراء اليهودي هو سبب بؤس المسيحي. هذا ما يحدث للمسلمين اليوم على يد الإعلام الأوربي اليميني، فالدعاية اليمينية تصور المهاجرين المسلمين اليوم في الإعلام كلصوص يسرقون خبز الأوربيين من أفواه أبنائهم. ومثلما تكفلت شركة «س.م.ن.س» بتزويد «الغيستابو» بالبيانات الإلكترونية الكاملة حول اليهود وعناوينهم وصورهم، مما سهل عملية اعتقالهم، تقوم اليوم بالشيء نفسه مع العرب والمسلمين شركة «طاليس» التي تجمع بيوميتريا بصمات وبيانات كل المسلمين والعرب، وتضعها في «مركز الأمن القومي الأوربي» بوارسو عاصمة بولندة، والذي دشنه «فرانكو فراتيني» عندما كان مكلفا بحقيبة الأمن بالمفوضية الأوربية. ولعل اجتماع وزير الداخلية الفرنسي السابق «بريس أورتوفو» في مدينة «فيشي»، سيئة الذكر، عندما كان مكلفا بحقيبة وزارة الهجرة والاندماج مع نظرائه في الاتحاد الأوربي لتدارس القوانين الجديدة التي ستفرض على المهاجرين، يحمل دلالة تاريخية خاصة، ففي تلك المدينة بالضبط تم تعيين حكومة «فيشي» التي تعاونت مع هتلر وسلمت يهود فرنسا إلى معتقلات النازية بعد أن شحنتهم في القطارات. إنه التاريخ يعيد نفسه، لكن بضحايا آخرين سيكونون هذه المرة هم المسلمون وليس اليهود. ومن يريد أن يفهم هذه الحقيقة التاريخية عليه أن يقرأ مظفر النواب، خصوصا قصيدته التي ينبئ فيها قائلا «سنصبح يهود التاريخ ونعوي في الصحراء بلا مأوى». يحدث هذا رغم أن المسلمين تفوقوا في إحصاء أعلنت عنه كنيسة الفاتكيان ولأول مرة في التاريخ عدديا على المسيحيين الكاثوليكيين، مرجعة سبب هذا التفوق إلى ارتفاع نسبة المواليد عند المسلمين. وبفضل هذا «النشاط» الجنسي، الذي نساهم به نحن المسلمين في تكثير «سواد» الأمة، وصل عددنا إلى مليار مسلم فاصلة ثلاثة على وجه الكرة الأرضية. لا أعرف لماذا عندما سمعت نتيجة هذا الإحصاء وخبر هذا «التفوق» العددي على أصحاب الكتب السماوية الأخرى من يهود ونصارى، ورأيت أمواج الحجاج المتلاطمة بملايين أثواب الإحرام حول بيت الله الحرام، تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال للصحابة مستشرفا حال أمته بعد موته بقرون طويلة: «ستداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا أمِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت». هذا الحديث الشريف ينطبق حرفيا على حال المسلمين اليوم. فنحن، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، كثيرو العدد ونتكاثر مثل الجراد. وفي الجزيرة العربية، حيث ظهر الإسلام غريبا أول مرة، يوجد أحد أهم مصادر الطاقة في العالم. وفي ظرف الثلاثين سنة الأخيرة، تحول الحفاة العراة رعاء الشاة إلى أثرياء يتطاولون في البنيان. وأصبحت الجزيرة العربية القاحلة الجرداء، التي كانت تذرعها قوافل النوق والجمال، حدائق غناء تتوسطها الأبراج العائمة التي يخترق طولها عنان السماء. وبعدما كانت قبائل العربان تمتطي الخيول والمهور سعيا وراء الظباء والغزلان لصيدها والعيش على لحومها، أصبحت العربان اليوم تذرع رمال الصحراء ممتطية سيارات «الهامر» أمريكية الصنع بحثا بأجهزة «الجي بي إس» كورية الصنع عن طيور الحبار للتسلي بصيدها. ورغم توفر كل هذه الثروات في جزيرة العرب، ورغم تحكمهم في أسهم البورصات العالمية بفضل إنتاج النفط، فإنهم عاجزون حتى عن إنتاج المواد الغذائية التي يقتاتون عليها. وبفضل أموال النفط صاروا عاجزين حتى عن العمل. وفي قطر وحدها، يوجد بفضل عائدات الغاز الطبيعي، ثلاثة أجانب في خدمة كل مواطن قطري. وفي الجزائر، أول مصدر للغاز الطبيعي في العالم، لا يمكن أن تعثر على شاب واحد لا يفكر في مغادرة الجزائر نحو أوربا. الجزائر التي عندما تراكمت الأموال على خزائن الدولة بفضل عائدات صادراتها من الغاز، لم تجد شيئا آخر تستثمر فيه هذه المليارات من الدولارات سوى تسديد ديونها كاملة للبنك الدولي، مع أن أغنى الدول في العالم لم تفكر يوما في تسديد ديونها كاملة لهذا البنك رغم توفرها على أضعاف السيولة التي اجتمعت للجزائر من أموال الغاز. ورغم كل هذه الثروات الكبيرة التي حبانا الله بها في هذا العالم الإسلامي، ورغم هذه الثروة البشرية التي تجاوزت المليار مسلم، لازلنا نفر من بلداننا الإسلامية كما تفر النوق من الجمل الأجرب. وهكذا نرى أننا لم نعد خير أمة أخرجت للناس وإنما أصبحنا خير أمة أخرجت من بيوتها نحو بلدان الناس. وهكذا، فالذين ظهر فيهم دين الرحمة أصبحوا هم أصحاب أكثر القلوب قسوة في العالم، والذين ظهر فيهم نبي السلام أصبحوا هم أكثر الشعوب نزوعا نحو التقاتل ونهش بعضهم البعض. وأصبحت أمة «اقرأ» هي أمة «ما أنا بقارئ»، فبينما يقرأ كتابا واحدا 500 بريطاني، يقرأ في العالم العربي الكتابَ الواحدَ حوالي 12 ألف عربي. وخلال ال35 عاما الأخيرة من حكم هؤلاء الرؤساء الخالدين في العالم الإسلامي، ارتفع عدد الأميين في أمة «اقرأ» من 50 إلى 70 مليونا. وفي الوقت الذي ترفض فيه بعض الدول الإسلامية الترخيص للبنوك التي لا تتعامل بالربا، نرى كيف أن فرنسا وإنجلترا ودولا علمانية أخرى بدأت تقرر شُعَبا متخصصة في جامعات اقتصادها في الاقتصاد الإسلامي، ومنها ما بدأ بالترخيص لهذه البنوك بالعمل. أكثر من ذلك، هناك من اقتنع بأن النظام البنكي الإسلامي هو الحل للجم الرأسمال الجشع. والنتيجة هي أن المسلمين فروا هاربين من بلدانهم إلى أوربا وأمريكا وتشردوا على سائر بقاع العالم كما تشرد اليهود من قبلهم. وها هو العالم اليوم يعيش أزمة اقتصادية خانقة كتلك التي عاشتها أوربا قبل تغوّل النازية. والمشجب الذي يريد اليمين العنصري المتطرف في الغرب أن يعلق عليه اليوم أزمته ومشاكله، هو العرب والمسلمون. فربط الإعلام صورتهم بالإرهاب والإسلام بقطع الرؤوس والدولة الإسلامية، وأصبحت اللغة العربية مشبوهة، فبدأت المضايقات والاستفزازات والتلميحات إلى أن المشكلة تكمن في طريقة تفسير المسلمين للإسلام، إلى أن وصلنا اليوم إلى حد أصبحوا معه يقولون صراحة إن المشكلة ليست في المسلمين فقط بل في الإسلام كدين. المثير في الأمر أن اليهود الصهاينة، الذين تعرضوا على يد النازية للاعتقال والإبادة في المعسكرات، هم من يحرض الغرب على طرد العرب والمسلمين من بلدانهم، عبر الإعلام الذي يتحكمون في دواليبه، وعبر السينما التي يصورن فيها المسلم مرادفا للإرهابي السفاك. فهل سيفهم المسلمون أن دورهم قد أتى لكي يكونوا يهود التاريخ، أم أنهم سيفسرون كل هذه المؤامرات التي تحاك ضدهم كمصادفات تاريخية لا غير؟