هناك من اعتبر الحكم الصادر من المحكمة الإدارية بالرباط ضد الدولة المغربية لصالح الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والقاضي بتغريمها عشرة ملايين سنتيم بسبب حرمان الجمعية من استغلال المكتبة الوطنية، نصرا قضائيا يحسب لصالح استقلالية القضاء في بلادنا. وهناك من سيعتبر الحكم حقنة منشطة تنشب في ذراع هذه الجمعية التي مدها وزير العدل بمنحة سخية من ميزانية الوزارة واتهم جميع الولاة والعمال الذين يمنعون أنشطة الجمعية بالاشتغال خارج القانون. والواقع أن حربا ضروسا تدور رحاها بين الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والدولة المغربية، وأكبر تداعيات هذه الحرب خروج الوزير إدريس الضحاك بتقرير مثير حول الدعم الذي تتلقاه الجمعيات من الخارج، وإفلات هذه الجمعيات من المراقبة الضريبية على المنح التي تستفيد منها. وسيكون من باب التجني على مطالب الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، عدم الاعتراف لها بمطلب تقرير المصير بالنسبة للصحراويين، ومطلب إسقاط الملكية وتعويضها بالنظام الجمهوري، ومطلب حذف كل ما يمت للإسلام بصلة من الدستور والقوانين المغربية، وتعويضها بقوانين علمانية لا دينية تعطي للأقليات الجنسية، أي المثليين والسحاقيات والمتحولين جنسيا، حقوقا قانونية تبدأ بالاعتراف بهم وتنتهي بمنحهم حق الزواج وتربية الأبناء كما هو حاصل اليوم في بعض دول أوربا. وكما يظهر فهذه المطالب ليست مطالب جمعية حقوقية، وإنما مطالب حزب سياسي يريد توفير الأسباب الكاملة لإيقاد الثورة الشعبية التي ستسقط النظام الملكي الذي تعتبره أصل المشكل في المغرب، من أجل أن يحكم هذا الحزب ويطبق مشروعه المجتمعي الذي يدافع عنه. إنها بمعنى آخر مطالب حزب النهج الديمقراطي يتم تصريفها عبر ذراعه الدعوية التي ليست سوى الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. ومن أجل تحقيق هذه الأجندة السياسية ذات اللبوس الحقوقي، يحتاج الحزب إلى الأموال الضرورية والكافية، وبما أن مداخيل الحزب من الانخراط والدعم العمومي منعدمة، فإن الحل لضخ الأموال يبقى هو حسابات الجمعية البنكية. وإلى حدود اليوم استطاعت الجمعية أن تضمن ما بين 2006 و2014 مدخولا ماليا لا يقل عن 29 مليون سنتيم في الشهر، أغلبه قادم من دول أوربية متعاطفة وحاضنة لجماعات البوليساريو، كإسبانيا التي منحت الجمعية 937 مليون سنتيم، وهولندا التي منحتها 738 مليون سنتيم، والولايات المتحدة التي منحتها 141 مليون سنتيم، وفنلندا التي منحتها 87 مليون سنتيم، والنرويج التي منحتها 75 مليون سنتيم. مناضلو حزب النهج الديمقراطي، المتشبعون بأفكار «إلى الأمام» التي عادت «إلى الوراء» بعد سقوط جدار برلين قبل أن تنتعش اليوم مع عودة الحرب الباردة، يعرفون أن الشعب المغربي لن ينساق وراء مبادئ الحزب اليساري الراديكالي ومعاركه ضد الدين ووحدة الوطن والنظام الملكي، لذلك فهم يستعملون الجمعية المغربية لحقوق الإنسان كحصان طروادة لخوض معاركهم ضد هذه الأساسات الثلاثة التي تضمن الاستقرار بالمغرب. وإلى حدود اليوم، يجب أن نعترف لحزب النهج بقدرته على اختراق، عبر حصان طروادة، «نقابة الاتحاد المغربي للشغل» و«الكونفدرالية المغربية للشغل» و«الاتحاد الوطني للمهندسين المغاربة» و«الاتحاد الوطني للمتصرفين المغاربة» و«النقابة الوطنية للتعليم العالي». وهي كلها قطاعات مهنية حساسة يبحث الحزب الراديكالي عن تفخيخها من أجل تفجير الأوضاع داخلها في الوقت المناسب عندما يحين أوان «الثورة الشعبية» الموعودة. ولذلك، فعندما نعود لمراجعة مواقف الجمعية من المواضيع الحساسة بالنسبة للمغاربة، كالمثلية الجنسية والمساواة في الإرث وعقوبة الإعدام، إلى غير ذلك من المواضيع التي تمس الحياة الدينية والاجتماعية للمغاربة، نجد أن مواقف الجمعية تتماهى مع مطالب المنظمات العالمية المدافعة عن العلمانية والحرية الدينية والجنسية. وبالنسبة لوضعية الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، التي أعلنت مقاطعتها للمنتدى العالمي لحقوق الإنسان الذي سيقام بمراكش نهاية هذا الشهر، فإن قطب الرحى في صراعها مع الدولة يتمحور حول الموقف من قضية الصحراء تحديدا، وبدرجة أقل الموقف من الإسلام والملكية. ولعله من حسنات التحولات المتسارعة التي يعرفها ملف الصحراء المغربية، هي أنها أظهرت تحولا جذريا في تعاطي الدولة والمجتمع معا مع قضية وحدتنا الترابية، إذ أنها أعادت ترتيب وضع كانت فيه القضية شأنا داخليا خاصا بالدولة، لا تملك الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني إزاءه إلا مباركة جميع الخطوات المتخذة، على شكل عبارات نمطية متكررة في بيان سياسي أو تقرير حزبي. لكن الخطاب الملكي لهذه السنة بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، حمل مستجدا مهما، هو توضيح مختلف دوافع دفاع المغرب عن وحدته الترابية، بلغة واضحة لا لبس فيها، وهي أنها مسألة وجود وليست مسألة حدود. لذلك حَمَّل الخطاب الفاعل السياسي والجمعوي والنقابي المسؤولية الكبرى، في تأطير المواطنين لخلق رأي عام وطني يعي خطورة المرحلة التي تمر منها القضية، خصوصا مع تناسل مواقف تنتظم في إطار جمعوي تلعب على الحبل الحقوقي لكنها لا تختلف في عمقها مع أطروحة النظام الجزائري، بشكل تعيد فيه الجمعية تجربة نقابة هي «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»، والتي تحولت في مؤتمريها الأخيرين قبل حلها، إلى حزب سياسي غير معلن، وها هي الجمعية اليوم، تعيش ازدواجية في هويتها هي أيضا، عندما أضحت منبرا يتم فيه التعبير عن مواقف سياسية صرفة في لبوس حقوقي بحزب ولا تليق بجمعية، وإلا ما علاقة حقوق الإنسان بموقف الجمعية من النظام الملكي والإسلام والوحدة الترابية؟ قد يعتقد البعض أن هذا الموقف من الجمعية، يقتصر على ما يسمى بالتيارات الحزبية المسماة إصلاحية، لكن هناك أحزابا ذات مرجعية يسارية واضحة لها نفس الموقف من الجمعية، فكل المنتمين لهذه الجمعية من غير المنتمين لحزب النهج، يعانون من الإقصاء الممنهج الذي يمارسه تيار عبد الحميد أمين ومن يدور في فلكه في حقهم. ولنرجع إلى انتخابات المؤتمرين، والتي أقيمت في الفروع قبيل المؤتمر الأخير، لنندهش بالطريقة غير الديمقراطية التي يدير بها هذا التيار كل انتخابات لكي يحافظ على سيطرته، سواء على أجهزة الجمعية، أو على الخطاب المنافي لكل ثوابت المغاربة. لذلك من الطبيعي أن تكون الجمعية مجرد واجهة لتصريف مواقف حزب النهج الديمقراطي، بعدما فشل هذا الحزب في تحويل نقابة الاتحاد المغربي للشغل إلى واجهة هي أيضا، لولا اصطدامهم بجدار يفوقهم صلابة هو موخاريق، ولو أنهم سيطروا عليها لتحولت هذه النقابة أيضا إلى منبر لا علاقة له بالعمل النقابي، بل منبر لتصريف مواقف الحزب. فالجمعية تتباكى على واقع حقوق الإنسان في المغرب، بل إن عقدة الاضطهاد أضحت ماركة مسجلة باسمها، ولكنها تمارس كل أشكال الإقصاء في حق مخالفيها. ولنتأكد من هذه الحقيقة المؤسفة، لنسأل عما يتعرض له أعضاء حزبي بنعمرو ونبيلة منيب في الهياكل التي يسيطر عليها حزب النهج الديمقراطي. وبعيدا عن الهجوم المجاني على الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وهي الرياضة التي أصبحت «وطنية» عند البعض، لنتكلم اللغة ذاتها التي تنسج بها الجمعية خطاب الاضطهاد الذي أضحت متخصصة فيه، فالجمعية تعارض النظام باسم الديمقراطية لكن هذا لا يمنعها من أن تتناعم مع أجندة النظام الجزائري، وهو النظام البوليسي العسكري، الذي لا يحق فيه لمواطنيه معرفة حقيقة صحة رئيسه، بل وتم فرض التصويت عليه دون أن يقوم بأية حملة انتخابية. والجمعية أيضا تدعي أنها تقدمية، وتعارض الفكر الليبرالي «الرجعي» في أدبياتها، لكنها لا تتردد في استعمال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو نتاج لفكر ليبرالي محض، في معارضة ثوابت المغاربة. المشكلة التي تخفيها الجمعية عن المتعاطفين معها، على قلتهم، هي أن القضية لم تعد في يد الصحراويين، حتى من باب الدعاية. فجميع التقارير الصحفية تشير إلى أن أغلب الاجتماعات المهمة، والتي يحضرها قياديو البوليساريو تنعقد في الجزائر العاصمة، بعد أن كانت في السابق قاعة للتحكم عن بعد، فيما الأنشطة التي تجرى في تندوف تبقى هامشية، كأي شيء في هذه الفيافي. فكل القياديين يقطنون رسميا في الجزائر العاصمة، فمنذ تنصيب الجنرالات لرئيسهم بوتفليقة، أضحت القضية الصحراوية قضية حيوية في النظام، أولا لأنها تتيح للجنرالات تحويل أنظار المواطنين عن الأزمات الداخلية وقضايا الفساد المتناسلة في كل القطاعات، عبر الحديث عن عدو خارجي يتأبط بالجزائر شرا، وهو المغرب طبعا، وثانيا لذر الرماد في عيون المنتظم الدولي، لتغطية الفشل الذريع في تحجيم الخطر الذي باتت تمثله التنظيمات الإرهابية في المغرب العربي والصحراء، مع تسجيل هذه التنظيمات لعمليات نوعية جدا، كان آخرها ذبح الرهينة الفرنسي وإرسال فيديو إعدامه إلى كل العالم ليكتشف حجم قصور النظام الجزائري في التعاطي وحده لهذه التنظيمات. والدليل الآخر على أن قضية الصحراء المغربية أضحت قضية رسمية للنظام الجزائري، هو أنه لا يخلو مقرر دراسي في التاريخ والجغرافيا لجميع المستويات الدراسية، لا يتم فيه تناول الرواية الرسمية، وتلقينها للتلاميذ على أنها حقائق نهائية، بل وتطرح هذه الدروس دوما في الامتحانات لإجبار التلميذ الجزائري على حفظ ما لقنوه إياه من «إيديولوجيا» في المقرر الدراسي. ومن الناحية الدبلوماسية، أضحى عبد العزيز المراكشي مقيما رسميا في وزارة الخارجية الجزائرية، حيث لا يزور مسؤول أجنبي الجزائر، مهما قل شأنه، إلا وتبرمج له الدولة الجزائرية لقاء مع المراكشي. وبالعودة للخطاب الملكي بمناسبة الذكرى التاسعة والثلاثين للمسيرة الخضراء، فهو خطاب قصد توضيح المفاهيم ووضع النقاط على الحروف، وقطع الطريق على كل الإرادات التي يستهويها الالتباس والغموض والمناطق الرمادية، فهو خطاب فصل المقال في قضية تواترت بها وفيها وعليها أنصاف المواقف على الساحتين الإعلامية والحقوقية المغربية، من طرف شرذمة من «هواة الموضات» وركوب الصيحات الإعلامية، إذ يكفي أن يحتل «حقوقي جدا» منبرا إعلاميا ليبدأ في اللعب على نوطة نشاز اسمها «حق تقرير المصير» وفق تأويل مخصوص يستهوي جنرالات العدو، مع أن هذا المفهوم يحمل حدودا منها مقترح الحكم الذاتي أيضا، ثم إن هذه الصرامة تستمد مشروعيتها من مفهوم السيادة، لذلك فحديث البعض بهذه النية أو تلك عما يسمى «بوليساريو الداخل» هو تشويه للحقائق وتكريس لسياسة الأمر الواقع التي ينهجها العدو الشرقي منذ سنوات، فالحقيقة التي يشوهها هذا المفهوم هي كونه إيديولوجيا تخفي حقيقة تستمد بياضها ونصاعتها من هذه السيادة، وهي أن «بوليساريو الداخل» تعني بالمغربية القحة «عملاء العدو في الداخل». ولأن قيمة الوطنية أضحت اليوم موضوع مناورة، أو لنقل بلغة الفلسفة أضحت قيمة سوقية للاسترزاق، فإن المسألة برمتها تستدعي اليوم يقظة ووعيا فطريا من طرف الجميع، لوضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، وتهميش كل الخلافات الحزبية والشخصية والفئوية، الواردة منها والشاردة، فالمشترك ينبغي أن يظل على بداهته. إن المنطق يستدعي النظر للحالات التي تصبح فيها قيمة الانتماء للوطن موضوع استعمال من طرف ذوات غير محترمة، أن تتحمل الدولة مسؤوليتها الكاملة في فرض الالتزام، فحيث يغيب الالتزام الذاتي للفرد بقيم المجتمع، تصبح الدولة ملزمة بتطبيق القانون والشرعية، أما لماذا علينا أن نقتنع بكون مشكلة الصحراء هي مشكلة لا تتعلق فقط بجهة تعتز بهويتها بل بوطن كله، مصمم على ضمان هويتها واعتزازها في إطار أشمل هو مغرب ديمقراطي حداثي، فإننا ننطلق من السؤال، أيهما أكثر عقلانية أن نسمح بكيان ميكروسكوبي عميل فاقد قبليا لكل شروط السيادة على أرض الصحراء، أم ندمج الهوية الصحراوية في مقاربة ديمقراطية حديثة اسمها الحكم الذاتي في إطار جهوية موسعة تشمل الوطن كله؟ إن الجواب البديهي هو أن قضية الصحراء هي أكبر من أن تكون قضية وجدانية لشعب يأمل استكمال وحدته الترابية، لتكون قضية عقل واستشراف مستقبلي لأمة صممت العزم على القطع مع نوع من السلطة المركزية لصالح سلطة لا مركزية منفتحة على الخصوصيات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية لجهات الوطن. فهذا هو مستقبل كل الدول التي تبحث لكي تحافظ على كيانها ضد التشتت والتشرذم اللذين يعتبران اليوم أخطر سلاح تستعمله القوى العالمية، بمساعدة الجمعيات التي تأكل من يدها، للتحكم في مصادر الطاقة والمعابر البحرية، أي باختصار للتحكم في العالم.