تمتلك المعرفة بشكل عام والفلسفية خاصة قيمة رفيعة لدى الانسان في الماضي واليوم، ذلك أنها تنتشله من بؤر الانحطاط والتخلف عبر آليات النقد وتقليب القضايا بغرض فهمها فهما عقليا دون التسليم بها بعمى وإدعان لا مبرر لهما منطقيا. إذ كيف يمكننا إقامة المعرفي والتأسيس له بين النكوص والتقدم الثقافي الفكري عبر سياقات مختلفة في زمن أضحى ينشد فيه الناس ويصفقون للتفاهة التي أعلنت عن ردة معرفية منقطعة النظير؟ وكيف أصبح الرديء يشكل النموذج لدى الشباب العربي والمغربي بخاصة؟. لم تعد المعرفة تحظى باهتمام الشباب العربي اليوم، ويرجع ذلك بالأساس لعدم انخراط المثقف في صناعة الوعي المجتمعي الرصين كما كان الحال في السابق، بحيث أصبح النموذج الذي يُحتدى عند الكثير من الشباب في عصرنا الحالي يَأخذ معياره من الإسفاف والبداءة لا الفكر والثقافة، ذلك أن عصر القراءة ولى إلى غير رجعة وبات في عِداد المؤكد أن ثقافة الصورة البديئة هي عنوان الحضارة والتحضر في مخيال الكثيرين. إنه لمن المؤسف غاية الأسف حقاً أن يعيش شباب الوطن العربي اليوم، ومنه المغربي على الخصوص تراجعا كبيراً على عدة مستويات، لا أريد تعدادها، ولكن يجب الوقوف عند أبرزها علنا نقيم تمايزات بين الرديء والقَيِّم وبين الحقيقي والمُزيف، بغاية توضيح الرؤية وكشف المستور وتبيان الفعل الانساني النبيل الذي ينبغي أن يُحتدى ويُتخذ كسلوك إجرائي يُبعد شبابنا اليوم عن ثقافة الرداءة وتشجيع القراءة عبر آليات منهجية تأخذ بعين الاعتبار ما نحن عليه اليوم من تخلف، للإندراج في عالم العلم والمعرفة كما هو الحال عند الأمم التي أخذت قصب السبق وتبوأت صدارة بلدان المعمورة. لا ينبغي التباهي بقيم الانحطاط والبؤس، لأن هذه الأمور، ولو أنها تبدو في ظاهرها بلباس الحداثة، إلا أن باطنها مُقرف للغاية، فشباب اليوم يُمجد المظاهر عبر الصورة وثقافة الفيديو خصوصا مع عالم الرقمنة، إذ باتت المحتويات التي تُعرض في مواقع التواصل الاجتماعي على كثرتها تُشجع ثقافة الإسفاف بدل ثقافة الفكر والمعرفة. وليس لنا من حل سوى لفت الانتباه لفئة المثقفين وتذكيرهم بأن القراءة والكتابة أساس بناء الانسان، ولن يكون ذلك ممكنا في غياب انخراط الفئة المثقفة في عديد المواقع بكتابة مقالات الرأي والفن وشتى صنوف الأدب من أجل ردم الهوة بين المعنى واللامعنى. إن الحركة الثقافية العربية اليوم في جمود وتعاني جرحاً غائرا، لا سبيل لاندماله إلا بفعل تشجيع شباب اليوم على القراءة وانخراط المثقف في صالونات الأدب وإنتاج خطابات تُحرض على المعرفة بشتى صنوفها، ومقت ثقافة ( البوز ) التي سيطرت على الكثيرين بشكل أضحى مؤلماً للغاية. لا أخفيكم سرا بأن المدرسة العربية اليوم، من الخليج إلى المحيط تُعاني مرضا عُضالاً من حيث النكوص المعرفي وتدني مستويات التعليم والتعلم، مقارنة مع الأجيال السابقة، الشيء الذي بات يبعث على القلق والقرف ويدق ناقوس الخطر، أقول هذا الكلام؛ ولي من المبررات ما يدحض عكس ما جئت به. لا أريد التشفي في شبابنا اليوم، بقدر ما تُحركني الغيرة على أبناء بني جلدتي بأن نضعهم على مشرحة التشخيص، وكما يُقال: إن بداية الإستشفاء حُسن تشخيص المرض. يتبع…