يشكل النقد حسب نيتشه فن اختراق الأقنعة وذلك بالنظر إلى العلامة باعتبارها مادة سيميولوجية قابلة للتأويل، واللغة كلها علامات ورموز تدل وتعني بتعبير من استعملها وكذلك تبعا للقوى التي أنتجتها ،لذلك يُعد التفلسف عند نيتشه نقداً سيميولوجياً يأخذ اللغة أداة له، من حيث أن اللغة كلها علامات ورموز ذات دلالات تتلون وفق مواضع الكلم. ولما كان النقد فن للتأويل أيضاً، بحيث يعمل على إرجاع النموذج إلى الأصل الذي قام بتأسيسه داخل تراتبيات قيمية مضبوطة، ولأن الترتيب نفسه يخضع لصراع القوى من أجل تصنيف المعاني، فإن النقد النيتشوي يصبح بتعبير "ميشال فوكو" حفر وتشريح لما يؤسس لتاريخ المعنى والحقيقة أو حفريات المعرفة. يقول نيتشه في هذا الصدد: " ليست قيمنا إلا تأويلات أقحمناها في الأشياء، هل يمكن أن يكون هناك معنى في ذاته؟ أليس كل معنى نسبيا، أي منظورا؟ كل معنى هو إرادة قوة." إن النقد لدى نيتشه لا يمكن فهمه فهما عميقاً إلا عبر استلهام وتتبع خطوات المنهج الجينيالوجي؛ بحيث أن الجينيالوجيا حسب فريدريك فلهلم نيتشه لا تنظر إلى الميتافيزيقا كمعرفة، فَهَمُّهَا ليس هو البحث عن الحقيقة وتاريخها وإنما هَمُّها في المقام الأول هو البحث عن إرادات الحقيقة، فالميتافيزيقا عندها أخلاق ولغة ولما كانت الأخلاق هي النظرية التي تخص التراتب بين البشر، وبالتالي فإنها نظرية حول قيمة أفعال هؤلاء البشر أنفسهم وفق ذلك التراتب الذي يتدرجون داخله، وهذا ما نجد له صدى في كتابه "إرادة القوة". حيث يقول نيتشه: " كثيرون هم أولئك الذين يصعدون حتى في نزولهم." فما دامت الميتافيزيقا أخلاق، فإنها لا تنفلت من النقد الجينيالوجي الذي يعتبر أن إنتاج الحقيقة لا ينفصل عن مفهومي القيمة والقوة، فقيمة شيء ما في هذا الوجود متوقفة على المعنى الذي نعطيه إياه. وعليه، فأصالة نيتشه تكمن في كونه لا يريد مجاوزة الميتافيزيقا بميتافيزيقا أخرى أو تفنيذ هذه الأخيرة تحت دريعة رفض الحقيقة، فهو لا يرفضها إطلاقا، وإنما يرفض فصل الحقيقة عن الخطأ فصلا وضعياً، إذا فالنقد الجينيالوجي حسب ما سلف هو خلخلة وتقويض، ووسيلته في ذلك هي المطرقة، ولكن أي مطرقة هذه؟ إنها مطرقة الطبيب، هكذا يمكن القول بأن نيتشه فيلسوف وطبيب للمجتمع في الآن نفسه. و يبدو هذا واضحا عندما كان مدرسا بأرقى الجامعات بسويسرا خلال القرن 19م وبالتحديد جامعة بازل، ولما تم استجوابه عن السنوات التي قضاها مُدرسا هنالك فأجابهم " أستطيع أن أُروض كل دُبِّ و أجعلُ من الحمقى أناساً مُؤدبين، ومن أكسل الكُسلاء أناساً مُجتهدين، فخلال السنوات التي قضيتها في بازل لم أُعطِ عقوبة قط." لماذا وجب بحسب نيتشه ممارسة النقد والجينيالوجي تحديدا؟ لأن هذا النوع من النقد يعمل على إزالة ورفع الأقنعة عن الانسان، وهذا الأخير يُغريه الظهور بغير حقيقته لسبب بسيط، أنه لا يفضل سماع الحقيقة مخافة أن تتحطم عليها أوهامه، ولما كان الناس يستبطنون اللغة وما تحمله من معاني التضاد داخل منطوقها، فإنهم يخفون حقيقة الأشياء و يُعلنون الجانب المزيف لديهم كأضاد للحقيقة ذاتها، من هنا، أعلن نيتشه، بأن الوعي هو أكبر درجات السطحية والتقعر لدى الانسان، والدليل على ذلك يبدو واضحا حينما قال: " أنا في انتظار مجيء طبيب فيلسوف يدفع بأفكار كُنتُ أشك فيها." ففي أي شيء كان يُشكك نيتشه؟ لقد شك في مُعطيات ونتائج الوعي، ذلك أن مقولته السالفة الذكر، أنبأت بما لا يدع مجالاً للشك، بأن قدوم الطبيب الفيلسوف لن يكون إلا عالم النفس التحليلي سيغموند فرويد الذي عمل انقلاباً جذرياً على مفهوم الوعي معتبراً إياهُ جزءاً ضئيلاً من الجانب الخفي اللاوعي، حيث يشكل هذا الأخير جانباً لا منطقياً لامكانياً لازمانياً، ويخضع لمبدأ اللذة الجنسية الليبيدو (Le Libido). تلك الطاقة الحيوية التي تُعطي للجسد غرائز الحياة؛ أي الإيروس في تضاد مع غرائز الموت؛ أي التاناتوس. يتبع….