يعد كتاب: التواصل – نماذج ورهانات للدكتور المصطفى عمراني ، الأستاذ والباحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – فاس سايس ، من أهم الكتب التي خاضت في قضايا خطاب التواصل ورهاناته ، عمل فيه المؤلف على الاشتغال على نماذج معرفية بحكم أنها ( تؤطر العمليات التواصلية بدءا بأنساق التواصل اللسانية وغير اللسانية ) . (1) مبرزا بأن الأنساق اللغوية وغير اللغوية سيرورات تواصلية تؤسسها مرجعيات سيكولوجية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية ، حيث تنتفي المسافات ويتقلص الزمن ويندمج الإنسان في توليفات اتصالية لانهائية ، من حيث ارتباطه بنسق من العلاقات المتشابكة والمعقدة ، وهو ما جعله ينطلق في مؤلفه من مناقشة العديد من القضايا والإشكاليات انطلاقا من مفهوم التواصل كظاهرة وجودية إنسانية وكنظرية تأملية لكل أنواع مظاهر السلوك الإنساني وكتنظير ابستمولوجي حديث أيضا ، كما ناقش أنظمة التواصل اللساني وغير اللساني وسيكولوجية التواصل ورهان بناء الذات ، وسوسيولوجية التواصل ورهان التأثير في الآخر وانثربولوجية التواصل ورهان الحوار الثقافي . يتأسس التواصل في بناء خطابه انطلاقا من سياقات سيكولوجية ، لان التواصل يقتضي تبادل الأحاسيس والمقاصد والأفكار والوحدات الثقافية ،فما يتم تمريره داخل السيرورة التواصلية هو التمثلات représentations وليس الرسائل بحكم أن العملية التواصلية لاتنفك عن الوضع الاجتماعي والثقافي الذي أنجزها لسانيا أو عبر أشكال لغوية مصاحبة Paralinguistique ، كما يتمظهر التواصل في كل مظاهر الحياة الإنسانية ، كأدوار تواصلية ، بنتها متغيرات وتحولات الواقع وبأشكال متعددة ، بدأت من خلال أسئلة علاقة اللغة بالأنظمة السيميائية وهو ما جعل الباحث ينطلق من أسئلة جوهرية من مثل : ( هل بالإمكان الحديث عن أنظمة دالة بمعزل عن اللغة الطبيعية ؟ وهل يجب أن تترجم هذه الأنظمة غير اللسانية إلى اللغة الطبيعية لتكتسب دلالتها ؟ )( 2 ) ، فاللسان يتميز عن الأنساق الأخرى بمكونين: دلالي وسيمويطيقي ، عكس الأنساق الأخرى ، وهو ما يمنحه ما يسميه الباحث، بالسلطة التأويلية التي يستمدها باعتباره مؤسسة اجتماعية ، لا تخضع لإدارة الفرد ، بالإضافة إلى خاصية الخطية Linéarité ، التي تميزه عن باقي الأنساق الخارجية غير اللسانية ، والتي تعني أن الدليل اللساني ذو طابع متلاحق، يرسل و يستقبل ليس في آن واحد ، وإنما يتم ذلك بصفة متعاقبة على المحور الزمني. وعليه لا يمكن إحلال وحدتين لغويتين في نفس الموقع في مدرج الكلام . ويرى الباحث، ان اعتماد الأنساق غير اللسانية ، كرهانات تواصلية ، حاضر بقوة من خلال نماذج متعددة ، بما انها تنظم السلوكات الإنسانية اليومية، لان ذلك يرتبط بسقف النسق اللغوي كما يرى رولان بارط ، فاللغة ليست هي التي تمدنا بالمعنى فقط ، مما يعني أن أنظمة العلامات اللسانية وعير اللسانية ، لا تستمد إحداها دلالتها بمعزل عن الأخرى ، ما دام أن أنظمة التواصل اللساني، تفترض الحديث عن أشياء المجتمع ، ومادام أيضا أن العلامات غير اللسانية، تستوجب استحضار اللسان، الذي يؤولها لتكتسي طابعا ترميزيا، داخل سنن ثقافي معين . وبخصوص اللغة بين التواصل واللاتواصل، فيرى الباحث ، بان اللغة يمكن أن تلعب من الناحية الوظيفية، أدوارا مزدوجة ، تتحول من طبيعتها الأصلية كوسيلة تواصلية ، إلى آلية من آليات الغموض والالتباس ، ما دام ان الاختلاف شرط التواصل ، متسائلا عن أسباب ذلك( هل هي بنيات تحكمها جدلية الخفاء والتجلي من حيث أن اللغة التي يتداولها الناس لا تكون دائما واضحة ، بل غامضة وملتبسة ، بمعنى هل اللغة أثناء التواصل هي أداة للكشف والبوح أم أداة للإخفاء والمناورة ؟ وكيف تمارس اللغة لعبة الخفاء والتجلي وهي تحقق تارة التواصل وتارة أخرى اللاتواصل؟)( 3 ) . وعن سيكولوجية التواصل ورهان بناء الذات ،يناقش الباحث تداولية مفهوم التواصل في الأدبيات السيكولوجية ، التي تعكس علاقات الإنسان بذاته وبمحيطه ، فهو لا يبنى من خلال ذهنيات فارغة ، فبناء الذات يمر بمراحل عديدة من اجل تمثل العالم ، أي من خلال التمثلات السيكولوجية ، التي تأتي من خلال الحواس والخبرات السابقة، والبيئة والدور الاجتماعي والقيم الثقافية والميول الكامنة لدى الفرد وهو ما يبني ما يسميه بالشبكة التأويلية وهي ( حصيلة المعلومات والمعرفة التي اكتسبها الفرد من خلال تفاعله مع المجال الإدراكي )( 4). وعن الإدراك كفعل تواصلي ، وهي نظرية أبدعها الألماني الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ، حيث يعيد بناءَ مفهومِ العقل الذي لا يستند إلى مصطلحات مفيدة أو موضوعية، بل إلى فعل تواصليّ تحرّري بغاية تأسيس فهم معياريّ في عملية إدراك الآخرين ، عمل المؤلف ، على رصد المراحل الثلاثة للإدراك وهي : مرحلة اختيار عناصر الأخبار ومرحلة التنظيم ومرحلة التأويل / التقييم ، مبرزا أن (الإدراك الجديد يأتي من وعي الذات بنفسها ثم بمحيطها لان ، التواصل على مستوى الإدراك لا يتم بشخص صحيح إذا كانت نظرتنا للآخر تتمظهر فقط من خلال رؤيتنا للعالم ومن خلال ثقافتنا ، وإنما أيضا من خلال التشكيل الواعي لمجال إدراك الآخر ، لان هذا التشكيل الواعي يشكل قاعدة أساسية نحو كل علاقة تفاعلية وتواصلية محتملة يمكن أن تحدث بين الأنا والآخر. ) ( 5). وعن سيكولوجية التواصل من الوحدة إلى التعدد ، ينطلق المؤلف من تداولية مفهوم السيكولوجيا في النظريات السيكولوجية الحديثة ، في ظل العديد من الوظائف والنظريات ، التي تخص الفرد في تواصله بذاته أو بالآخرين ، من خلال توازناتها أو اختلالاتها ناقش فيها وضعية الإنسان بصيغة المفرد في نظرية التحليل النفسي و الإنسان بصيغة الجمع في نظرية التحليل التفاعلاتي ، حيث حالات الأنا المتعددة وانسجامها مع السياقات الأخرى لان نجاح كل عملية تواصلية( رهينة بعملية إخراج جيد لإحدى حالات (الأنا الثلاث) الطفلية أو الراشدة أو الوالدية التي تتفاعل مع مواقف حالات الأنا المركبة عند ذات أخرى .) (6). وعن الرهانات السيكوسوسيولوجية للتواصل ،يرى المؤلف بأنها عديدة وتعود إلى أسباب سيكولوجية وتتأسس على أربعة مقولات رئيسية وترتبط بالرهانات المرتبطة بالهوية والرهانات الموطنية والرهانات العلائقية والرهانات المعرفية ، فالهوية رهان للتواصل تأتي من خلال الحضور القوي لمؤشراتها المتعددة الشخصية والاجتماعية سواء من خلال التفاعل مع الآخر أو من خلال رغبتها في تأكيد الذات لان ( تفاعلات الحياة اليومية والصور التي تعكسنا ، تبدأ تتكون شيئا فشيئا الصورة التي نضعها لأنفسنا : فإبراز الذات وتقديرها ينتج عنه في جانب كبير صورة عن الآخر …. .)(7) . أما عن الرهانات الموطنية فتناقش مسالة العلاقات التواصلية من موقع المجال الشخصي كمجال سيكولوجي يحدد آليات التفاعل مع الآخر عبر ما يسميه كوفمان E. Goffman بمدخرات الأنا ، أم الرهانات العلائقية فتكعس رغبة الذات في الارتباط والاندماج بالآخر ، عبر مسافات تتحدد بما يسميه المؤلف بعدد من العلامات اللفظية وغير اللفظية ، أما الرهانات المعرفية أو رهان البحث عن التأثير فهي تحصيل حاصل للرهانات العلائقية التي كثيرا ما تبنى على الرغبة في التأثير على الآخر من اجل الإقناع والاستقطاب عبر ما يسميه بإستراتيجيتي السلطة وإستراتيجية الاثارة بحثا عن تموضع هوياتي ضمن السيرورات التواصلية التي تبنى على مرجعيات سوسيولوجية أو إيديولوجية لان التواصل ( هو تفاعل بين الأنا والآخر وبينهما المجتمع ، والمجتمع متجسد في اللغة وفي النسق غير اللغوي ، باعتبارهما السجل الحضاري والثقافي للمجتمع الذي يمارس عبره الأفراد التواصل والتفاعل والتشارك والتفاهم .. )(8) وعن انثربولوجية التواصل، فيناقش الباحث كيف أصبح التواصل أداة للثقافة كنسق متجدد من العلاقات الرمزية، تبني رؤيتنا للعالم انها تمثل ما يسميه امبرتو ايكو بالوحدات الثقافية او الوعي الجمعي بتعبير عالم النفس يونغ ، باعتبارها إطارا يشتغل وفق تماسك نظري ومنهجي ، بحكم ان الأنثروبولوجيا تدرس الثقافة كبنية والتواصل كسيرورة ، بغاية ( تعميق النظر في الاشكال والتمظهرات الثقافية والترميزية التي يقطعها الانسان الى وحدات لغوية وغير لغوية في محاولة لفهم العالم والتفاعل معه ) (9)، ليخلص الباحث معها الى مجموعة من الاطروحات التي تميز سؤال التلاقي ما بين الأنساق الثقافية و السيرورة التواصلية . الهوامش: * التواصل – نماذج ورهانات – الدكتور المصطفى عمراني – عالم الكتب الحديث – اربد- الاردن- 2016- ص 1 * نفسه :ص 7 * نفسه : ص19 * نفسه : ص30 * نفسه : ص42 * نفسه : ص52 * نفسه : ص57 * نفسه :ص70 * نفسه : ص 93