يسقط النظام الديمقراطي بعد أن ينعي عليه مسقطوه التلكؤ، ثم تعود الديمقراطية بعد أن يفعل التهور الثوري بالوطن ما يفعل؛ وهكذا يدور الوطن بين ديمقراطية تدّعي التأني بينما يصفها خصومها بالبطء، وشمولية تزعم الحسم بينما يصفها خصومها بالتهور. من أسباب هزيمة الديمقراطية في السودان أنها تحمّلت فوق طاقتها بكثير، حيث ينتظر منها أن تأتي بالحل السحري لكل مشكلة بدون أن يكون للشعب أي دور غير انتظار المنّ والسلوى، فيصاب الشعب بخيبة أمل لأن الديمقراطية قد صُورت له على غير حقيقتها، وقُدمت له كمثال لا يوجد إلا في الخيال. الديمقراطية التي تسع أصحاب الفكر الشمولي وخصومهم متفوقة بما لا يقارن على النظام الشمولي الذي لا يسع إلا أصحابه. ويكفي أن نشير إلى مثال واحد ساطع، فقد مكّنت الديمقراطية برحابتها سكرتير الحزب الشيوعي (المحلول) من الفوز بمقعد في الجمعية التأسيسية رغم قرار حل الحزب، ذلك لأن النظام الديمقراطي بطبيعته لا يمكّن أي قرار غير ديمقراطي من أن يكون فعالاً. ولما تمكّن التقدميون من الحكم في نظام شمولي، أقصى الرجعيين من الساحة، وكان مصير سكرتير الحزب الشيوعي الإعدام، ذلك لأن النظام الشمولي بطبيعته لا يمنح مساحة رحبة للاختلاف، فإما قاتل أو مقتول. هذه الديمقراطية برحابتها يضيعها أداء حزبي هزيل، لذا يجب وجوباً على القوى الساعية لاستعادة الديمقراطية ألا تؤجل مناقشة أخطائها بدعوى انشغالها الآن بإسقاط النظام. فقد كان من أقوى عوامل إسقاط الديمقراطية الثالثة ابتذال حقوق ديمقراطية أصيلة، مثل حق التعبير الذي تحول إلى تهاتر، وحق التظاهر الذي تحول إلى فوضى، وحق الإضراب الذي تحول إلى معيق للإنتاج. ولا تقف أخطاء القوى المعارضة عند أخطاء ظهرت أثناء فترتها في الحكم، بل وقعت في خطايا حتى خلال معارضتها للأنظمة الشمولية؛ ففي فترة المعارضة تظهر على المعارضين الديمقراطيين عيوب خطيرة، حتى أن بعضهم لم يتورع من ارتكاب فظائع الشموليين، مثل اعتقال المخالفين لهم في الرأي والزج بهم في (سجون المعارضة) كما حدث لمعارضين في أسمرا. كما طالت المعارضة منذ عهد مايو شبهات حول إدارة الأموال المخصصة لمقاومة النظام، الشيء الذي يطعن في حقيقة مقاصد المقاومين. كما ظهرت في مايو دعوات بين بعض المعارضين لتبني نظام الحزب الواحد. تأجيل مناقشة الأخطاء وتأجيل مناقشة الاختلافات الجوهرية سوف يضر بالديمقراطية القادمة. يأتي على رأس القضايا المؤجلة الموقف من حمل السلاح الذي استبانت سوءاته جلية في كل تجارب حمل السلاح، بما فيها الحركة الشعبية التي كانت بقرة مقدسة يستحيل المساس بها ولو بكلمة نقد واحدة.