لا تحس بمدى خسارة البلدة في مشرق العالم العربي إلا حين تزور المغرب وتلمس الفارق الكبير في مدى تطور البلدة المغربية وتراجعها في المشرق. البلدة في المغرب ملتقى حضري وليست مركزا سكانيا فقط. ثمة الكثير من العمران مما يلاحظ في كل ركن من البلد. ولكن هذا العمران، وهو يحاول أن يستبدل أحزمة الفقر السابقة، لا يهدف إلى انتهاك الشكل الإنساني للبلدة (وبشكل أوسع المدينة) ولا يسعى إلى تفكيكها. ما الذي يجعل البلدة شيئا متميزا؟ البلدات هي أساس التطور الحضري في التاريخ. المدن الكبرى ظاهرة معاصرة نسبيا، ما نشأت إلا بعد تطور وسائل النقل التي تستطيع أن توصل إلى المدن ما تحتاجه من سلع وخدمات. البلدات شيء آخر. هي المرحلة الوسطية سكانيا بين الريف والمدينة. ولكن هذا لا يمنعها ان تكون حاملة لأغلب مواصفات المدينة من دون العبث بمعطيات البساطة والسهولة والهدوء التي توفرها البلدة بالمقارنة مع المدينة. في الغرب، لا تزال البلدات شيئا نابضا بالحياة. يمكن أن تزور بلدة غيلفورد جنوب إنكلترا وتجد في واحد من حقولها القريبة معرضا للتماثيل بروح الفن المعاصر لا يقل ما يعرض فيه من رقي تشكيلي عن ذلك الذي تنتظر أن تراه في غاليريهات وسط لندن. لو قلبت موقع يوتيوب وبحثت عن درس أونلاين عن لغة برمجية متقدمة، لا تستغرب أن تجد أن من يقدمه هو مبرمج يعيش في بلدة برايدنتون في ولاية فلوريدا الأميركية. كثير من الفلاسفة عاشوا وماتوا في بلداتهم من دون أن يمنعهم هذا من النظر عميقا في حال المجتمعات والدول. لا تنتظر أن يكون مطعم البلدة الغربية أقل نظافة أو ترتيبا أو مستوى للخدمات من المدينة الكبيرة. المدن الكبرى في المشرق لم تستنزف الريف فقط من طاقة الزراعة وإطعام البلد، بل مسخت شكل البلدات التاريخية هناك وحولتها إلى أشباح لما كانت عليه إلى فترات قريبة نسبيا. المدن الكبيرة تريفت وانتهت منطقة تقاطع لأشكال الغضب من كل شيء، والريف أفرغ من سكانه وتصحر، والبلدات -المحظوظة منها- صارت حاشية سكانية بلا شخصية تقريبا. ما تبقي منها أتت عليه الحروب الأهلية أو الاضطرابات أو الإهمال. لا بد من القول أولا إن المغرب بلد المراكز الحضرية. كل مدن المغرب الكبرى هي عواصم: من طنجة وتطوان في الشمال، مرورا بالرباط والدار البيضاء وفاس في الوسط، وصولا إلى العمق في مراكش أو ساحل المحيط في أغادير. لكن هذا لم يمنع أن تكون بلدة أصيلة مركزا حضريا قائما بذاته. القرب من طنجة لم يجعلها هامشا لا يستحق الذكر كما هو حال المئات من البلدات القريبة من المدن الكبرى في المشرق. هناك موسم ثقافي في أصيلة مستمر منذ نحو 40 عاما. مرّ على أصيلة خلال هذه السنوات عدد كبير من أهم السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب والأجانب. مشهد أمين عام سابق للجامعة العربية أو رئيس حكومة سابق أو حالي أو وزير خارجية لبلد عربي، يتمشون في الحي القديم والقلعة هو مشهد مألوف لا يستغربه سكانها من الصيادين البسطاء. مهاجرون غربيون تركوا أعمالهم في أوروبا وجاؤوا ليفتتحوا مطاعم في البلدة الصغيرة. تستطيع البلدة المتصالحة مع معطياتها أن تستوعب في الصيف أكثر من 100 ألف زائر بالإضافة إلى عدد سكانها. الخدمات البلدية فيها شيء تحلم به القاهرة أو بغداد أو دمشق. في وسط الحواري والأزقة تجد جداريات مرسومة بذوق رفيع، أو أن ترى أفضل ما قدمه الفنانون المغاربة من فن تشكيلي تقتنيه مؤسسات مغربية كبرى ولكنها تسعد أن تستعيره البلدة وأن تجده معروضا في صالات البلدة المختلفة التي تستضيف مناسباتها الثقافية. يقف المثقفون القادمون من أنحاء العالم على منبر موسمها الثقافي لينتقدوا ظاهرة الإسلام السياسي على الرغم من أن حكومة البلد مشكلة من تحالف أغلبيته بمرجعية من الإسلام السياسي. أصيلة تجربة ثرية ومهمة تستحق التقدير أولا، وتستحق أن يقلدها الآخرون. هي المثال الحي على أن مركزية المدن الكبرى شيء مفتعل وغير حقيقي ويمكن تجاوزه بسهولة. هذه ليست دعوة لأن يهاجر أهل المدن الكبرى في الشرق عائدين من حيث أتوا، إلى تلك البلدات التي تحتضر، ولكنها إشارة أن ثمة حياة يمكن أن تعاش بمستوى راقٍ في بلدات بسيطة سعيدة بخصوصية بساطتها.