ليس التاريخ سوى «قصة» قيد الوقوع. وبانتهائها، ومرور الزمن على تحققها في «الواقع» تتحول إلى مادة تاريخية قابلة للسرد حسب منظورات الرواة. ولذلك كان السرد التاريخي (الذي يتأسس في الأصل على سرد واقعي) أساس أي سرد، وقد تحول مع الزمن إلى أساطير وخرافات وعجائب، أو مرويات مختلفة تنهل من الواقع أو من تأويلات متعددة. وليس الخيال السردي الذي يبدعه الرواة الشعراء على مر العصور، وقد انتقل مع السرد الروائي إلى مادة للقراءة سوى واحد من تحققات السرد الواقعي الذي تشكل في زمان ما قبل أن يحوله الزمن. عندما نعجز عن فهم السرد في تجلياته، لا يمكننا سوى الفشل في فهم السرد التاريخي والواقعي على حد سواء: أي «قصة» الحياة. وهذا ما يعطي القراءة السردية للأحداث قيمتها وخصوصيتها. فكيف ابتدأت القصة؟ ابتدأت قصة حراك الريف، في الأصل، مع كلمة الشعب في 20 شباط (فبراير) 20111 حين قال الشعب المغربي قاطبة كلمته بوضوح. وجاءت كلمة جلالة الملك محمد السادس في 9 آذار (مارس) لتكون استجابة لكلمة التحدي التي رفعها الشعب. وقتها تساءلت: قال الشعب كلمته، وجاءت كلمة الملك استجابة لكلمته، وقد تجاوبت معها تجاوبا جعل الجميع يتحدث عن «الاستثناء المغربي». لكن أين هي كلمة المجتمع السياسي؟ (انظر كتابي: «المغرب مستقبل بلا سياسة»، 2013). فتح خطاب 9 مارس التاريخي أوراشا للنقاش، وكل أطراف المجتمع السياسي تفاعلت معه بالصورة التي كانت تراعي فيها حسابات المصلحة الحزبية والجمعوية، ولم تكن المصلحة «الوطنية» سوى شعار يرفع لتأكيد المصلحة الخاصة. صادق الشعب على الدستور الجديد، وجاءت صناديق الاقتراع بحكومة بنكيران. هنا بدأت القصة تتشابك. صار الكل متوجسا مما كان ينعت بالحكومة «الملتحية»؟ كتبت وقتها: نحن في حاجة إلى رؤية «وطنية» للتحول الاجتماعي، وطالبت بأن تكون الحكومة «منسجمة»، والمعارضة «موحدة» خدمة لتغير اجتماعي لا يتعارض مع كلمة الشعب الموحدة في 20 فبراير، ولا مع كلمة الملك المنسجمة في 9 مارس. وظل الكل يلغي بلغوه، وظلت الحكومة الجديدة تشتغل في جو يطبعه الشد والجذب. ولم يكن مرمى المجتمع السياسي العام هو الارتقاء إلى مستوى إعطاء «الاستثناء» المغربي شرعيته. فكان الوصول إلى الطريق المسدود، (انظر كتابي: «الديموقراطية في قاعة الانتظار»، 2014). كان الشعب يترقب ما يمكن أن يحصل من تحولات حقيقية تستجيب لمطالبه في رؤية واقع مغاير في مختف القطاعات الحيوية في الصحة والتعليم والسكن والإدارة... لكن دار لقمان ظلت على حالها. في الوقت نفسه كانت المبادرات الملكية تصب في اتجاه إحداث تطورات هامة تتصل بالبنيات التحتية، وإصدار الأوامر التي يمكن أن تسهم في معاينة ذلك واقعيا، وفي فتح أوراش كبرى من أجل المستقبل. لكن المجتمع السياسي ظل يشتغل بدون رؤية دقيقة أو موضوعية لهذا الاستثناء. وبدل أن ينصب الاهتمام على القضايا الجوهرية اليومية التي تهم المواطنين الذين يعانون من مشاكل بنيوية، كانت السجالات التي يخوض فيها هؤلاء حول الإسلام، والظلامية، وحرية المعتقد، والأمازيغية، والدارجة، والحداثة... وبدل لعب المجتمع السياسي دوره في استقطاب المواطنين إلى الانخراط في السياسة، والعمل على تطوير الوعي الديموقراطي لديهم، راحت الصراعات حول الزعامات، والانتخابات والمناصب. فكان أن تعرضت للمزيد من الانشقاق، وفقدان الثقة. وكانت نتائج الانتخابات الأخيرة، وما رافقها من انسداد نجم عنه العجز حتى عن تشكيل حكومة دالا على بؤس الحياة السياسية وعجز الأحزاب عن الاضطلاع بالدور الحيوي في تطوير الحياة الاجتماعية وتخليقها، وتحقيق آفاق الانتظار. في هذا السياق كانت روائح الفساد، تكشف بالملموس أن كلمة الشعب لا معنى لها، وأن الاستجابة الملكية لم تلق الآذان الصاغية من لدن المجتمع السياسي حتى وهو يمارس أدواره في الحياة اليومية. ظلت المجالس البلدية والقروية والعمدات والجهات تشتغل بالذهنيات التي كانت سائدة طيلة عقود طويلة. وظل المواطن يحس بأن هناك فجوة عميقة بينه وبين الحكومة والدولة، وأن الأحزاب السياسية لا تمثله، وأن المنتخبين لا علاقة لهم به. كان «الاستثناء السياسي» بلا عمق اجتماعي تتحقق من خلاله المطالب الشعبية المستعجلة. وجاء حراك الريف ليؤكد ذلك معيدا القصة إلى بدايتها. ليس حراك الريف حركة انفصالية، وإن رفعت الأعلام الأمازيغية، وصور الخطابي. إنه امتداد لحركة 20 فبراير وتذكير بها لمن أصيب بنسيان بداية القصة. وكان لا بد لهذا الحراك أن يكون له حافز «سردي»، هو «قصة محسن فكري» التي أعادت إلى الأذهان صورة البوزيدي. ولهذا تفاعل معها الشعب المغربي في مختلف المدن التي خرجت للتعبير عن الاحتجاج عما وقع في الحسيمة بعد أن أعياها الانتظار. كان لسان الحال الجماعي والوطني يسلب عن حراك الريف بعده الجغرافي و»العرقي» الذي يبدو وكأنه محور الاحتجاج. وأثبت المغاربة أن حراك الريف وطني، وأن كل الجهات مهمشة، وإن كانت في قلب محور مدن المغرب «النافع». وأن «الحكَرة»، يشترك فيها الريف والجبل والسهل والصحراء. لقد أثبت التفاف المغاربة في مختلف المدن المغربية أن «الاستثناء الاجتماعي» هو المطلوب، وأن الدعاوى الثقافية واللغوية (الأمازيغية) في الاحتجاج نفسه ليست سوى ذريعة وشعار لجمع اللم، وتأجيج المشاعر. إن وراء تبني المغاربة في السبعينيات لشعارات الثورة الاشتراكية، وفي التسعينيات للإسلام السياسي وللدفاع عن الحقوق اللغوية والثقافية أبعادا اجتماعية اقتصادية. يبدو ذلك بجلاء في أن المثقفين المغاربة لم يعمقوا الإيديولوجية الاشتراكية، ولم يطوروا الخطاب الديني، كما أنهم في دفاعهم عن الحقوق اللغوية ظلوا يكتفون بالشعارات العامة، ولم يتقدموا قيد أنملة في بلورة رؤية عميقة للتغيير تنطلق من المطالب الحقيقية للشعب بإعطاء تلك الأفكار بعدا اجتماعيا. لقد أبانت كل الحركات «الفكرية» و»الثقافية» في المغرب عن عجزها عن الارتباط بالمشاكل الاجتماعية البنيوية. ولذلك تتهاوى الأفكار، ويخفت بريقها، ويتم البحث عن بدائل للتغيير. مطالب الشعب واضحة ومحددة. واستجابات الدولة في شخص جلالة الملك بارزة. لكن المعضلة الكبرى في المجتمع السياسي. ولهذا فقد الشعب فيه الثقة بشكل مطلق. فمن الذي يسير الجهات والمجالس غير هذه الأحزاب؟ ماذا تحقق هذه الأحزاب للشعب في حياته اليومية؟ لقد أبان حراك الريف مرة أخرى أن الأغلبية الحكومية سادرة في غيها، وفي تفسيرها للأحداث، وأن الأحزاب والجمعيات بعيدة عن التعرف على المشاكل الحقيقية للمواطنين. إن المغربي في الريف وجبال الأطلس، وفي المناطق النائية في حاجة إلى الخبز الكريم، والمسكن اللائق، والماء والكهرباء، والمدرسة، والإدارة، والبنيات التحتية... كما أنه في السهول والصحارى في الحاجة إلى الضروريات نفسها. أما النقاش عن لغة التدريس، بدون مدرسة، فهو تحريف للمطالب الرئيسية، ومثله الذين يتحدثون عن حرية المعتقد، ومطالب التعري، والحرية الجنسية، و»الحداثة»، وما شاكل هذا من الدعاوى. حين تكون مطالب الشعب الجوهرية لا تجد إلا من يحرفها عن مسارها الطبيعي، يظل أي حافز للحراك الاجتماعي قائما. وحين يعجز المجتمع السياسي عن التأطير والتنظيم والعمل الجاد تصبح الكلمة بين الشعب والملك. وها هم يتملصون من مسؤولياتهم، ويطالبون الملك بالتدخل لحل حراك الريف، أي الحراك المغربي. عادت القصة إلى بدايتها، والراوي عاجز عن تطويرها. فمتى يتكلم المجتمع السياسي ليقول كلمته؟