لم تحمل الانتخابات التشريعية التي جرت بالمغرب مؤخرا أي مفاجأة ولو أنها جرت في أجواء مشحونة. تصدّر الحزب ذي المرجعية الإسلامية، حزب العدالة والتنمية، الترتيب متبوعا بغريمه الأصالة والمعاصرة وتراجعت الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية (الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي، التقدم والاشتراكية)، وتخلّفت الأحزاب التي تسمى بالإدارية. أما الدولة من خلال جهاز الداخلية، فقد أبانت يوم الاقتراع وفرز الأصوات وعدّها، على احترام إرادة الناخبين وانخراطها في المسلسل الديمقراطي. ويوم الاثنين وهو يوم العمل الأول للعمل الإداري بالمغرب، استقبل الملكُ الأمينَ العام لحزب العدالة والتنمية وكلفه بتشكيل حكومة، وفق ما ينص عليه الدستور، وما تفرضه المنهجية الديمقراطية، وهو المصطلح الذي أضحى مقتضى دستوريا. كلها أخبار مفرحة، انتصرت فيها إرادة الشعب، واحتُرمت فيها مقتضيات الدستور، وانصاع الجميع لذلك، وامتثلت الإدارة إلى واجب الحياد... ومع ذلك تقتضي هذه الانتخابات قراءة عميقة، مما لا يتيحه هذا الحيّز وفي غياب معطيات دقيقة، لكننا نجازف بملاحظات عامة، هي لسان حال العديدين بالمغرب: أول الملاحظات وهو أن الأحزاب الحديثة العهد هي التي تصدرت المشهد، أي أنها الأقرب إلى الأجيال الجديدة، والحركية الاجتماعية، مما منحها دينامية، مع الفوارق ما بين خطابها وأساليبها، بل تضاربها. ثانيا: نسبة العزوف تظل مرتفعة. حوالي 60 في المائة من المسجلين قاطعوا الانتخابات، ونسبة مهمة، تتجاوز مليون صوت، من كتلة ناخبة ل 15 مليون ناخبا، صوتت ببطائق ملغاة، وهي الحالة التي لم تتم دراستها بعمق، ناهيك عن عدم المسجلين، وهي نسبة تناهز 30 في المائة ممن هم في سن التصويت، وهو ما يعني أن شرائح واسعة خارج التمثيل، وأن الأحزاب ولا حتى الدولة لم تستطع أن تكسبها وتقنعها بجدوى عملية الانتخاب والتصويت. ومن دون شك أن هناك أسبابا موضوعية يتعين على الباحثين استجلاؤها علميا، عوض الخواطر و الارتسامات والتغطيات الصحافية. ثالثا: هناك اختلال بيّن ما بين نمط اقتراع اللائحة المعتمد، الذي من شأنه أن يرسي نوعا من العدالة الانتخابية، وبين واقع القطبية الثنائية، الذي رأى فيه بعض علماء السياسية إيذانا بأزمة مستمرة وخطرا على التعددية. رصد باحثون المفارقة بين حزب يدخل في خانة المحافظين يسجل أعلى النسب في المدن التي هي بطبيعتها أكثر ميلا لقيم الحداثة، وحزب يَدفع بالحداثة يجد خزانه في البوادي ولدى الأعيان. وقد عرض ملاحظون إلى اختيار يوم الجمعة يوما للاقتراع، واعتبروا أنه إن كان في سياق سابق يخدم النظام، فهو يخدم اليوم الاتجاهات الإسلامية، ويعتبر عاملا مهما في التأثير على إرادة جزء كبير من الناخبين، والمتذبذبين أو ما يسمى بالتصويت المتأرجح. أما خطاب الأحزاب أثناء الحملة، فإنه لم يَرْقَ إلى ما يفرضه تباري سياسي، وغابت عنه البرامج، وأبان عن ضحالة، من استدرار العواطف والتخويف بالمخاطر والدفع بنظرية المؤامرة. لم يكن هناك حديث عن حصيلة الحكومة، إلا نادرا، وعرف تبخيسا للدولة، حتى ممن يُفترض أن يدافع عنها. وهو ما يؤكد انعدام ثقافة الدولة عند كثير من الفاعلين السياسيين. صحيح أن ما يطبع خطاب الحملة هو خطاب الهجاء، وصحيح أن ما يطبع مرحلة ما بعد الحملة هو خطاب الغزل، وصحيح مثلما يقال إن الوعود أثناء الحملة تُصاغ شعرا، وتترجم نثرا أثناء الممارسة، ولكن ذلك لا يعفي من خيط ناظم، واتساق لا يبلغ الإسفاف، ولا ينافي مقتضيات الدولة وثقافتها. ومع ذلك تختلف هذه الانتخابات عن سابقتها بالنظر إلى السياق الزمني في المنطقة، فهي أول تجربة إسلامية تُكْمل ولايتها في المنطقة، وهي أول رئيس حكومة يعاد انتخابه، وهي أول تجربة سلمت من الهزات والاضطرابات العنيفة، وتُظهر الانتخابات وعي المواطن المغربي في الانخراط في الديمقراطية، بدون مجازفة. كما أبانت عن عدم وقوف الدولة أمام هذا الاتجاه الثقيل كما يقال في العلوم الاجتماعية، إذ أن هناك تغييرا عميقا في البنية الديمغرافية والتوزيع المجالي وما يتمخض عن ذلك من تغيير للقيم والتمثلات، وهو الأمر الذي أخذ يتجاوز الإدارة و يستعصي ترويضه بالمال، ويتجاوز دور الأعيان. إن السياق غير العادي في المنقطة رسّخ الطابع الاستثنائي لهذه الانتخابات، وهو ما أدركه الفاعلون، ولكن ذلك لا يعفي من نقد ذاتي، وحبذا لو يصبحِ النقد الذاتي هاجسا لدى الفاعلين السياسيين أيا كانت مشاربهم، عوض إلقاء المسؤولية على الآخر.