الخبر الذي يستأثر بالاهتمام هذه الأيام في مواقع التواصل الاجتماعي ليس هو إكمال حكومة بنكيران لثلاث سنوات من عمرها، بل أغنية «عطيني صاكي» للداودية التي اقتربت من حاجز المليوني مشاهدة في موقع «يوتوب» في أقل من أسبوع، وهي نسبة المشاهدة التي لا يحلم بنكيران بثمنها حتى وهو «يتبورد» في البرلمان. هذه الأغنية التي يبدأ مطلعها ب«عطيني صاكي باغا نماكي باغا نبان اليوم زوينة، الشعر زعر ولعكر حمر حالفة حتى نوض روينة»، دفعت مجموعة من المواطنين إلى وضع شكاية ضد الداودية يتهمونها فيها بالتحريض على الفساد والدعارة بسبب كلمات الأغنية. وبغض النظر عن موقفنا من مستوى أغاني الداودية ونوعية الكلمات المستعملة فيها، وهو مستوى طبيعي بالنظر إلى المستوى التعليمي والمعرفي للداودية، إذ لا يجب أن ننتظر منها أن تغني «الرباعيات» أو «المعلقات» أو «الأطلال»، فإن مبادرة هؤلاء المواطنين لم تكن في محلها لأسباب كثيرة. أولا، إنتاج أغنية الداودية ليس ممولا من أموال دافعي الضرائب، وبالتالي فالأغنية تبقى عملا خاصا يباع في الأسواق ولا أحد يفرضه على المواطنين. وإذا كانت الداودية يجب أن تقف أمام القضاء بسبب أغنية «عطيني صاكي»، فإن بعض زملائها الذين يستعملون كلمات ذات إيحاءات جنسية في أغانيهم سيكون مصيرهم بنظر هؤلاء هو السجن. أما «التسونامي» فبسبب كل الأشرطة المنتشرة لسهراتها في «يوتوب» والتي تظهر فيها وهي تمسك ثديها وتلامس أعضاءها التناسلية عند أدائها لأغنية «الحلاوة فين كاينة» فإنها، بنظر هؤلاء، ستستحق المؤبد. لنكن منطقيين، هذه الأغاني والسهرات الخاصة ستطرح إشكالية قانونية عندما ستكون ممولة من المال العام، أو عندما ستمر في قنوات تلفزيونية ممولة من جيوب دافعي الضرائب. أما إذا كانت مطروحة في الأسواق أو في المواقع الاجتماعية، فإن ذلك يدخل في باب الحرية الفردية، طالما أن هذه الحرية لا تصطدم بحرية الآخرين أو بالقانون. ولذلك فمبادرة هؤلاء المواطنين بوضع شكاية بتهمة التحريض على الفساد والدعارة، كانت ستكون ذات جدوى لو أنها استهدفت المسخ الإعلامي الذي تقدمه القنوات العمومية على شكل مسلسلات مكسيكية مدبلجة بالدارجة المغربية، والتي نعثر فيها على عبارات أخطر وأسخف وأحط من كلمات أغنية الداودية، وعلى حركات أكثر إثارة من حركات «التسونامي». بعبارة أخرى فشكاية هؤلاء المواطنين يجب أن توضع ضد فيصل العرايشي، المدير العام للقطب العمومي، الذي يتحمل مسؤولية الدعارة الدرامية التي يسمح ببثها على قنواته. خصوصا وأن وزير الاتصال مصطفى الخلفي، الوصي على قطاع الإعلام العمومي، قال في البرلمان إن التلفزيون العمومي تحول بسبب هذه المسلسلات إلى «ماخور مكسيكي». مما يفيد أن هناك اعترافا رسميا من طرف وزير وصي على القطاع، بأن ما يتم بثه في قنوات ممولة من جيوب دافعي الضرائب يتسبب في خراب البيوت ونسف الأخلاق العامة. وبالإضافة إلى شكاية المواطنين ضد فيصل العرايشي، عليهم أيضا أن يضعوا شكاية مماثلة ضد المركز السينمائي المغربي بسبب كل الأفلام التي مول من المال العام، والتي أعطت صورة مشوهة عن المرأة المغربية. وإذا راجعنا صورة المرأة المغربية كما تقدمها الأفلام السينمائية التي يمولها المركز السينمائي المغربي من جيوب دافعي الضرائب، سنلاحظ أنها لا تخرج عن إطار المرأة الخائنة أو العاهرة، حتى أن المخرج نبيل عيوش، ابن «التاجر» نور الدين عيوش، قال إنه في فيلمه المقبل سيلجأ إلى خدمات عاهرة حقيقية لكي تلعب دور البطولة في فيلمه. وقلما نعثر على فيلم مغربي يسند دورا شريفا وعفيفا إلى امرأة تلعب دور البطولة فيه. فيبدو أن الشرف والعفاف لا يجلب الجمهور، ولذلك فأغلب المخرجين يعرضون على الممثلات أدوارا تجسد الرخص والعهر والانحطاط بحثا عن إثارة الغرائز الجنسية للجمهور. هذا إذا لم يعرض بعض هؤلاء المخرجين خدماتهم الجنسية على الممثلات، مثلما تتهم إحداهن مخرجا باشتراط ممارسة الجنس مقابل أخذ الدور. التلفزيون العمومي المغربي أيضا لا يقدم ضمن مقتنياته وإنتاجاته الدرامية سوى نماذج سلبية للمرأة. وسواء كانت المسلسلات تركية أو هندية أو مكسيكية، فإن المرأة تظهر فيها كمرادف للانحلال الخلقي والتحرر الجنسي والعري المبالغ فيه. ومن يلقي نظرة على المسلسلات التي «تطلي» التلفزيون المغربي طيلة النهار، سيلاحظ أن القيم التي تروجها هذه المسلسلات هي قيم منحلة تشكل خطورة كبيرة على النسيج الأسري المغربي. وهذه النماذج النسائية يتم تقليدها من طرف الأجيال الصاعدة من المراهقات، فتتحول تلك النماذج السلبية إلى منهاج تربوي تسير على نهجه الأجيال الجديدة من الفتيات اللواتي سيصبحن بعد سنوات أمهات المستقبل. إن ما تقصف به القناتان العموميتان بيوت المغاربة يوميا من مسلسلات مدبلجة إلى الدارجة المغربية وأخرى إلى السورية واللبنانية، تساهم، إلى جانب ما يأتينا من الفضائيات، في مسخ القيم المغربية وخلخلة البنيات العميقة للأسر عبر تمييع بناتها ونسائها وجعلهن مشدودات إلى نماذج نسائية شبه عارية قادمة من ثقافات أخرى لا علاقة لها بالثقافة الإسلامية المغربية. والأسر المغربية تدفع ثمن هذا الإغواء المنظم الذي تقوم به القناتان العموميتان للمراهقات، فقد أصبحت بطلات هذه المسلسلات المدبلجة بمثابة نماذج يقتدين بها في لباسها وطريقة تفكيرها. وهكذا يتحالف المركز السينمائي المغربي والقطب الإعلامي العمومي، الممولان من جيوب دافعي الضرائب، لترويج قيم مضرة بالأسرة عوض الترويج لقيم الوطنية والاعتزاز بالهوية الإسلامية وتمجيد الروابط الأسرية. تلك القيم والروابط الأسرية التي تربت الفتيات المغربيات عليها منذ الصغر والتي أصبحت تجلب عليهن نقمة نساء الخليج العربي بسبب إقبال رجالهن على الزواج من المغربيات. فتربية الفتيات في الخليج العربي ليست مثلها مثل تربية الفتيات في المغرب. فالمغربية تتربى على خدمة عائلتها في البيت منذ الطفولة، الشيء الذي أهل المغربيات إلى تكوين خبرة عالية في إدارة شؤون البيت والمطبخ، حتى ولو كانت حاصلة على وظيفة وذات تعليم عال. عكس كثير من بنات الخليج اللواتي يكبرن في بيئة أسرية الغالب فيها الكسل والدلال، بيئة أسرية مرفهة يقوم فيها الآسيويون بجميع خدمات البيت من طبخ وسياقة، وتقوم الفلبينيات والهنديات والأندونيسيات بتربية الأولاد، في الوقت الذي تتفرغ فيه الأمهات والبنات لزيارة مراكز التجميل والتسوق. وحتى عندما تتزوج البنت الخليجية تتعامل مع زوجها بنفس الطريقة التي تربت بها، فيعود الزوج إلى البيت ليطلب وجبات الأكل من المطاعم، فالزوجة لا تتخيل أنها قادرة على العيش بدون خدمات وتعتبر خدمة زوجها نوعا من الإهانة. وعندما اكتشف الرجل الخليجي المرأة المغربية ورأى مهارتها في الطبخ وحنكتها في تدبير أمور البيت واقتصادها في تدبير المصاريف، رأى أشياء لم يعتد عليها في أسرته مع أمه وأخواته. وهذا هو السبب الحقيقي لكراهية المرأة الخليجية عموما للمرأة المغربية، وسر الحملة الهوجاء ضدها في وسائل الإعلام الخليجية، خصوصا عندما نعرف النسبة الكبيرة التي وصلت إليها نسبة العنوسة في المجتمع الخليجي. فالسحر الحقيقي الذي تمارسه المرأة المغربية على الرجل الخليجي، وحتى الأوربي، ليس سحر «الشرويطة» الذي تحدثت عنه سلسلة «ميخيات» الكويت، وإنما هو الطيبة وحسن المعاملة وروح الدعابة والجمال الطبيعي والأنوثة والإخلاص وأمور كثيرة جميلة أخذتها البنات المغربيات عن أمهاتهن وجداتهن. وكل من يدخل بيت المرأة المغربية تسحره ألوان الأقمشة والطرز المرسوم عليها، وطريقة تنظيم الصالون وزخرفات الخشب وأغطية الموائد. كل شيء مرتب بعناية فائقة تكشف ذوقا عريقا مستمدا من حضارة ضاربة في القدم. وإذا أردنا أن نتحدث عن الطبخ فيمكن أن نقول إن المرأة المغربية هي إحدى أمهر الطباخات في العالم، ولعل أحد أهم المداخل إلى قلب الرجل كيفما كانت جنسيته هو معدته. ومن يتذوق طبخ المغربيات يسحره ذوقهن وحرصهن على الاقتصاد في إنجاز أجود الأطباق بأقل الأثمان. وإذا كانت الضربات تحت الحزام التي تلقتها المرأة المغربية في شرفها قد جاءت أساسا من الخارج، فإن هناك أيضا في الداخل من يتحمل مسؤولية في هذه الضربات الجبانة. إن أعداء صورة المرأة المغربية ليسوا كلهم في الخارج، بل إن أشدهم تشجيعا للصورة المنحلة والمتفسخة للمرأة المغربية يوجدون بيننا. والأفظع من ذلك أنهم يصنعون هذه الصورة المشوهة بأموال ضرائبنا. ولذلك فليس مستغربا أن يكون 60 في المائة من المشاهدين المغاربة يقاطعون القنوات العمومية. ولعل الخلاصة التي نخرج بها ونحن نشاهد كل هذه السخافة المصورة، هي أن الأزمة في المغرب ليست أزمة إمكانيات، وإنما أزمة خيال وإبداع. هؤلاء المسؤولون غير قادرين على تمويل قصص وسيناريوهات ومواقف ومفارقات مغربية، يمكن أن تنتزع بذكاء الابتسامة والضحكة من أفواه المشاهدين. كل موهبتهم أنهم يمولون إنتاج نفس «التعواج» ونفس الشطحات ونفس اللكنات التي قدموها طوال السنوات الماضية. وإذا كان هناك عند الأطباء مرض اسمه فقر الدم، ففي التلفزيون المغربي هناك مرض مزمن اسمه فقر الخيال. إن أحد أهم أدوار التلفزيون العمومي، كما هو متعارف عليه عبر العالم، هو الترفيه والتثقيف والإخبار. ويبدو أننا في المغرب قلبنا الآية مع دخول التلفزيون المغربي عهد القطب العمومي المتجمد، فأصبح أحد أهم أدوار التلفزيون العمومي هو الإشهار. ومن يتابع سيل الوصلات الإشهارية يكاد تختلط عليه الأمور ويتصور أنه بصدد متابعة قنوات خاصة تبحث عن الربح، عوض قنوات عمومية يمولها المواطنون من ضرائبهم كل شهر من أجل إخبارهم وتثقيفهم والترفيه عنهم. إن أحد أدوار الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري هو أن تقنن الحيز الزمني لمرور الوصلات الإشهارية في فترة الذروة في القنوات العمومية. فهذه القنوات لا يجب أن يكون هدفها استغلال مرفق عمومي لمراكمة الأرباح، لأننا كمواطنين ندفع لميزانيات هذه القنوات ضرائب شهرية، بل يجب أن يكون هدفها الأول والأخير تقديم خدمة إعلامية عمومية تحترم ذوق المشاهد وترقى به نحو الأعلى، لا أن تقدم إليه «الفقصة» يوميا. ولعل ما يثير الاستغراب صراحة هو كيف استطاع أبناء الشعب من المغاربة تحدي كل حملات التجهيل التي يقودها الإعلام العمومي ضدهم وضد ذكائهم، واستطاعوا أن يكونوا أنفسهم بوسائلهم الخاصة في مدن ليست فيها مكتبات ولا مختبرات للبحث العلمي ولا بنيات تحتية. تصوروا لو أن المغاربة الذين نراهم اليوم يسيرون أعقد مراكز البحث في المستشفيات العالمية، ويحاضرون في أعرق الجامعات، ويخترعون أدق المعدات الطبية والصناعية، تصوروا لو أن هؤلاء المغاربة تلقوا إعلاما عموميا حقيقيا وتعليما عموميا متوازنا ووجدوا من يوفر لهم في بلدهم أسباب البحث العلمي، كيف كان سيكون المغرب؟ أكيد أننا كنا سنكون من بين الدول المتقدمة. فهذا الشعب، الذي يقاوم التجهيل بوسائله الخاصة، شعب موهوب من دون شك، ولديه مناعة ضد التجهيل والتغليط. أنظروا فقط إلى عدد الصحون اللاقطة فوق أسطح البيوت لكي تفهموا أن الشعب يبحث لكي يعرف ما وراء بيته ويبتكر لكي يرى أبعد من أنفه. عندما ضاقت بالمغاربة أنفسهم وملوا سماع خطب مصطفى العلوي ونشرات أخبار تلفزيون «دار البريهي»، لجؤوا إلى «الكسكاس» لكي يتفرجوا على قناة «تيفي 5». واليوم عندما ضاقت بهم قنوات القطب العمومي بما رحُبت، لجؤوا إلى الصحون المقعرة وقرصنوا الشفرات لكي يتفرجوا على العالم بأسره.