توترت العلاقات بين روسيا الاتحادية والولاياتالمتحدةالأمريكية، خلال هذه الفترة الحرجة التي تمر بها الأزمة السورية، إلى درجة أن الناطق باسم الكرملين وصف التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي كيري التي عبر فيها عن امتعاض بلاده من مواصلة روسيا لضرباتها الجوية على حلب، بأنها غير بناءة، بما يعني أنه لا قيمة لها. وبعده صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن بلاده ستواصل دحر ما يسميهم الإرهابيين، وهم الثوار الوطنيون السوريون المعارضون لنظام بشار الأسد، وأنها لن تتوانى عن دعم النظام والوقوف إلى جانبه. بينما كانت تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما مثيرة للانتباه، إذ دعا الوكالات الأمنية في بلاده إلى التحضير لخطة مقبلة لإنهاء الأزمة في سوريا. وهو ما يعبر عنه ب (خطة ب)، البديلة عن التسوية الدبلوماسية، بعد أن فشلت المباحثات بين موسكو وواشنطن، وظهر أن الطريق باتت مسدودة بين القوتين العظميين. وتجري هذه المتغيرات في الوقت الذي وصلت فيه العلاقات الأمريكية السعودية درجة التوتر القصوى، نتيجة لإقرار قانون (العدالة ضد رعاة الإرهاب) من طرف مجلسَيْ الكونجرس الأمريكي، بما يعني الدخول في مواجهة مكشوفة مع المملكة العربية السعودية، بحكم أن هذا القانون يستهدفها هي بالذات، قبل أن يستهدف غيرها من الدول. وهو الأمر الذي يؤكد أن الإدارة الأمريكية دخلت مرحلة المواجهة الصارمة مع حليفها الأول في المنطقة العربية، مما ستترتب عليه عواقب وصفتها الخارجية السعودية بأنها ستكون وخيمة للغاية. فإلى أين تتجه الرياح بالسياسة الأمريكية؟. هل تتجه نحو الحسم في الأزمة السورية، سواء من خلال التدخل المباشر، أو عبر تزويد المعارضة السورية بالأسلحة لمقاومة القصف الروسي؟. أم هل ستدخل في صراع محموم مع الدولة الأقوى نفوذاً في المنطقة العربية، فيكون لذلك انعكاسات خطيرة على العلاقات الأمريكية العربية بصورة عامة؟. وهل هناك من رباط بين هذه المتغيرات التي تجمع بين فشل المساعي الديبلوماسية الروسية الأمريكية، وبين تدهور العلاقات الأمريكية السعودية بصفة خاصة؟. وهل هناك احتمالات متوقعة لمزيد من الانهيار للعلاقات الأمريكية العربية في ظل القانون المعروف اختصاراً ب (جاستا) الذي هو في حقيقة الأمر، مغامرة غير مأمونة العواقب من الكونجرس تهدد المصالح العليا للدولة الأمريكية؟. وهو ما عبرت عنه السعودية في بيان لوزارة الخارجية أقوى ما يكون التعبير. لاشك أن الوضع الحالي مفتوح على جميع الاحتمالات، والمؤشرات الحالية تدل على أن المنطقة العربية مقبلة على تطورات بالغة الخطورة، كما تؤكد أن الأزمة السورية ستعرف مزيداً من الاحتدام والتفاقم والانفجار الذي قد يصل إلى مواجهة بين العملاقين اللذين يكن كل منهما العداء للآخر، ويصفيان حساباتهما السابقة على الأراضي السورية، بمعارضة للقانون الدولي، وبما يتعارض مع المصالح القومية لكل منهما في المديين القريب والبعيد. فقد تأكد على لسان الرئيس الروسي أن بلاده لن تغادر سوريا، ولن تخذل بشار الأسد بالتخلي عنه، وأن الحرب ضد (الإرهابيين) لن تنتهي. والجدير بالملاحظة هنا أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لا وجود يذكر له في هذا الصراع، فالتركيز كله يقع على (الإرهاب والإرهابيين)، وهم المعارضة السورية للنظام، ولا يقع على الدواعش. وبذلك يتضح اللغز الذي حيّر العقول طويلاً وحار في تفسيره الذين يتابعون الأحداث على الأرض ويعلمون بواطن الأمور. فليس متوقعاً أن تنزل الولاياتالمتحدةالأمريكية بثقلها إلى الميدان لتتواجه مع روسيا الاتحادية في سوريا. فهذا احتمال مستبعد تماماً، وإنما المتوقع هو تعزيز الإدارة الأمريكية من دعمها العسكري للمعارضة بالتعاون مع تركيا التي ظهر أخيراً أنها في موقف حرج للغاية، إذ تراعي الحفاظ على شعرة معاوية التي تربطها مع روسيا بعد قطيعة كانت قاسية عليه، وفي الوقت نفسه تراعي مصلحتها مع الغرب باعتبارها حليفاً استراتيجياً مع الولاياتالمتحدةالأمريكية يجمعهما حلف ناتو ومصالح استراتيجية مشتركة عدة. ولابد أن نأخذ في الاعتبار الزيارة المفاجئة التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف إلى أنقرة، التي قيل إنها تدخل في نطاق تعزيز التعاون الاستراتيجي بين الدولتين. ويرى بعض المراقبين أن السعودية حريصة أشد الحرص خلال هذه المرحلة، على تقوية علاقاتها مع تركيا تحسباً لأسوأ الاحتمالات، خصوصاً وأن العلاقات بين السعودية وإيران تمر بأسوأ مراحلها، وأن العلاقات السعودية الأمريكية قد دخلت مرحلة الضباب. فسوف يترتب على تلك الزيارة متغيرٌ جديد يضاف إلى المتغيرات القائمة التي لابد أن تدخل في الحساب لمعرفة ما يمكن أن يقع من مفاجآت خلال المرحلة الراهنة أو في المدى القريب. ولكن ماذا في إمكان التعاون السعودي-التركي أن يغيره من طبيعة الصراع في المنطقة في ظل التدهور المتسارع في العلاقات بين موسكو وواشنطن؟. وهل يمكن أن تلعب أنقرة والرياض دوراً حاسماً في هذا الصراع يرجّح كفة المعارضة، ويكسر من شوكة روسيا، ويقطع دابر نظام بشار الأسد؟. هذا احتمال وارد بالحسابات الاستراتيجية والإنسانية والقومية التي تدخل فيها المصالح الحيوية للدولتين الشقيقتين، يضعه في الاعتبار القطبان اللذان يملكان زمام الأمور في العالم كله، وليس في المنطقة العربية فحسب، ولذلك لا يستبعد أن تتدخل القوى العظمى لإفساد العلاقات السعودية-التركية بطريقة أو بأخرى، أو إشعال نار الاضطرابات داخل البلدين، على نحو أو آخر، لإشغالهما بالمشاكل الداخلية وإغراقهما في الأزمات الناشبة. ومن الحكمة والفطنة وعزم الأمور، أن يضع البلدان الشقيقان هذا الاحتمال في حساباتهما، لأنه لا أمان مع القوتين العظميين، ولا ثقة فيهما، حتى وإن ظهر أنهما على غير وفاق، وتقفان على عتبة صراع بينهما قد يكون حامي الوطيس. وفي جميع الأحوال، فإن الضحية الأكبر في هذه الأزمة الآخذة في التضخم والتفاقم والمنذرة بمخاطر كثيرة، هو الشعب السوري الذي يمر بأسوأ الكوارث التي مرت بها الشعوب في القرن العشرين وفي العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. لقد تعرض هذا الشعب الذي صنع الحضارة وكانت بلاده قلب العروبة النابض بحق وحقيق، للإبادة من بشار الأسد وزبانيته، ومن روسيا، ومن إيران، ولا يزال يعاني أشدّ المعاناة. وليس في الأفق بشارة أمل أنه سيخرج قريباً من هذا الجحيم. إن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي فجرت الصراع مع حليفتها المملكة العربية السعودية، ليس في حسابها التدخل لإنهاء الحرب ضد الشعب السوري. وهو الأمر الذي تعرفه روسيا معرفة جيّدة، وهو ما ظهر من خلال التصريح الذي أدلى به رئيسها بوتين بعدم التخلي عن الدكتاتور المجرم بشار الأسد. فماذا يبقى إذن؟. تبقى المعارضة الوطنية الشريفة التي تمثل نبض هذا الشعب، ويبقى التعاون العربي-الإسلامي، أو بالأحرى التعاون السعودي-التركي الذي يؤمل أن يكون حاسماً وحازماً وقاطعاً لدابر الشر.