الانقلاب العسكري يفتح الأبواب للدكتاتورية، ولحكم العسكر الذي يجلب معه الخراب والفقر والقمع وامتهان كرامة الإنسان وهضم حقوقه والتراجع في معدلات التنمية والتخلف عن ركب الدول المتقدمة التي تقيم حكمها على قواعد الديمقراطية واحترام الحريات العامة وسيادة القانون. والانقلاب العسكري هو قرينٌ للاستبداد وللحكم الشمولي، وهو النقيض للحرية وللديمقراطية وللعدالة وللقيم الإنسانية السامية. فما أن يستولي العسكر على الحكم في انقلاب عسكري، إلا ويكون في ذلك القضاء على دولة الحق والقانون، ويكون الشعب قد دخل كهوف الظلام، وفقد الكرامة، والإحساس بالشرف الوطني، وانحدرت البلاد إلى الدرك الأسفل من البؤس المادي والمعنوي على السواء. إن الشعوب الحيّة التي تعرف قيمة الديمقراطية وسيادة القانون، هي أكثر الشعوب رفضاً للانقلابات العسكرية، وكراهية للانقلابيين. ولذلك وجدنا الشعب التركي لا يكف عن الخروج للميادين والشوارع على مدى عشرة ايام، تعبيراً عن رفضه المطلق للدكتاتورية وللعودة إلى حكم العسكر الذي عانى منه لعقود من السنين، واكتوى بناره، وذاق مرارته، وقاسى من كوارثه ومصائبه. وهو بذلك عبر عن نضجه السياسي الذي جعله يميز بين الحكم الشرعي الدستوري والقانوني، وبين الحكم العسكري الاستبدادي المعادي للقانون، فاستطاع في ساعات قليلة من ليلة الخامس عشر من يوليو الجاري، أن يسقط المحاولة الانقلابية، وأن ينقذ بلاده من الانهيار والسقوط والعودة إلى الوراء. وهذا الشعب الجسور الشجاع الواعي الرشيد، هو الذي حافظ على النظام الديمقراطي المتقدم والمستقر الذي جعل من تركيا تحتل المرتبة السادسة عشر من بين الدول المتقدمة اقتصادياً في أوروبا، والمرتبة الخامسة عشر من بين دول العالم تقدماً اقتصادياً ونمواً مطرداً في المجالات كافة، بعد أن كانت تركيا قبل فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية في سنة 2002، في مرتبة الدول المشرفة على الإفلاس. وبغض النظر عن الموقف من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي هو أول رئيس جمهورية منتخب من الشعب، فإن إنقاذ تركيا من الحكم العسكري هو مكسب وإنجاز وانتصار يحسب لهذا الزعيم الذي أثبت أنه يعرف قراءة البوصلة، ويخوض غمار المعركة الفاصلة وسط أمواج صاخبة، وفي أجواء من الهجوم عليه والتشكيك في سياسته والحملة ضده، لأنه أفشل المحاولة الانقلابية، واعتمد على الشعب في دحر الانقلابيين، وتمَّ له ما أراده شعبه، وهو اليوم يمضي في تطهير البلاد من أدران الانقلابيين ورواسبهم ومخلفاتهم، بصرف النظر عن الأساليب التي تعتمدها الحكومة، وعن الآليات التي ينفذ بها الرئيس أردوغان سياسته خلال هذه المرحلة الصعبة المتوترة. إن رفض الانقلاب العسكري من حيث هو، والوقوف في الصف المعادي للانقلابات العسكرية، مبدأ ديمقراطي وأخلاقي وحقوقي وإنساني. ولا يهمّ أن يكون الإنسان مؤيداً لنظام الحكم في تركيا، ومسانداً للرئيس رجب طيب أردوغان، أم يكون مناهضاً له منتقداً لسياسته، بل حتى لو كان كارهاً لشخصه، لا يهمّ ذلك بقدر ما يهم الرفض المطلق للانقلاب العسكري. إذ لا يمكن إطلاقاً القبول بالانقلاب العسكري والترحيب به والتهليل له في أي ظرف من الظروف. فالانقلاب على السلطة الشرعية، وعلى الدستور والقانون، جريمة نكراء، وخيانة عظمى، ومنكر وخسة ونذالة وسفاهة، بل هو جنون. والذين هللوا لمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وغالبيتهم من العرب، فعلوا ذلك كراهية في الرئيس رجب طيب أردوغان، وشماتة فيه، ورفضاً للاستقرار في هذا البلد، لأن هؤلاء الذين طبلوا للانقلاب الفاشل في تركيا، رحبوا بالانقلاب العسكري في مصر الذي أطاح برئيس الجمهورية المنتخب واختطفوه واعتقلوه وسجنوه، ثم أبادوا عشرات الآلاف من المواطنين الذي رفضوا الانقلاب وتشبثوا بحقهم الدستوري ولم يفرطوا في الشرعية، وزجوا بعشرات الآلاف الأخرى في غياهب السجون. فهؤلاء الانقلابيون العرب نظروا بارتياح إلى محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وهم اليوم يحملون حملات إعلامية شرسة وجنونية على نظام الحكم في تركيا، وقلوبهم ملأى بالحقد والضغينة والكراهية، يودون لو نجح الانقلاب التركي، ويحلمون بجولة ثانية يرتقبونها من محاولة الانقلاب العسكري. وهذا منتهى الغباء والضلال السياسي والبؤس الفكري والدوران في متاهات الإفلاس والبوار في بورصة السياسة. أما الذين رفضوا الانقلاب، وانحازوا إلى النظام الشرعي، وعبروا عن مساندتهم للشرعية الدستورية، فهم يعرفون المصير الذي ينتهي إليه الانقلاب العسكري، ويدركون جيّداً أن الأنظمة الديكتاتورية التي اعتمدت على الانقلابات العسكرية هي شر الأنظمة، وأكثرها بؤساً، وأجلبها للكوارث السياسية، وللمآسي الاجتماعية، وللأزمات الاقتصادية. ولذلك فإن ركوب موجة التحامل على الحكومة التركية والمزايدة عليها في هذه الفترة الحرجة، هو انحياز غير مباشر للانقلابيين، ودعم للدكتاتورية، وتأييد للدكتاتوريين الذين أرادوا أن ينتقموا من الدولة التركية، ويمزقوها، ويرجعوا بها إلى الخلف. ويدخل ضمن هؤلاء بعضٌ من الدول الكبرى التي لا يرضيها أن تستمر تركيا في النمو الاقتصادي، وفي الحفاظ على قرارها الوطني السيادي، وفي ثباتها في موقعها باعتبارها دولة إقليمية محورية لها استقلالها الكامل وسيادتها المطلقة. ولذلك يُخشى أن تتطور الأمور في الاتجاه الذي يخدم مصالح القوى العظمى المناوئة للنظام التركي، التي تهدف إلى عرقلة الإجراءات التي تقوم بها الحكومة الشرعية لتصفية الأجواء، ولتطهير الدولة من المخاطر التي كادت أن تعصف بها، ولقطع دابر الانقلابيين، وإجهاض أحلامهم، وإحباط مؤامراتهم ما ظهر منها وما بطن. إن الشعب التركي أكثر شعوب العالم العربي الإسلامي معاناةً من الانقلابات العسكرية، وأوسعهم معرفة بمصائبها ومباذلها ومفاسدها. ولذلك كان الموقف الذي اتخذته تركيا من الانقلاب العسكري في مصر الذي أطاح بالرئيس المنتخب، موقفاًُ مفهوماً، ومبرراً، ومنسجماً مع السياسة التي يعتمدها الحزب الحاكم في تركيا بإبعاد الجيش عن التدخل في السياسة التي تنفذها حكومة منتخبة. وجاء خروج الشعب إلى الميادين ليلة الخامس عشر من يوليو الجاري، مفهوماً، ومبرراً، ومنسجماً تماماً مع النضج السياسي الذي بلغه هذا الشعب الذي وجد في الحزب الحاكم منقذاً له من البؤس، ومن تدهور الأحوال، ومن الفساد الطاغي، فتشبث به، وأسلس له قيادَه، وانحاز إليه، وفوض له أن يقود البلاد لإنقاذها. ولندع الاتهامات التي توجّهها الحكومة التركية إلى جماعة محمد فتح الله كولن بتورطها في محاولة الانقلاب الفاشلة. فهذه سياسة داخلية للدولة التركية، لن نخوض فيها، وإنما قصدنا من منطلق التحليل السياسي، التأكيد على أن الانقلاب العسكري جريمة كبرى في حق الشعب، وخيانة عظمى في حق الوطن، وتكريس للدكتاتورية، وفساد في الأرض ما بعده فساد، بالمفهوم القرآني. إن رفض الانقلاب العسكري هو بكل المقاييس، رفض لحكم العسكر، وللدكتاتورية وللاستبداد وللطغيان، وهي الآفات المدمرة التي نكبت بها دول عربية ولا تزال تعاني من ويلاتها، والتي أفسدت السياسة العربية، وأفسدت الفكر العربي، وأفسدت جامعة الدول العربية حتى صارت هيكلاً بلا روح، لا أهمية لقممها ولقراراتها ولمواقفها. وكل ذلك الدمار الكاسح جاءنا من الانقلابات العسكرية، ومن استبداد العسكر وعبثهم وإفسادهم للبلاد والعباد. من هنا نقول إن إحباط محاولة الانقلاب في تركيا أنقذ هذه البلاد من دكتاتورية العسكر ومن سقوط الدولة. وتلك هي الحقيقة التي ينكرها بعضهم، وغالبيتهم من الانقلابيين العرب، نعرضها في هذا السياق من منظور سياسي وقانوني، بعيداً عن الهرطقة الإيديولوجية، والمراهقة الثورية، والعبث السياسي.