يعيش المغرب منذ عدة سنوات، على إيقاع أخبار فضائح الفساد المالي والإداري وفضائح الفساد الأخلاقي، أي الفساد المتعدد الصفات، الذي عصف بالعديد من الرؤوس الكبيرة، ومن الصناديق والمؤسسات الضخمة، حيث نشطت الصحافة والمنظمات الحقوقية والجمعيات المختصة، في إبراز آثاره التي مست بجنونها، القطاعات والمؤسسات بلا هوادة... وبلا رحمة. ويبدو أن الفساد المالي/ الإداري/ الأخلاقي، المتشابك والمترابط، قد تحول خلال العقود الأخيرة إلى "منظومة" محبوكة، امتدت "فاعليتها" عبر الحياة الإدارية والمالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بعد ما كونت لنفسها "ثقافة" و"أدوات" ومفاهيم خاصة لشؤون المغرب والمغاربة، وهو ما جعلها لا تكتفي بالاعتداء على المال العام نهبا واختلاسا، ولكنها عمقت نفسها وثقافتها وأدواتها في مراكز القرار، حيث عملت بهدوء على احتكار السلطة، ومصادرة الحريات، وفساد الانتخابات وإضعاف المشاركة السياسية، كما عملت على تغييب المساءلة والمراقبة، وإلغاء دور الأحزاب والمجتمع المدني. ومن خلال ما تداولته وسائل الإعلام عن هذه المنظومة، يبدو أن "منظومة الفساد" قد استطاعت خلال العقود الأخيرة، استقطاب جيش من المفسدين الذين وظفوا مراكزهم الإدارية، و"مواهبهم" لتركيز ثقافة الرشوة والارتشاء، ودعم تهريب المخدرات وتبييض أموالها وتعميق ثقافة الابتزاز والزبونية والمحسوبية في الإدارة العمومية، وإعطاء "المشروعية" للفساد الانتخابي والاغتناء اللامشروع. وهو الجيش نفسه الذي أغرق المغرب في سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، التي عطلت/ وتعطل انتقاله الديمقرطي، بكل الوسائل والأسلحة. إن "الثقافة المخزنية" التي تناسلت قيمها بقوة في عهد الاستقلال، أوجدت شبكة سلطوية متداخلة مع شبكات الفساد، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إفساد الحياة السياسية/ المالية/ الاقتصادية، وتأهيل السلطة وأجهزتها، إلى بناء "نظام" تؤطره شبكات ومصالح وقوى نافذة، على حساب سلطة المؤسسات ببنياتها القانونية والدستورية والسياسية. ولعل أبرز المنجزات التي أنتجتها شبكة السلطة، (خاصة في عهدي الجنرال محمد أفقير وإدريس البصري) تلك المتصلة ب"النخب الجديدية" التي أوجدتها ودعمتها وزارة الداخلية، ماليا وسياسيا واقتصاديا وإداريا، والتي منحتها الامتيازات التي جعلت منها قوة يحسب لها الحساب. ففي علاقتها بهذه النخب، استطاعت "شبكة السلطة" ممارسة تزوير الانتخابات واصطناع الأحزاب والمقاولات وتشويه الخرائط السياسية والمخططات الاقتصادية، وقطع الطريق أمام كل قوى ديمقراطية، لا تدين للسلطة ولزبانيتها بالتبعية والولاء، وهو ما أدى إلى تحويل "منظومة الفساد" في العقود الأخيرة، إلى امبراطورية متعددة السلطات على الخارطة. استطاعت السلطة تحويل العديد من المؤسسات المالية والسياسية والاقتصادية إلى "امبراطوريات مالية خاصة" بعيدة عن المحاسبة والمراقبة والمساءلة، ولكن ذلك لم يمنع المجتمع المدني والصحافة، من فضح ممارسات هذه الإمبراطوريات، والتنديد بممارساتها والدفع بها للقضاء إلى احتوائها. في تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت سلطات إدريس البصري/ وزير الدولة في الداخلية، تحكم أنفاس المغاربة، انفجرت أخبار الفساد في العديد من المؤسسات والمقاولات والشركات الكبرى، في مقدمتها الخطوط الملكية المغربية، التي اعتبر ملفها شهادة حية على علاقة السلطة بالفساد المالي الذي عرفه المغرب، خلال تلك الفترة. وفي تسعينيات القرن الماضي أيضا، يتعرف المغاربة لأول مرة على شهادات البنك الدولي، عن علاقة السلطة بالفساد في بلادهم، ويتأكدون بالأرقام والحقائق الدامغة، أن الفساد يعيب إدارتهم واقتصادهم وماليتهم العامة، وأن المفسدين يشكلون جيشا ينخر عمودهم الفقري بشكل منهجي محكم، وأن السلوكات الإقطاعية لأرباب السلطة والمقاولات والشركات والصناديق المالية، حولت العديد من الأسماء الوازنة، إلى وحوش لا هوية لها. وعندما انتقل المغرب إلى "محطة التناوب" كانت السلطة حتى ذلك الوقت، تتجاوز بنفوذها وسلطاتها المفتوحة كل التقاليد وكل مفاهيم الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان، وكل القوانين المرتبطة بهما، وكانت بقوة سلطاتها اللامحدودة، تتحكم في الاستشارات الانتخابية، وفي تركيبة المجالس البلدية والقروية، وفي تشكيل البرلمان بغرفتيه بأشكال متعددة الأبعاد، كما كانت تطبع سيطرتها على الصناديق المالية والبنوك والمؤسسات الاستثمارية والمكاتب الوطنية، لتجعل هذه المؤسسات آلة طيعة في يد وزارة الداخلية، مما جعل غالبية هذه المؤسسات/ الدستورية والمالية، تنغمس في متاهات التدبير والتسيير المشوب بالخلل، انطلاقا من سياسة الزبونية وسياسات شراء الذمم والرشوة. في سنة 1998، جاءت حكومة التناوب (حكومة السيد عبد الرحمن اليوسفي) من أجل الإصلاح وإنقاذ المغرب من أزمة "السكتة القلبية"، ولكن وصولها إلى الحقائق المتصلة بالاختلالات التي ضربت الاقتصاد الوطني والمؤسسات المالية خلال السنوات الماضية... كانت نتائجها مفزعة. وجعلت الشيء المؤكد أمامها، أن التحقيق في بعض ملفات الفساد، يعصف بالعديد من الرؤوس، ويفضح العديد من الممارسات ويجعل قضية الفساد في الاهتمام الشعبي المباشر، وهي نتائج لا يمكن التقليل من أهميتها، ولكنها في النهاية ترحل، لتترك دار لقمان على حالها. ردود فعل المجتمع المدني، تجاه "المبادرات" التي اتخذتها حكومة التناوب ضد الفساد المالي، كانت مبادرات محتشمة، لا تضرب في عمق إشكالية هذا الفساد، ولا تمس "بقادته ورموزه". الملفات التي أحيلت على محكمة العدل الخاصة أو على لجان التحقيق بالبرلمان أو التي تداولتها أجهزة الإعلام، كانت ملفات محدودة بالنظر إلى حجم الفساد المستشري في عروق الإدارة والمقاولات والصناديق والشركات وفي أجهزة العدل والأمن والجمارك وغيرها من الدواليب العميقة، مما جعل حكومة اليوسفي في مأزق لا تحسد عليه، فقد كانت المعطيات الأولية للملفات المعروضة على القضاء، أو التي أعلنت وزارة العدل عن انشغالها بتجهيزها وإعدادها للمحاسبة القضائية، تعبر بشفافية ووضوح عن هول الكارثة التي دبرتها "منظومة الفساد" ضد البلاد والعباد... ولكنها بقيت حتى الآن بدون تفاصيل. إن البرلمان بمجلسيه، طالب بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول الفساد الذي ضرب بعض المؤسسات المالية، لكن الفساد كان أكبر وأوسع وأشمل من ذلك بكثير، أنه يتعلق بوضعية شاملة، تتداخل على ساحتها، ممارسات وقضايا وأسماء وحالات ومليارات، يمكنها أن تقلب معادلة الفقر، إذا أعيدت إلى خزائن الدولة ووظفت بصدقية في مشاريع التنمية البشرية. الخبراء يؤكدون، أن المغرب تجاوز أزمة " السكتة القلبية" سنة 1998، ولكنه في سنة 2008، وصل مرحلة "السكتة الدماغية". وهو ما يعني أن حالة الإنقاذ المستعجل، تفرض نفسها اليوم بقوة، على المغرب والمغاربة. أفلا تدركون؟