في تقديري اختيار البريطانيين لطريق الخروج من الإتحاد الأوربي قرار صائب إلى حد كبير و يعكس رغبة مواطني هذا البلد في تحقيق مستويات عيش أفضل، فبعيدا عن قراءات المحللين و رجال السياسة و الاقتصاد و خبراء البورصات و العملات تأكد بالملموس أن شعارات الوحدة و التكامل و تقاسم الثروة لم تستطع الصمود و المقاومة أمام شعار "بريطانيا أولا" الذي كان حكما في حسم معركة حامية الوطيس بين دعاة البقاء و دعاة الخروج من حضن الإتحاد الأوربي، و لأن كل مواطن يأمل في الرفاهية و الاستقرار الاقتصادي و الاجتماعي فإن البريطانيين كانوا أكثر وعيا بضرورة تفادي بلدهم لكل ما يمكن أن يعكر صفو حياتهم من قبيل أزمة اللاجئين و أزمة اليونان التي اعتبرتها بعض دول الإتحاد في مقدمتها ألمانيا ملفات وجب التعاطي معها بمقاربة تضامنية و انخراط كافة الدول ذات الاقتصاديات الأكثر قدرة على التخفيف من حدة الوضع المتردي الناجم عن أزمة اللاجئين واندحار اقتصاد اليونان. وبين هذا و ذاك اتضح للبريطانيين أن تراجع مؤشرات الاقتصاد الأوربي لم تعد تشجع على البقاء في دائرته إيمانا منهم أن تواجدهم في هذا الإتحاد كان مقترنا بمدى إمكانية تقاسم الفائدة و الرفع من الدخل و تحفيز الاقتصاد لكن أن تتحول العضوية في الإتحاد الأوربي إلى نقمة و مبررا لتلقي الكدمات الناجمة عن انضمام دول جديدة وسط تنامي موجات الهجرة و تنوع مظاهر الإرهاب و تراجع في موقع بريطانيا أوروبيا و قبولها بريادة ألمانيا و فرنسا، فإن ذلك شكل من قريب أو بعيد عنصرا مؤثرا في عملية الاستفتاء التي شهدت تدافعا كبيرا بين مختلف التلاوين السياسية و النقابية الداعية للتصويت لفائدة هذا التوجه أو ذاك حسب مدى استفادة كل طرف و طبيعة مصالحه و اختياراته المستقبلية. مسألة التكتل في اتحادات إقليمية على أساس اقتصادي بالرغم من إيجابياتها و امتداداتها و تأثيراتها على قطاعات كثيرة فهي تحمل معها هواجس من تضييع الوقت فقط في التضامن بين الأعضاء و محو الفوارق و الفجوات الاقتصادية خاصة لدى الدول الأحسن وضعا و الأفضل عيشا. الآن لم تعد لنظرية التكتلات و الاتحادات الإقليمية تلك القوة التي اكتسبتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فبعد تفكك الإتحاد السوفياتي وتناسل دول من رحم دول أخرى بأوربا الشرقية فضل البريطانيون معانقة حلم بريطانيا قوية بذاتها وبمؤهلاتها واضعين نصب أعينهم التجارب الناجحة داخل القارة العجوز في كل من سويسرا والنرويج والسويد مقياسا محفزا لذلك. ولعل ما ذهب إليه أردوغان من تلويح بإمكانية عدم مواصلة التفاوض مع الإتحاد الأوربي بهدف انضمام تركيا لأكبر تكتل و أقواه اقتصاديا هو إشارة إلى أن العضوية في الإتحاد الأوربي لم تعد تغري كما في السابق ولا تعني دائما تلك النظرة الوردية و الرفاهية، فبين تفاصيلها منعرجات و دهاليز ومطبات جعلت بريطانيا تختار طريق الهروب من أزمات و معاناة لا تبدو لها نهاية.