عقب انتهاء الحرب العامية الثانية وما حملته من كوارث ومآسٍ وخسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وجدت أوربا نفسها، وقد كانت المسرح الرئيسي لأحداث أعتا حربين عالميتين عرفهما التاريخ، متهالكة ومثخنة الجراح ومثقلة بالأعباء والخسائر. وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ عقلاء أوربا يفكرون في الأسباب التي جرّت على قارتهم ويلات الحرب والدمار، فتوصلوا إلى أن السبب يكمن في التنافس الشديد الذي كان قائما بين النظم القومية الأوربية التي كانت سائدة حينئذ، وخلصوا إلى أن تحقيق الوحدة بين الدول الأوربية هو السبيل الوحيد إلى إحقاق السلام والضمانة لعدم تكرار حروب أخرى. فكان أن تم تأسيس نواة الاتحاد الأوربي سنة 1951. يشكل الاتحاد الأوربي القوة الفلاحية الثانية في العالم، ويعتبر الاتحاد ثاني قوة صناعية في العالم رغم نقص بعض مصادر الطاقة، كما يعتبر أول قوة تجارية عالمية حيث يحقق 38% من حجم المبادلات العالمية لكون صادراته من المنتوجات الصناعية تبلغ 85 %. لكن بعد ثماني وخمسين سنة على تأسيسه، يعيش الاتحاد الأوربي أحلك أيامه، فهو يواجه تحديات حقيقية تهدد استمراره كأحد أنجح التكتلات التي عرفها التاريخ. وتتنوع هذه التحديات ما بين مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية وديموغرافية. فما هي التحديات التي تهدّد بنهاية أحد أقوى التكتلات في العالم؟ الأزمة الاقتصادية، أزمة اليونان نموذجا هي أزمة مالية عصفت بالاقتصاد اليوناني في أبريل 2010 حينما طلبت الحكومة اليونانية من الاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي تفعيل خطة إنقاذ تتضمن قروضا لمساعدة اليونان على تجنب خطر الإفلاس والتخلف عن السداد، وكانت معدلات الفائدة على السندات اليونانية قد ارتفعت إلى معدلات عالية نتيجة مخاوف بين المستثمرين من عدم قدرة اليونان على الوفاء بديونها، سيما مع ارتفاع معدل عجز الموازنة وتصاعد حجم الدين العام. هددت الأزمة اليونانية استقرار منطقة اليورو وطرحت فكرة خروج اليونان من المنطقة الاقتصادية إلا أن أوربا قررت تقديم المساعدة إلى اليونان مقابل تنفيذها لإصلاحات اقتصادية وإجراءات تقشف تهدف إلى خفض العجز بالميزانية العامة.. أدت أزمة ديون اليونان إلى تبني سياسة تقشفية مفروضة من قبل الأجهزة الأوربية أثرت بشدة على الحالة الاقتصادية للمواطنين، لذلك قرر اليونانيون التخلي عن هذه السياسة عن طريق الاستفتاء العام، الأمر الذي يمهد الطريق لخروج البلد من منطقة اليورو. كان لخطة التقشف المفروضة على اليونان نتائج عكسية، فقد أدت إلى انهيار العديد من الشركات والمشاريع الاستثمارية المتوسطة والصغيرة، وتفاقم الخلل الهيكلي في بنية الاقتصاد اليوناني، وتراجع قياسي في معدلات الاستثمار، وهجرة رؤوس الأموال والكفاءات إلى الخارج، وبالتالي نقص السيولة النقدية وعجز في عمليات التمويل. أما على الصعيد الاجتماعي، فقد أدى الالتزام بخفض الإنفاق على برامج الخدمات الحكومية خاصة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم، واستمرار تقليص الهياكل الوظيفية بالقطاع العام بما يستدعيه من موجات تسريح جديدة للموظفين، واعتماد قوانين وتشريعات توظيف أكثر تراخيا فيما يخص حقوق العمالة سواء من حيث مستويات الرواتب أو سهولة التسريح، في محاولة لجذب الاستثمارات، فقد حققت معدلات البطالة ارتفاعا قياسيا جديدا حيث بلغت27,6 في المائة. بينما بلغت نسبة العاطلين عن العمل من الشباب 64.9 في المائة. وعلى صعيد الوظيفة العمومية، نصت سياسة التقشف المفروضة على الحكومة اليونانية على مواصلة تقليص عدد المتعاقدين مع الدولة وإلغاء الاستثناءات بمعدل عقد واحد مقابل كل خمسة موظفين تركوا العمل وفتح باب الإقالات، ما كان له نتائج وخيمة على مستوى عيش اليونانيين الذين كانوا قد تعودوا على العيش في رفاهية قبل حلول الأزمة الاقتصادية. نتيجة لهذه السياسة أدرك اليونانيون سقم وصفات الاتحاد الأوربي و»صندوق النقد الدولي»، وأن وجودهم في منطقة اليورو يجب أن لا يكون ثمنه الإبقاء على سياسات التقشف، وعبروا عن موقفهم من خلال صناديق الاقتراع، وانتصار اليسار في الانتخابات البرلمانية التي أفرزت فوز حزب سيريزا المعارض لسياسات التقشف. فشلت المفاوضات بين الحكومة اليونانية ووزراء مالية دول الاتحاد الأوربي في التوصل إلى تفاهم حول إعادة صياغة شروط برنامج الإنقاذ المالي لأثينا، مما حذا بالرئيس اليوناني أليكسيس تسيبراس إلى تنظيم استفتاء عام عقد في 5 يوليو 2015، حول قبول مقترحات الإنقاذ المالي التي قدمها الاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوربي. رفض الناخبون اليونانيون بشكل حاسم شروط التقشف القاسية التي حاول الدائنون الدوليون فرضها على بلادهم من أجل مساعدتها ببرنامج إنقاذ مالي جديد. وأوضح الاستفتاح أن 61.3% من اليونانيين يرفضون الشروط التي فرضها الاتحاد الأوربي في مقابل 38.7% أيدوا الشروط. انتهت المفاوضات بموافقة البرلمان على إجراءات تقشف جديدة للحصول على قرض من الدائنين الأوربيين، ولكن العديد من أعضاء حزبه اليساري «سيريزا» عارضوا تلك الإجراءات، ما دفع بالرئيس اليوناني إلى تقديم استقالته، والدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. ويرى العديد من المراقبين أن أزمة اليونان لم تُحل نهائيا. تنامي التوجه الوطني القومي يعيش الاتحاد الأوربي تحديا جوهريا يتمثل في تنامي التوجه الوطني والقومي في ظل صراع المصالح بين أعضاء هذا الاتحاد، الذي يعاني بعض أعضائه من ثقل الديون الناتجة عن الأزمة المالية التي ضربت أوربا سنة 2008. أظهرت الأزمة الأوكرانية التباين الكبير في وجهات النظر داخل الاتحاد الأوربي حول فرض العقوبات على روسيا. ففي الوقت الذي أبدت فيه دول أوربا الشرقية حماستها لفرض عقوبات سريعة على روسيا، تحفظت فرنساوألمانيا اللتين تربطهما علاقات تجارية وعسكرية مع روسيا، بينما عارضت بريطانيا فرض قيود على القطاع المصرفي الروسي تخوفاً من تداعيات محتملة في أوربا. وتفادى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إعلان أن العقوبات المحتملة قد تستهدف القيادة الروسية.»وحذر وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير من أن فرض عقوبات على روسيا «سيُضيع فرصة إيجاد حل دبلوماسي». وقد أدى التباين الحاصل حول طريقة التعاطي مع الأزمة الأوكرانية انقساما واضحا بين فريقين في أوربا: الأول شكلته دول أوربا الشرقية بدرجة أولى، طالب بضرورة فرض عقوبات على روسيا وردعها، والفريق الثاني تحفظ على فرض عقوبات اقتصادية نظرا للمصالح الاقتصادية التي تربطه بروسيا. استفتاء المملكة المتحدة وضعت بريطانيا أوربا أمام مفترق طرق صعب جدا، حيث أعلن رئيس الوزراء البريطاني في خطاب موجه للأوربيين رغبته في إعادة التفاوض على شروط ووضع بريطانيا في الاتحاد الأوربي، وطرح نتائج هذا التفاوض في استفتاء عام، من المرتقب إجراؤه سنة 2017. ويعتبر هذا الموقف البريطاني من أهم التحديات التي تهدّد وحدة الاتحاد الأوربي. حين يرى ديفيد كاميرون وحزبه أهمية الاتحاد الأوربي بالنسبة للبريطانيين، فإنه يرى أن هذه الأهمية ترتكز على ما يضيفه هذا الاتحاد للأوربيين من قيمة تتمثل في رفع مستوى معيشتهم ورخائهم. ويعتبر كاميرون أن الاتحاد أصبح أكثر تدخلا وتقييدا لحياة الأوربيين مما كان متوقعا، أو بمعنى آخر أصبح عبئا كبيرا عليهم. ما يستوجب إعادة التفاوض حول شروطه. كاميرون بالتحديد يريد استعادة بعض السلطات التي تخلت عنها بريطانيا للاتحاد الأوربي، بما في ذلك تحديد ساعات العمل، والاتفاقيات المتعلقة بالجوانب الأمنية وتبادل المجرمين، وأخيرا وهو الأهم هو خوف بريطانيا من سيطرة دول منطقة اليورو ال 17 على مجريات اتخاذ القرار في الاتحاد الأوربي. وكنتيجة لهذا الوضع، تعهد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بإجراء استفتاء حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوربي سنة 2017 في برنامج حزب المحافظين، معربا عن اعتقاده بأن إجراء تصويت سيوفر أفضل فرصة للحصول على تنازلات من بقية دول الاتحاد. يذكر أن استطلاعات للرأي أجريت منذ عام 2010 أظهرت انقسام الرأي العام في بريطانيا حول هذه الفكرة. وسجل العدد القياسي للراغبين في الخروج من الاتحاد في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2012، إذ بلغ 56 % ممن شملهم الاستطلاع… اليمين المتطرف ساهمت عدة عوامل في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوربا. فقد شكلت الأزمة الاقتصادية وما أعقبها من ارتباك وعدم نجاح سياسات التقشف والإصلاح الاقتصادي في تنامي هذا التيار السياسي المتطرف. إضافة إلى عوامل أخرى تمثلت في ارتفاع معدلات الهجرة وموجات اللاجئين الوافدة إلى دول الاتحاد. فحسب تقارير أصدرتها هيئة الأممالمتحدة ومنظمة العفو الدولية، بلغت أعداد المهاجرين غير الشرعيين في السنة الماضية 200.000 شخص أغلبهم من المسلمين. أضف إلى أن زيادة معدلات الهجرة غذّت المخاوف من التحول الديموغرافي في أوربا لصالح الجاليات المسلمة، رغم أنه في الحقيقة، تبلغ نسبة المسلمين في أوربا 4 في المائة فقط من مجموع سكان أوربا. ساهمت هذه التحولات مجتمعة في إعطاء مصداقية لخطاب الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة، وركزت أغلب أحزاب وحركات هذا التيار على النقاط التالية: التنديد بسياسات التقشف والإصلاح الاقتصادي وعدم فاعليتها، وانتقاد استمرار تحكم المؤسسات الأوربية في مجريات الدول الأعضاء. انتقاد النخبة السياسية القائمة وتوظيف فشلها في سنوات ما قبل الأزمة المالية وتأكيد إفلاسها عموما. التأكيد على فساد النخبة القائمة والحاجة لبديل فعال يتسم بالنزاهة. تأكيد عجز الحكومات والمؤسسات الأوربية، بدعوى الانفتاح والتعددية الثقافية، عن وقف زحف المهاجرين واللاجئين بما يغير من الواقع الديموغرافي لأوربا، ويشكل ضغطا على مرافقها ومواردها، ويقدم منافسا أرخص للعامل الأوربي. في بريطانيا، يرجع المحللون الموقف الذي يتخذه حزب المحافظين بقيادة دافيد كاميرون من العلاقات مع الاتحاد الأوربي، خاصة فيما يتعلق برغبته في تقييد حرية الحركة لمواطني دول الاتحاد، وقوانين الهجرة، إلى حاجته لمواجهة صعود حزب الاستقلال اليميني الذي يكتسب تأييدا شعبيا نظرا لمواقفه المتشددة تجاه هذه القضايا. وتعد ألمانيا نموذجا يبرهن على أن صعود اليمين قد أصبح ظاهرة في أوربا، حيث أنه حتى في البلد الذي يتمتع بحساسية تاريخية خاصة ضد صعود التيارات والأحزاب اليمينية المتطرفة، ظهر إلى الوجود أخيرا كيانان جديدان ينتميان لهذا التيار، حركة PEGIDA المناهضة للهجرة وللوجود الإسلامي في ألمانيا، وحزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني والمناهض للاتحاد الأوربي. وفي فرنسا صعد حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف على حساب الأحزاب اليمينية واليسارية التقليدية في فرنسا. ويعتبر حزب «الجبهة الوطنية» أن فرنسا في خطر محدق يتمثل أساسا في العرب والمسلمين الذين «يغزون» فرنسا بشكل يومي. ويعتبر صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة تعزيزا لموقف المناوئين للاتحاد الأوربي. وفي هذا السياق، اعتبرت صحيفة «فايننشال تايمز» أن فوز الأحزاب الشعوبية يمكنها من تشكيل مجموعة ضغط في البرلمان الأوربي تمتلك الأموال والمنابر لتدمير الاتحاد الأوربي. التحدي الديموغرافي بات من الواضح أن التغيير الديموغرافي المنتظر من شأنه أن يجعل أوربا في نصف القرن القادم مختلفة تماما عما كانت عليه طيلة نصف القرن الذي مضى. حيث سيشهد الاتحاد الأوربي خلال العقود الخمسة القادمة انحسار موجة ازدهار المواليد، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تحميل قوة العمل المتضائلة عبئا ثقيلا يتمثل في دعم الرعاية الصحية ومعاشات التقاعد للمتقدمين في السن. فبحلول عام 2050، سيتجاوز عمر 36 في المائة من الأوربيين الستين عاما. إضافة إلى أن انخفاض نسبة المواليد تعني بداية تضاؤل تعداد السكان في أوربا بحلول عام 2020. وفي الواقع، يرى بعض المراقبين أن الهجرة بالنسبة إلى أوربا لا تمثّل خطراً بل فرصة. فإذا كانت الهجرة كابوساً لأنها تحمل إلى أوربا عناصرَ غير قابلة للاستيعاب أو للذوبان في مجتمعاتها، لكنها حلم لأن أوربا تعاني من الشيخوخة الديموغرافية، وتحتاج تالياً إلى الأيدي العاملة والشابة. أي أن أوربا في حاجة إلى الهجرة، لدواعٍ اقتصادية، لكنها تحاربها في الوقت ذاته لدواعٍ سياسية وأمنية وحضارية. انهيار الاتحاد الأوربي لم يمض وقت طويل حتى بدت الوحدة الأوربية وكأنها قوة تاريخية لا يمكن وقفها، مع إزالة الحواجز السياسية والاقتصادية بين الدول واختفاء النزعات الإقليمية والقومية من الحياة السياسية في القارة. وخلال عشر سنوات، بدا كل ذلك وكأنه حدث منذ زمن بعيد. يكشف تقرير مؤسسة ستراتفور الأمريكية عن مستقبل وحدة الاتحاد الأوربي مشيرا إلى أن أوربا ستشهد تقسيما إلى أربع مناطق وستصبح متباعدة عن بعضها البعض بصورة متزايدة: أوربا الغربية وأوربا الشرقية والدول الاسكندنافية، والجزر البريطانية. ستوجد هذه المناطق إلى جانب بعضها البعض، لكنها لن تكون مرتبطة على نحو وثيق كما كانت من قبل، حسب التقرير. قد يبقى الاتحاد الأوربي بشكل أو بآخر، ولكنّ العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية في أوربا سيجري التحكم فيها من خلال العلاقات الثنائية أو العلاقات المتعددة الأطراف التي ستكون صغيرة من حيث النطاق وغير ملزمة في الوقت نفسه. وقد تحافظ بعض الدول على عضويتها في الاتحاد الأوربي مُعدّل بشكل تام، ولكن هذا لن يوحد أوربا.