تختزل أغطية الرؤوس في فرنسا، بحكم الأجناس والألوان العديدة التي تعيش فوق ترابها، كمّا هائلا من الطقوس والعادات التي تداولها المجتمع البشري على امتداد العصور. ففي أول لقاء لك مع باريس، ينتابك الشعور بأن عشرات المدن تحيى في قلب المدينة. مجتمعات تنطق بهويتها وخصائصها من خلال ما تحمله فوق رؤوسها، من إفريقيا بطواقيها الضاجة بالألوان الزاهية، إلى أمريكا بالطرابيش المكسيكية العريضة، وطرابيش رعاة البقر، مرورا بالهند بعماماتها الراجستانية، ومصر وبلاد الشام بلفات الرأس المختلفة، والمغرب برزاته وطرابيشه الوطنية والمراكشية، وما إلى ذلك من أجناس وألوان مختلفة حملت معها إلى باريس مكونات هويتها وثقافتها. فالبعض يرى في هذه الأغطية رمزا للأناقة والجمال، وآخرون يضعونها في صميم الهوية الدينية، فيما تتعامل معها بعض الشعوب لمجرد الاحتماء من البرد والحر، وتذهب شعوب أخرى إلى اعتبارها رمزا للشرف، مما يجعل التعامل معها أمرا حساسا للغاية. وقد اكتشفت بعض دور الأزياء الفرنسية في أغطية الرؤوس بمختلف أشكالها وألوانها، منجما ذهبيا في مجال الأناقة النسائية والرجالية، وتفننت في طريقة التعامل مع إكسسوارات الرأس مستلهمة أفكارها من ثقافات وعادات غابرة. وتكشف المصممة ناتالي جونان التي تقيم حاليا معرضا لأغطية الرؤوس بمدينة كورباي بضواحي باريس، يستمر إلى غاية 12 يوليوز الجاري، أنها تحاول في كل معرض، السفر بجمهورها طورا إلى الحضارات الغابرة في المكسيك، وطورا إلى سواحل جزر الكرايبي، أو إلى عهد كليوبترا ومصر القديمة، لتنقل إليه نماذج من حضارات مختلفة بعد أن أضفت عليها لمسة باريسية من حيث نوعية القماش وقوة الألوان. ويرصد المعرض من خلال القطع المصنوعة بحس وذوق رفيعين، المسار المتفرد لهذه المصممة الباريسية التي تستقي مكونات أعمالها من ثقافات وبيئات مختلفة، تمارس عليها فعل التغيير في النسق الإبداعي الشكلي، دون المساس بجوهرها وبالمناخ العام الذي نمت وترعرعت فيه. ويضم المعرض في الرواق الخاص بالرجال، مجموعة من "الكاسكيطات" الأسترالية الصارخة الألوان، وطرابيش رعاة البقر المتجذرة في عادات المجتمع الأمريكي كرمز للجمال والقوة قبل أن تتحول إلى رمز للأناقة الهوليودية، والطرابيش الكنائسية المزركشة السائدة في القرون الوسطى وعصر النهضة، وغير ذلك من أغطية الرؤوس المنتشرة في تركيا وآسيا وإفريقيا وغرب أوربا. وتقابلها في الرواق النسائي مجموعة من "البيريات"، معظمها ذات أصول صينية مصنوعة بأقمشة من الساتان الرفيع، وبعض لفات الرأس السائدة في أوربا، والتي ترجمتها إلى غطاء هندي صرف، يمكن لسيدة بورجوازية أن تزينه بجوهرة نفيسة. وتكشف جونان ل"العلم" أن العمامة لم تمارس عليها جاذبية قوية على الرغم مما كان لهذا الأكسسوار من صيت كبير في الأوساط الأوربية والأمريكية خلال الخمسينات والستينات، حيث تزينت به عدد من نجمات هوليود وهن في عز شبابهن، وخاصة إليزابيت تايلور في فيلم "أربعاء الرماد" سنة 1973. وبعيدا عن المعرض، يصادفك في الأحياء الباريسية ذات الكثافة العربية والإفريقية، كمّ هائل من أغطية الرؤوس المختلفة، حيث تتجاور الرزة المغربية والطاقية المراكشية والطربوش الوطني، مع اللفة الجزائرية بألوانها الزاهية، والطربوش التونسي بعذبته المدلاة، والطاقية الإفريقية المخروطة الشكل، والعمامة الشامية ذات العشرة أمتار بدلالاتها الدينية والعلمية، من عمامة الشيخ الطهطاوي المسترخية إلى الخلف إلى عمامة أيمن الظواهري المشدودة على الوجه. ويرفض المغاربة من أبناء الجيل الأول، التخلي عن رزاتهم البيضاء المسترسلة إلى حد الكتف، غير عابئين بانزعاج أبنائهم من مثل هذه الكُرات المستديرة فوق رؤوسهم، ويعتبرون التخلي عنها نوعا من التنكر للهوية المغربية، ثم ما العيب في ارتدائها ما دامت تقيهم من الحر والبرد معا، وتمكنهم من حفظ بعض الوثائق في ثناياها وحتى بعض الأوراق النقدية أحيانا. ويستشهد بعض العارفين بالمكانة المتميزة للرزة أو العمامة عند العرب، بما قال عنها اللسان العربي من أنها "مدفأة في القر ووقاية في الحر، وزيادة في القامة، وهي فوق ذلك تيجان العرب". تلك هي باريس حاضنة التنوع والتجانس البشري، ولولاها ما كان بإمكاننا إحصاء العشرات من أغطية الرؤوس المختلفة التي نصادفها في أحيائها وشوارعها، حيث كل جنس يتصرف مع هذه الأغطية وفق ما ترمز إليه من قيمة ثقافية وتراثية، وما تحمله من مرجعية وطنية. وحتى لو كانت بعض أغطية الرؤوس تعرف اليوم نوعا من التراجع بسبب عدم تناغمها مع مستلزمات العصر، فإن الكثير منها يظل شاهدا وحاميا للهوية الثقافية للمجتمعات، ضدا على المثل القائل : " الرأس بما يحمله، لا بما يُحمل عليه".