يوم الجمعة 18 ديسمبر 2015 استخدمت وسائل الإعلام العالمية كلمات مفاجأة، إجماع نادر، سابقة، إلى غير ذلك من الألفاظ والتعبيرات التي تعكس وقوع أمر غير عادي ولا متوقع. ففي ذلك اليوم وفجأة وبإجماع قل نظيره تبنى مجلس الأمن الدولي قرارا دوليا يستهدف إنهاء النزاع الدائر في سوريا منذ نحو خمس سنوات، ويدعو القرار إلى وقف لإطلاق النار على كافة الأراضي السورية وبدء مفاوضات رسمية حول عملية انتقال سياسي بين ممثلين عن النظام والمعارضة اعتبارا من مطلع يناير 2016. القرار دعم خطة الحل في سوريا عبر ما اتفقت عليه في فيينا وجنيف دول مجموعة دعم سوريا .. ويدعو القرار الأممالمتحدة إلى رعاية مباحثات بين الحكومة والمعارضة، بالتوازي مع إقرارِ وقف لإطلاق النار بين الطرفين، ويكلف الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص إلى سوريا ستيفان ديستورا بالإشراف على ذلك .. على أن تشكل حكومة توافق خلال ستة أشهر، وتجرى إنتخابات عامة في غضونِ سنة ونصف .. ولم يأتي نص القرار على ذكر مستقبلِ الرئيسِ الأسد ودورهِ خلال المرحلةِ الإنتقالية وبعدها، إلا أنه شدد على أن الشعب السوري يقرر مصيره بنفسه، وهو ما أصرت عليه موسكو دائما، في حين كان المعسكر المساند للولايات المتحدة يشترط لإنهاء الحرب استبعاد الرئيس السوري وحزب البعث وجزء كبير من أجهزة الدولة وخاصة العسكرية والأمنية، أي تكرار ما نفذته واشنطن في العراق بعد إحتلاله في أبريل 2003. استعادة 92 في المئة من الأراضي المهم أن القرار يوضح ان وقف اطلاق النار لن يشمل العمليات التي تستهدف المجموعات المتطرفة مثل جبهة النصرة وتنظيم داعش. ويدعو إلى "القضاء على الملاذات التي اقامتها على جزء كبير" من أراضي سوريا. وهكذا وبما أن جل التقارير الدولية ومن ضمنها الغربية، تفيد أن تنظيمات داعش والنصرة والتفريعات الأخرى لها تسيطر على أكثر من 92 في المئة من الأراضي غير الخاضعة للجيش النظامي السوري، أما النسبة الباقية أي 8 في المئة فهي للقوى الأخرى، فإن ذلك يعني أنه لن يتم وقف إطلاق النار سوى بعد استعادة قوات الجيش السوري على الجزء الأكبر من أراضي البلاد، وبالتالي فإن وزن المعارضة في أي مفاوضات يساوي حجم سيطرتها على الأرض وهو قليل. وتجدر الإشارة هنا إلى وجود خلافات بشأن تصنيف التنظيمات المسلحة التي تقاتل على أرض الشام خاصة بعد أن ذكرت تقارير دولية أن هناك 37 ألف مسلح غير سوري يقاتلون الجيش النظامي. وقد فشل الاجتماع الوزاري ل "المجموعة الدولية" في إقرار قائمة موحدة بعد تقديم وزير الخارجية الأردني ناصر جودة إفادة حول نتائج استشارات أجرتها عمان مع أطراف مختلفة وتضمنت قائمة مقترحة بنحو 167 تنظيما "إرهابيا". وعندما أصرت دول على إدراج فصائل معارضة مثل "أحرار الشام" و"جيش الإسلام"، ردت دول عربية باقتراح 18 ميليشيا إيرانية، بينها "الحرس الثوري الإيراني" وحزب الله اللبناني. وكانت التسوية بتشكيل مجموعة عمل من إيرانوروسيا والأردن وفرنسا كي تقدم لائحة إلى الأممالمتحدة. وكان الجانب التركي قد اقترح وضع "حزب الاتحاد الديموقراطي" بزعامة صالح مسلم ضمن لائحة الإرهاب على رغم دعم أمريكا قواته "وحدات حماية الشعب" ضد "داعش". ويقترح المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، في المقابل، أن يكون مسلم جزءا من الوفد التفاوضي. هناك كذلك خلاف بشأن تمثيل المعارضة أو "القائمة البيضاء". إذ أصرت روسيا على نقل فقرة تتعلق بالإشادة بنتائج المؤتمر الموسع للمعارضة السورية في الرياض من الفقرات العاملة في القرار 2254 إلى المقدمة، إضافة إلى أنها أضافت مؤتمري القاهرةوموسكو، كي يقوم دي ميستورا بالاختيار منها "المؤتمرات الثلاثة" وفدا للمعارضة. ووافقت واشنطن على ذلك بعدما حذفت اقتراحا روسيا بالاعتماد أيضا على مؤتمري المعارضة في دمشق للأحزاب المرخصة من حكومة دمشق والحسكة الذي عقدته الإدارات الذاتية الكردية بالتزامن مع مؤتمر الرياض، وانتخبت "المجلس السوري الديموقراطي". وتردد أن دي ميستورا وافق على اقتراح موسكو إضافة أسماء إلى الوفد المعارض، بينهم هيثم مناع ممثل "المجلس السوري الديموقراطي" وقدري جميل. 100 الف مسلح قبل أن تمر أكثر من 48 ساعة على صدور قرار مجلس الأمن الدولي 2254 تم الكشف عن الأخطار التي ولدتها جهود أطراف ودول مختلفة لصنع التنظيمات المسلحة المتطرفة في سوريا والعراق وذلك في تقارير غربية حاولت إلى حد ما ولكن دون نجاح كبير لي الحقائق وتقديم صور ملتبسة. يوم 20 ديسمبر أقر مركز أبحاث الدين والجغرافيا السياسية الموجود مقره في بريطانيا أن وجود 100 ألف مقاتل ينتمون لجماعات مسلحة سيشكلون خطرا على العالم حال هزيمة تنظيم داعش. وأشار مسح جديد أن هناك ما لا يقل عن 15 قوة من المتمردين جاهزة لتتحول إلى تنظيم الدولة الإسلامية، إذا نجحت قوات التحالف في إلحاق أضرار كبيرة به. وأفاد مركز الدين والجغرافيا السياسية، أن هناك أيضا 60 بالمئة من المتمردين يمكن أن يصنفوا كمتطرفين. ويوضح أن محاولات القوى الدولية للتمييز بين الفصائل المعتدلة والمتطرفة أمر خاطئ. وذكر المركز إن أكبر خطر على المجتمع الدولي هو الجماعات التي تشارك تنظيم الدولة الإسلامية نفس الأفكار لكن يجري تجاهلها حاليا موضحا أنها تمتلك حوالي 100 ألف مقاتل. وأضاف: "الغرب يخاطر بارتكاب فشل استراتيجي بالتركيز فقط على تنظيم الدولة". ويردف "هزيمة التنظيم عسكريا لن تنهي الجهاد العالمي، ونحن لا يمكننا قصف عقيدة، ولكن حربنا هي حرب ذات طابع عقائدي". وحذر من أنه في حال هزيمة التنظيم فإن المقاتلين الفارين وغيرهم من المتطرفين سيهاجمون أهدافا خارج سوريا تحت شعار "الغرب دمر الخلافة". هذه المجموعات الجديدة يمكن أن تتنافس لضمان الولاء من المقاتلين العالميين والحصول على التمويل الذي يحصل عليه التنظيم حاليا. وذكر المركز على النقيض من ذلك، فإن أقل من ربع المتمردين الذين شملهم الاستطلاع لم يكن لديهم عقيدة ثابتة. لكن الكثير من هؤلاء كانوا على استعداد للقتال إلى جانب المتطرفين، وربما قبول تسوية سياسية وصفها بالإسلامية لتلك الحرب. وقال المركز، يجب أن تصاحب الحملة العسكرية ضد تنظيم الدولة "هزيمة فكرية للعقيدة الخبيثة التي تقود التنظيم". عقبات رغم الصخب الذي حظي به القرار 2254 على اعتبار أنه يمثل أول إجماع دولي بشأن إيجاد حل للأزمة السورية، إلا أن الواضح أن هناك عقبات كثيرة وشياطين تكمن في التفاصيل .. خصوصا أن الخلافات مازالت كبيرة بشأن مستقبلِ الرئيس الأسد وهيئات الدولة وقائمة المنظمات الإرهابية والأخرى التي تعتبر معتدلة وسورية التكوين .. وليس هناك إتفاق واضح على تمثيلِ المعارضةِ السورية في الحوار المرتقب بعد رفضِ روسيا نتائج مؤتمر الرياض باعتباره لا يمثل مواقف الجميع كما أن تنظيمات تعتبر لدى بعض الأطراف إرهابية قد شاركت فيه. يعكس معلقون غربيون بعض وجهات نظر أطراف سياسية ليست من كبار أنصار مشروع المحافظين الجدد للشرق الأوسط الجديد. يقول هؤلاء أن مبعث الخوف بعد قرار مجلس الأمن هو ترحيل الخلافات المستعصية ما قد يشكل قنبلة موقوتة تعطل الاستمرار في تسوية الأزمة. أهمية القرار الأممي تكمن في أنه يمثل خريطة طريق متكاملة للتسوية السياسية ضمن سقف زمني محدد. لكن كل بند من بنود القرار ربما يحتاج إلى مفاوضات وجهود مضنية لإنهاء الغموض، وتنفيذ القرارات. فجميل أن يأتي قرار مجلس الأمن على أن "الوسيلة الوحيدة لتسوية دائمة للأزمة السورية هي عملية سياسية مفتوحة يقودها السوريون وتلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، وتجري في إطار التطبيق الكامل لبنود مؤتمر جنيف الذي صدر في ال30 من يونيو 2012 وتم تبنيه بالقرار رقم 2118" في 2013.. لكن المثير للقلق هو أن مرجعية "جنيف 1" لا تعني الكثير في ظل استمرار الاختلاف في تفسير الإعلان بين الأطراف المختلفة وخاصة فيما يتعلق بدور هيئة الحكم الانتقالي، ومصير الرئيس السوري بشار الأسد في المرحلة الانتقالية وبعدها، وهو ما عطل حتى الآن التوافق الدولي. وفيما يخص وقف إطلاق النار، فإنه بالتأكيد الخطوة الأهم لوقف معاناة السوريين بعدما أتت الحرب على أرواح 250 ألفا في أقل تقدير، وجعلت ثلاثة من كل خمسة سوريين إما نازحا داخليا، أو لاجئا في بلدان الجوار والمهجر. وربما كان المحبط هو أن المجلس يبني الخطوات العملية لوقف إطلاق النار إلى توافق المجموعة الدولية لدعم سوريا وتعهداتها بدعمه وتسهيل تطبيقه. ومعلوم أن المجموعة تضم 17 بلدا لكن أجنداتها تتضارب بحدة. كما أن القرار الدولي لم يحدد موعدا ثابتا لوقف إطلاق النار وأوضح أنه سيدخل حيز التنفيذ "فور اتخاذ ممثلي الحكومة السورية والمعارضة الإجراءات الأولية على طريق الانتقال السياسي برعاية الأممالمتحدة". وأوكل القرار إلى الأمين العام للأمم المتحدة تحديد "أسس ومتطلبات وقف إطلاق نار ومواصلة التخطيط لدعم تطبيق وقف إطلاق النار"، وشدد على "الحاجة إلى آلية مراقبة وقف إطلاق النار والتحقق منه وتقديم التقارير حول التقيد به". كما لا بد من الإشارة إلى أن الجانب الروسي مازال مصرا، على الأرجح، على توسيع تمثيل "المعارضة الوطنية" في الوفد الذي من المقرر أن يبدأ جولات مفاوضات مع ممثلي الحكومة السورية في مطلع العام المقبل، ما يعني أن موعد اجتماع وفدي الحكومة والمعارضة مازال رهنا بالتوصل إلى حل وسط بين الأطراف المختلفة، ما يفتح على تأخيره، وبالتالي تأخير موعد البدء بوقف إطلاق النار. تمويل التنظيمات المسلحة القرار الأممي أعلن حربا بلا هوادة ضد تنظيمي "داعش" و"النصرة" استبقها بقرار آخر للحد من تمويل هاتين المنظمتين الإرهابيتين. لكن تعليقات الوزراء عقب جلسة التصويت، والمؤتمر الصحفي لوزيري الخارجية الروسي والأمريكي سيرغي لافروف وجون كيري كشفت عن استمرار الخلافات حول "مثيلات" "داعش" و"النصرة". وواضح أن التوافق على تحديد قائمة المنظمات والشخصيات الإرهابية يصطدم بعقبات كبيرة وتضارب مصالح وأجندات الأطراف "المستثمرة" في الأزمة السورية. ويسعى كل جانب إلى إدخال خصومه في خانة التنظيمات الإرهابية. وتصر بلدان الخليج العربي على إدراج منظمات الحرس الثوري الإيراني وبعض الميليشيات العراقية والأفغانية إضافة إلى "حزب الله" اللبناني في قائمة الإرهاب التي يشرف على تنسيقها الأردن، وفي المقابل تسعى الحكومة السورية إلى اعتبار كل من حمل السلاح إرهابيا يجب محاربته ومساعدة الجيش السوري في القضاء عليه. وبداهة، فإن التوافق الدولي في مجلس الأمن يشكل حجر الزاوية لأي جهد حقيقي لإنهاء معاناة السوريين، لكن البعض يرى أن ما يؤخذ على هذا التوافق أنه مازال ضمن الحدود الدنيا، ويتعمد البناء على "غموض إيجابي" يمكن أن يعرقل المضي في مسيرة التسوية ويطيل "درب الآلام" السوري. والواضح، حتى الآن، أن المجتمع الدولي اتفق على محاربة "داعش" و"النصرة" خوفا من تمدد خطر هذين التنظيمين إلى الخارج، لكنه رحّل الخلافات في شأن تنظيمات إرهابية أخرى لا تقل خطرا عنهما، ومارست ومازالت قتل وإرهاب السوريين. ولا يمكن إنكار أن القرار استفاد من تجارب سابقة فشل فيها العالم في المحافظة على مؤسسات الدولة وأدت إلى تدمير بلدان وانزلاقها في أتون حروب أهلية صعبة، ويمكن أن يسهم القرار في المحافظة على وحدة سوريا ومنع تقسيمها على أسس طائفية وعرقية.. لكن الملح حاليا هو الضغط باتجاه فرض حلول على الأرض تكون قابلة للتطبيق. ومؤكد أنه بات مطلوبا من السوريين، حكومة ومعارضة، تجرع السم وتقديم تنازلات من أجل المحافظة على ما تبقى من سوريا من الدمار، والحفاظ على وحدتها الترابية، وترميم الشرخ المجتمعي الكبير الذي توسع عقب تحول الحراك إلى حرب واسعة تجمع بين ميزات أسوأ ما في الصراعات الأهلية والحروب بالوكالة والإستخدام الواسع للمرتزقة. وفي المقابل فإن الأطراف الإقليمية والدولية مطالبة بالإسراع في التوافق، وتسهيل تنفيذ قرار مجلس الأمن الأخير وعدم وضع العراقيل أمامه، وعليها التخفيف من حجم تدخلاتها، والتخلي عن استخدام سوريا كورقة في صراعاتها، وبذل الجهود للمحافظة على وحدتها الترابية، وإنهاء جذور التطرف والإرهاب عبر المساهمة البناءة في اجتراح حلول تنهي الكارثة السورية وتمنع انتشار العدوى منها. تصورات التسوية في نطاق الجدل الدائر عن المسار المحتمل للصراع على أرض الشام يشير غالبية المراقبين إلى أن الطرف الذي رجح كفة إختياراته في قرار مجلس الأمن ليوم 16 ديسمبر 2015 هو المرشح لكسب الجولة القادمة وربما ما بعدها. الولاياتالمتحدة وعدة دول أوربية ظلت طوال الوقت تعتبر أن رحيل بشار الأسد هو ضمانة لنجاح أي حل للازمه، إلا أنه ومع التدخل الروسي العسكري في سوريا وإصرار موسكو على ضرورة بقائه، فإن الغرب تراجع بشأن هذه النقطة. وكانت تقارير أخيرة قد اشارت إلى أن أوروبا بدأت تعيد النظر في إصرارها على رحيل الأسد ونظامه وأن بعض دولها شرعت في إجراء محادثات سرية مع حكومة دمشق والتخلي عن الأطروحات الأمريكية البريطانية. فرنسا أجرت بمساهمة ألمانية محادثات في بيروت مع حكومة الرئيس بشار الأسد كما زار نواب من برلمانها دمشق، كما اشارت تقارير إلى بدء تقارب أوروبي مع موسكو تقوده فرنسا وألمانيا اللتان تدركان أن مخططات واشنطن للتحالف مع ما يسمى الإسلام السياسي لصيغة نظم جديدة في الشرق الأوسط تواجه تعثرات كثيرة. يوم 18 ديسمبر ذكرت صحيفة "بيلد" اليومية ألأمانية أن وكالة المخابرات الخارجية الألمانية استأنفت تعاونها مع المخابرات السورية بشأن من وصفتهم ب"المتشددين". وأشارت الصحيفة إلى أن الهدف من تجديد الاتصالات مع دمشق هو تبادل المعلومات عن "المتشددين" خاصة من ينتمون إلى تنظيم الدولة الإسلامية، وكذلك فتح قناة اتصال لاستخدامها في حالة سقوط طيار ألماني في سوريا. وأضافت الصحيفة أن وكالة المخابرات "بي أن دي" تريد أن تكون لها محطة في دمشق، وأن ترسل عملاء إلى هناك في أسرع وقت ممكن للعمل بشكل دائم، مؤكدة أن الوكالة تتخذ خطوات من هذا القبيل بعلم الحكومة التي لم تؤكد أو تنف تقرير الصحيفة. وذكرت "بيلد" إن عملاء الوكالة يمكن أن ينتقلوا إلى السفارة الألمانية المغلقة حاليا في دمشق، وإن حكومة أنغيلا ميركل تريد اتخاذ قرار نهائي بهذا الشأن مطلع العام الجديد. يشار إلى أن البرلمان الألماني أقر قبل أسبوعين خطة لدعم الحملة الجوية الفرنسية ضد تنظيم الدولة بإرسال طائرات استطلاع وفرقاطة تساعد حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول وطائرة للتزويد بالوقود، إضافة إلى حوالي 1200 جندي. القوة العسكرية تفرض نفسها يوم 19 ديسمبر كتب المحلل عبد الباري عطوان: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجح في فرض وجهة نظره بالقوة العسكرية اولا، والمناورات الدبلوماسية ثانيا، وبلغت القوة العسكرية ذروتها عندما ارسل قواته وطائراته وصواريخه من طراز "اس 400" الى سوريا لفرض امر واقع، وتأكيد جديته في منع سقوط نظام حليفه بشار الاسد، وكان واضحا جدا في مؤتمره الصحافي السنوي الذي عقده في موسكو بحضور 1500 صحافي يوم 17 ديسمبر، واكد فيه ان الشعب السوري هو الذي يقرر مصير رئيسه، وانه لن يسمح لاي احد بفرض رئيس في سوريا، وان زمن اسقاط وتبديل الأنظمة ولى إلى غير رجعة. القرار الاممي الجديد اخرج العرب كليا من الازمة السورية، واكد تدويلها، وربما هذا ما اراده المعارضون للرئيس الاسد ونظامه في بداية الازمة، عندما ذهبوا وجامعتهم العربية الى مجلس الامن الدولي قبل اربع سنوات لطلب التدخل العسكري، واصطدموا ب"الفيتو" الصيني الروسي المزدوج، ولكن التدويل الذي اراده العرب بزعامة قطر وتركيا، كان على غرار نظيره في ليبيا، اي ان تتدخل قوات حلف "الناتو" وطائراته لإسقاط الرئيس السوري تحت غطاء أممي، في اكبر عملية سوء تقدير سياسي في السنوات العشرين الماضية. التدويل الجديد للازمة السورية وضع حدا لاي تدخل عسكري او مالي للدول العربية المطالبة برحيل الاسد، لان اي دعم سيفسر على انه انتهاك لهذا القرار. الحكومات العربية التي ضخت مليارات الدولارات، وآلاف الأطنان من الاسلحة للمعارضة لاطاحة بالنظام السوري، طوال السنوات الخمس الماضية، منيت بخيبة امل كبيرة، لان هذه الاموال ذهبت سدى، ولانها ستجد نفسها متهمة بدعم الارهاب، ومطالبة بتعويضات مالية بمئات المليارات لاعادة تعمير سوريا، في وقت تعاني فيه ميزانياتها من ازمات مالية، وعجوزات، نتيجة استمرار انخفاض اسعار النفط الى ما دون الاربعين دولارا للبرميل، ومرشحة للهبوط الى 25 دولارا في الاشهر المقبلة. التصريحات غير المفاجئة والمتوقعة، للزعماء الغربيين، مثل الرئيس الأمريكي باراك اوباما، ولوران فابيوس وزير الخارجية الفرنسي، وفيليب هاموند نظيره البريطاني التي تطالب برحيل الأسد لأنه قتل شعبه ودمر بلاده، لا يمكن أن تكون عنصر توحيد، لأنها تصريحات لذر الرماد في العيون، وللعق جراح الهزيمة، ومحاولة لإرضاء حلفائهم العرب الذين يواجهون التهميش، ويعانون من طعنات خناجر الخديعة المسمومة. كلمات الوزير الامريكي جون كيري في مؤتمره الصحافي فجر السبت الني قال فيها "ان هذا الاتفاق لا يعطي الشعب السوري الخيار بين الاسد وداعش.. وانما بين الحرب والسلام"، ربما كانت الاكثر تعبيرا عن الصفقة الروسية الامريكية ومضمونها، ولكن من الصعب علينا ان نغرق في التفاؤل حول امكانية تحقق هذه النبوءة في المستقبل المنظور، ولكنها بداية لا يجب التقليل من اهميتها. ميزان الربح والخسارة تقدر مصادر رصد ألمانية أن أكبر الخاسرين في المعادلة الحالية للصراع الدائر على أرض الشام إضافة إلى واشنطن ولندن هما تركيا وإسرائيل. فحكومة أنقرة سعت لإستعادة جزء من أمجاد الإمبراطورية العثمانية وفرض دور قيادي لها في منطقة الشرق الأوسط، بينما أرادت تل أبيب التخلص من سوريا موحدة كانت دائما ومنذ سنة 1948 طرفا مع مصر في الحروب ضدها. بينما كان النقاش يجري في مجلس الأمن حول توافق حول سوريا، نشر تقرير وضعه الجنرال الإسرائيلي في الاحتياط، عاموس يدلين، مدير مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، عرض فيه المخططات الأفضل لصالح الكيان الصهيوني فيما يخص الصراع الدائر على أرض الشام. وهكذا إقترح يدلين وهو الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي أن يتم تقسيم سوريا إلى فدراليات عرقية وإثنية وطائفية. ولفت الجنرال يدلين إلى أنه في كل حل سيتم التوصل إليه، يجب أن يفهم أن النزاع الروسي التركي بالنسبة لجميع اللاعبين المحللين والإقليميين في سوريا بأنه في نسيج العلاقات الدولية بمنطقة الشرق الأوسط، ولا يمكن للخلاف بين طرفين من الأطراف أن يؤدي إلى تبييض صفحة الثالث أو الآخر. وأضاف يدلين في دراسته، التي نشرت على موقع الإنترنت، التابع للمركز، بكلمات أخرى، معارضة التدخل الروسي والإيراني في سوريا لا تمنح صك البراءة لأن يكون تنظيم "الدولة الإسلامية" أو "جبهة النصرة"، هما البديل للرئيس الأسد، وبموازاة ذلك، أضاف يدلين، أضعاف تنظيم "الدولة الإسلامة" لا يمنح صك البراءة للرئيس الأسد. وزاد قائلاً إن التحدي المفصلي يكمن في إيجاد إستراتيجية صحيحة، كاملةً ومتكاملة، المدعومة بالإصرار، بالموارد وبالقوات البرية، والتي يمكنها خوض الحرب بالتوازي وفي نفس الوقت ضد الدولة الإسلامية وضد نظام الرئيس السوري الأسد، وبعد الانتهاء من هذه المهمة، برأي الجنرال الإسرائيلي، يجب أن تسعى الإستراتيجية عينها إلى تثبيت واقعٍ جديد دائمٍ في سوريا. وبعد أن عمل المسؤول الصهيوني وفي نطاق تكتيك معروف للتمويه على جوهر علاقات تل أبيب مع أطراف مختلفة مشاركة في الصراع الدائر على أرض الشام والذي تم تصويره على أنه نزاع بين السنة والشيعة، ذكر الجنرال يدلين أن دعم تل أبيب لأنقرة يخدم في نهاية المطاف المنطق الصحيح للمصالح الإستراتيجية للدولة العبرية، ذلك أن النشاط الروسي ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، يعني بكلمات أخرى منح شرعية دولية لألد أعداء إسرائيل، إيران، حزب الله ونظام الرئيس الأسد، وفي هذا السياق توجد تهديدات مشتركة لإسرائيل ولتركيا، وشدد الجنرال يدلين على المصالح المشتركة لأنقرة وتل أبيب والتي تشمل إقصاء الرئيس الأسد من منصبه، إضعاف الهيمنة الإيرانية بسوريا، وكتحصيل حاصل، فإن ذلك سيلحق بحزب الله اللبناني أضرارا بالغة، على حد تعبيره. وأوضح الباحث الإسرائيلي أيضا أن النزاع بين أنقرةوموسكو، الذي اندلع بعد إسقاط الأتراك الطائرة الحربية الروسية، شطب تقريبا جميع الإنجازات المهمة لتحسين العلاقات بين البلدين، والذي بدأ مع تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا في العام 2002، ولفت إلى أن النزاع سيدفع تركيا إلى تقليل تعلقها باستيراد الغاز الروسي، كما أنه سيؤدي إلى تنازل معين في مواقفها بشأن النزاع في قبرص، وأيضا فيما يتعلق بالنزاع مع الدولة العبرية. علاوة على ذلك تساءل يدلين: إلى أين روسيا مستعدة للذهاب بعيدا في النزاع مع تركيا، ذلك لأنه يمس بها أيضا. وخلص إلى القول إن النزاع الجديد بين الدولتين هز إرهاص أضافي للنزاع في منطقة الشرق الأوسط بشكل عامٍ، وبالنسبة للأزمة السورية بشكلٍ خاص، وعبر الجنرال يدلين عن إيمانه بأن هذا النزاع سيتم التداول حوله بين الدول العظمى ضمن المحاولات لإيجاد حل له. وختم: روسيا على استعداد لدفع الثمن الاقتصادي لهذا النزاع لأنها عبر ذلك تريد تحجيم الدور التركي حول مستقبل سوريا وحول الحل الإقليمي في المنطقة، بحسب تعبيره. نهاية مشروع يوم 18 ديسمبر كتب ألكسندر تسيغانوف المحلل في وكالة "تاس" التي تعكس وجهة نظر الكرملين: ذكر الرئيس الروسي بوتين أنه قبل حادث إسقاط تركيا لطائرة السوخي 24 يوم 24 نوفمبر، كانت روسيا تعتبر تركيا شريكة مميزة لها، بل وأشار إلى أن موسكو وافقت على دعم أنقرة في مسائل "بالغة الحساسية" تقع "خارج نطاق القانون الدولي"، لكن الأتراك ردوا على ذلك بإسقاط الطائرة الروسية، الذي كان بمثابة توجيه ضربة قاضية إلى مشروعهم السياسي. هناك من يلقب رئيس الوزراء التركي الحالي أحمد داوود أوغلو ب"مصمم" سياسة أنقرة الخارجية. وإذا كان الرئيس أردوغان منظرا لفكرة "العالم التركي" الممزوجة بأفكار الإسلام السياسي، فيمكن اعتبار داوود أوغلو وبحق بأنه صاحب مشروع إعادة بناء الدولة العثمانية في ظروف جديدة، وهو مشروع يهدف إلى بناء إمبراطورية تركية عظيمة بزعامة أنقرة ومركزها تركيا القوية، لتصبح قوة عالمية عظمى ذات تأثير على مصائر العالم. لقد كان منطقيا أن تمس هذه السياسة بمصالح الدول المجاورة لتركيا والتي كان معظم أراضيها الراهنة جزءا من الدولة العثمانية حتى عام 1918، والتي تعتبر أنقرة بعض سكانها أتراكا، كالتركمان الذين كان وجودهم في شمال سوريا أحد أسباب الهجوم ضد الطائرة الروسية. وقد أبلغت تركيا جميع الأطراف المعنية أنها تعتبر أراضيهم منطقة تقع تحت الحماية التركية وأنها تخطط لمنحهم "غطاء جويا". لقد أعلن داوود أوغلو أنه من حق تركيا أن تتخذ "جميع الإجراءات اللازمة لمنع انتهاك حدودها. ومع أن لا أحد ينكر حقها هذا إلا أنه يبدو أن الحديث يدور في حالة إسقاط القاذفة "سو-24" الروسية عن سيناريو تم وضعه مسبقا. لقد ردت روسيا على هذا الحادث بتعزيز وجودها العسكري في سوريا وأجوائها، وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "هل يا ترى كانوا يعتقدون أننا سنهرب من هناك؟. بالطبع لا فإن روسيا ليست بدولة ضعيفة. لقد عززنا وجودنا العسكري وزدنا عدد طائراتنا الحربية... وإذا كان الأتراك يحلقون هناك وينتهكون المجال الجوي السوري فدعهم يجربون الآن التحليق هناك!". إن هذه الكلمات تعني شيئا أكبر من فرض حظر جوي على الطيران الحربي التركي، فقد ألغى الهجوم التركي على الطائرة الروسية جميع الاتفاقات السابقة بين موسكووأنقرة، وقد سحبت موسكو موافقتها الصامتة على تنفيذ المشروع الجيوسياسي التركي، الأمر الذي يضع حاجزا أمام توسع تركيا السياسي في الشرق الأوسط ويلغي كل نجاحاتها السابقة. بالتالي فعلى أنقرة أن تودع مشروعها "العثماني الجديد" الذي أعدمه الأتراك بأيديهم عندما أطلقوا الصاروخ على الطائرة الروسية. كما يعني ذلك الانتحار السياسي لكل من أردوغان وداوود أوغلو، لكن الدور الأول لأردوغان الذي لم يجرؤ لا على تقديم اعتذارات لموسكو ولا على إقالة رئيس وزرائه الذي كان يمكن لأردوغان أن يضمن بإقالته مستقبلا سياسيا لنفسه. يوم الجمعة 18 ديسمبر 2015 ذكرت شبكة "سي إن إن" الإخبارية: عقدت إسرائيل وتركيا اتفاقا يقضي بإعادة العلاقات بين الطرفين إلى سابق عهدها، منهيا بذلك قطيعة استمرت لخمس سنوات منذ الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية 'مرمرة" التي كانت تتجه إلى غزة لأجل المساهمة في رفع الحصار عنها عبر أسطول الحرية. ووفق ما أكده مصدر رسمي إسرائيلي، فإن هذا الاتفاق يقضي بأن تعمل إسرائيل على دفع تعويضات لعائلات القتلى والجرحى في ذلك الهجوم، بينما ستعمل تركيا على إسقاط دعاويها القضائية ضد إسرائيل. ويضمن هذا الاتفاق عودة الطرفين إلى تبادل السفراء، كما سيدفع هذا الاتفاق بتركيا إلى منع القيادي في حركة حماس وكتائب القسام، صلاح عروري، من القيام بأنشطة فوق أراضيها، كما سيفتح الطريق أمام مباشرة محادثات بين الطرفين لإحداث خط أنابيب بينهما، وتصدير الغاز الطبيعي من إسرائيل نحو تركيا، وذلك وفق ما سيأتي الاتفاق النهائي. عمر نجيب [email protected]