بالرغم من كثرة الوعود التي أطلقتها السلطات الجزائرية، بخصوص ضمان حقوق المواطنين وحرياتهم إثر موجة الاحتجاجات التي عمّت الجزائر منذ أشهر بسبب مشروع الغاز الصخري والتهميش والتعديل الدستوري، إلا أنها سرعان ما عادت إلى انتهاج سياستها القمعية المعهودة بما يهدد أمن واستقرار الجارة الشرقية. في ظل الرجوع للقمع والتسلط ضد المحتجين، يشكك معارضون سياسيون في نوايا السلطات الجزائرية في إرساء مشروع الدولة المدنية الذي تروج له دوائرها منذ مدة، بالنظر لطبيعة الممارسات البوليسية المنتهجة في معالجة عدد من القضايا الأمنية بطرق استعراضية، تندرج في إضفاء أساليب التخويف والتضييق على من يغردون خارج سربها، أكثر ما تندرج في تحضير المجتمع لمرحلة جديدة، تتسم بالطابع المدني للدولة. أطلقت في ساعة متأخرة من مساء الإثنين المنصرم، السلطات الأمنية في العاصمة الجزائرية، سراح صحفيي قناة الوطن الفضائية الموقوفة، بعد توقيفهم أمام مقر وزارة الاتصال، في إطار الحملة الاحتجاجية التي نظمها صحفيو القناة وعمالها، ضد قرار مداهمة قوات الأمن لمقرهم وتشميعه بضاحية درارية بالعاصمة، كما أمرت نفس المصالح يوم الثلاثاء المنقضي، المحتجين بإخلاء مكان احتجاجهم بمحاذاة الوزارة، ومارست عليهم أشكال القمع والتعنيف لأجل لتنفيذ القرار. وجاءت المعالجة الأمنية لقضية القناة الفضائية، لتضاف إلى ممارسات مماثلة تعرض لها في الأيام الأخيرة، الجنرال المتقاعد حسين بن حديد، الذي تم توقيفه في طريق عام، ليحال على التحقيق قبل المحاكمة، بعد التصريحات التي أدلى بها لوسائل إعلام انتقدت ممارسات سياسية واقتصادية للسلطة. كما تم توقيف الإعلامي والحقوقي حسان بوراس في بيته بمحافظة البيض (500 كلم جنوبي غرب العاصمة)، بالإضافة إلى حديث عن إصدار مذكرة توقيف دولية ضد رجل الأعمال يسعد ربراب بعد تصريحات صحفية منتقدة أيضا للسلطة، ورغم نفي المدير العام للأمن الجنرال عبدالغني هامل، ووزير الاتصال حميد قرين للمسألة، إلا أن رجل الأعمال استقر في فرنسا، وقرر عدم دخول بلاده إلى غاية حصوله على ضمانات من الرئيس بوتفليقة وقائد هيئة أركان الجيش الجنرال قايد صالح. وكانت تصريحات سابقة لوزير العدل وحافظ الأختام طيب لوح، قد حملت رسائل مبطنة حول ما في التعاطي مع من أسماهم ب"الخطر على أمن البلاد واستقرارها"، وأن الدولة ستتعامل بحزم وصرامة مع كل من تسول له نفسه بتهديد استقرار البلاد أو المساس بمؤسسات ورموز الدولة، وهو ما اعتبره معارضون سياسيون "رسالة تخويف" من السلطة لكل من يخالفها الرأي. وقال رئيس حزب جيل جديد، جيلالي سفيان، إن السلطة تريد من هذه الممارسات القمعية الاستعراضية "إضفاء حالة من الخوف على الشارع، وبث الرعب في صفوف المخالفين لها، وكانت طريقة توقيف الجنرال بن حديد والحقوقي حسان بوراس، ثم رجل الأعمال يسعد ربراب، وبعدها مداهمة فضائية الوطن وتشميعها، رسالة لتكميم الأفواه وتهديدا مسبقا لكل الذين يتكلمون ويعبرون عن أرائهم وأفكارهم". واستغرب المتحدث ترويج دوائر السلطة لما تسميه بمشروع "تمدين الدولة"، وقال "بدل أن تبادر إلى إجراءات تهدئة لإثبات حسن نواياها، تصدر عنها هذه الممارسات القمعية، وهذا تناقض صارخ بين أقوالها وأفعالها، وبالتالي فهي تريد التحضير لمرحلة قادمة بإزاحة كل المعوقات التي تزعج مشروعها، وعليه فإن أي صوت سياسي أو حقوقي أو إعلامي، يستوجب خنقه، قبل أن يتحول إلى مصدر يعيق مصالح دوائرها ومخططاتها وأجنحتها". وتساءل المتحدث عن تضارب مواقف السلطة بشأن عدد من الملفات، ففي الوقت الذي استقبل فيه القائد السابق لجيش الإنقاذ المنحل، مدني مزراق منذ أشهر من قبل مدير ديوان الرئاسة أحمد أويحي، كشخصية وطنية للاستماع لأفكاره وأرائه حول الدستور الجديد، يتم التغاضي عنه الآن وتدفع القناة التي استضافته في أحد برامجها ثمن التصريحات التي أدلى بها وأُوّلت إلى "تهديدات لرئيس الجمهورية ومساس برموز الدولة". حملة تطهير سياسي ووصفت حركة النهضة هذا الإثنين ب"اليوم الأسود" الذي انتهكت فيه السلطة كل النصوص والقوانين، ولجأت إلى ممارسات قمعية استعراضية لخنق منبر إعلامي، وقالت في بيان "إن الواقع المعيش مازال يفتقر إلى دعائم الدولة الديمقراطية رغم تغير الأشخاص على المؤسسات"، في إشارة إلى التغييرات التي طالت جهاز الاستخبارات وضباطه بدعوى تمدين الدولة، وإنهاء هيمنة الاستعلامات والأمن على مؤسسات الدولة. وأضاف "ها نحن نعيش يوما أسود آخر واعتداء صارخا على منبر من منابر الإعلام الجزائرية، وذلك بإغلاق قناة الوطن الجزائرية خارج القانون وقد سبقه تضييق وإغلاق عدة وسائل إعلام منها قناة الأطلس الفضائية العام الماضي، وهو رسالة جد سلبية من قبل السلطة الحاكمة تبين العقلية الأحادية والشمولية التي تسببت في تضييع الكثير من الفرص وعطلت تطور البلاد بل وأوصلتها إلى الشلل التام". وتابع بشأن تعاطي السلطة مع ملف الإعلام منذ مجيء الرئيس بوتفليقة إلى هرم السلطة سنة 1999 "هذا الوضع غير القانوني المأساوي الذي تعيشه حرية الإعلام والتعبير هو نتاج إرادة السلطة، التي عطلت قانون الإعلام عن قصد، بالرغم من صدوره سنة 2011 ولم تصدر الأطر التنظيمية له". من جهته صرح رئيس حزب طلائع الحريات، علي بن فليس، بشأن التطورات المتسارعة في الآونة الأخيرة، قائلا "إن بداية التطهير السياسي هي دليل على أنها سلطة مرعوبة، سلطة متوترة، سلطة فاقدة لأعصابها وسلطة في حالة تيهان، إنه حب السلطة والتمسك بها، ما يجعل البلد يعاني من حالة الشغور في السلطة هذه التي نعيشها، وحالة الشغور في السلطة لها آثارها السلبية على الوطن بأكمله، آثار تتراكم وتتزايد باستمرار". وتابع قوله "وأنا أتكلم عن التطهير السياسي بتهمة اللاموالاة، تطالعنا أخبار عن نزول أمني على قناة الوطن، قصد تكميم الأفواه الحرة فيها وإسكات الرأي المخالف، في خرق صارخ جديد لحرية الصحافة والإعلام، وإن عملية كهذه مرفوضة ومنبوذة". وعللت وزارة الاتصال الجزائرية قرار الغلق، بمخالفة القناة للقوانين المنصوص عليها، في ما يتعلق بالنشاط من دون ترخيص باعتبارها قناة أجنبية، وبث أخبار مغرضة والمساس برموز الدولة ومؤسساتها، وتم الإيعاز لوالي المقاطعة الإدارية بتسخير قوات الأمن من أجل مداهمة مقر القناة وتشميعه وحجز معداتها الفنية.