1- لنبدأ باسم الله الرحمان الرحيم، فنأخذ معنى المنهج ومعنى التربية من كتاب (المفردات في غريب القرآن) للراغب الاصفهاني رحمه الله تعالى، لنبقى مع روح القرآن وفي ظلاله من البدء إلى المنتهى، يقول رحمه الله عن المنهج: «النهج الطريق الواضح، ونَهَج الأمر وأنهج وضح، ومنهج الطريق ومنهاجه. قال تعالى: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا» (من الآية 50: المائدة)، فإذا رجعنا إلى ابن منظور رحمه الله تعالى في معجمه (لسان العرب) فإنه يقول: «طريق نهج: بيِّن واضح... ومنهج الطريق: وَضَحُه، والمنهاج كالمنهج، وفي التنزيل: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا». وأنهج الطريق: وضح واستبان» وقد أورد رحمه الله تعالى حديثا للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه يقول فيه: «لم يمت رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حتى ترككم على طريق ناهجة» أي واضحة بينة.. ولكي يحفظ الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى لمفردات القرآن قدسيتها في معناها ومبناها، فإنه جاء بمعنى التربية عند كلامه عن معناها ومبناها، فإنه جاء بمعنى التربية عند كلامه عن معنى اسم (الرب) جل جلاله، فقال: «الرب في القرآن: التربية، وهي إنشاء الشيء حالا فحالاً إلى حد التمام... فالرب مصدر مستعار للفاعل، ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات...». أما ابن منظور رحمه الله، فقد قال: «الرب: «هو الله عز وجل، هو ربُّ كل شيء ومالكه... قال: الرب يطلق في اللغة على المالك، والسيد والمدبّر والمربي والقيّم والمنعم...». وعلى هذا يمكن أن ننسب المنهج إلى التربية، أو نضيفَها إليها.. أو نصفه بها فيكون (المنهج التربوي) هو - حسب تعريف المربين (الدمرداش سرحان ومنير كامل في كتابهما: (المناهج): «هو مجموع الخبرات التربوية - الثقافية والاجتماعية والرياضية والفنية - التي تهيئها المدرسة لتلاميذها داخل المدرسة وخارجها، بقصد مساعدتهم على النمو الشامل في جميع النواحي، وتعديل سلوكهم طبقا لأهدافها التربوية». 2- ولو أردنا أن نصوغ تعريفا تربويا للمنهج التربوي في القرآن الكريم وفق «فلسفته» إن جازلنا هذا التعبير، وتوجها قويما سليما نحو غايته وأهدافه، فإن بإمكاننا أن نقول: «المنهج التربوي في القرآن الكريم هو: الطريق الواضح المستبين المستقيم لنمو الإنسان في كل أحيانه وأحواله بتدرُّج ويسر وحسن تدبير إلى ما يحقق كماله اللائق به مكرَّما مفضَّلا معلَّما مسخراً له الكون بما فيه، ليعرف ربه، ويَصلُح معاشُه ومعادُه» وعن هذا المنهج يقول المربي (سعيد إسماعيل علي) في كتابه (القرآن الكريم: رؤية تربوية - ص 181): «مَن أقدرُ من الله خالق كل شيء على تقديم الهداية الكاملة للبشر؟ وأي منهج غير المنهج الإلهي يستطيع أن ينهض بحاجات النفوس البشرية ويفي بمطالبها ويغذي عواطفها ومشاعرها، ويتابع تطورها ونموها، ويستوعب قضاياها، ويلاحق أزماتها، ويلائمها في تطورها الصاعد، ويقودها على طريق الكمال بتؤدة ورفق؟ أي منهج يفي بذلك كالمنهج الذي ارتضاه الله وجعل فيه الشفاء من الأسقام والعلاج من الأوهام؟ إن النفوس - وهي من صنع الله - لا يمكن أن تعالج إلا بعلاجه، ولا أن تُروى إلا من نبعه: «... هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم...» (32: النجم). 3- إنه منهج تربية بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي أحسن، في غير عنف ولا عسف ولا قسوة.. بل برفق وحب وحنان.. شعارها: الترغيب لا الترعيب.. وأما الترهيب فإنما للتحذير من عواقب ما يجنيه الإنسان - فردا ومجتمعا، بل وأمة كاملة، بل إنسانية جمعاء - على نفسه بكنوده وجحوده وخروجه عن منهج الله القويم.. وهو منهج دعوة تخاطب العقل وتحترمه وتنميه وتزكيه وترفعه وتباركه.. فعقل الإنسان أسمى وأعلى وأغلى وأرقى ما فيه، وبه امتاز على باقي الحيوانات.. وبه نطق وفهم وعبر وبَيَّنَ وأشار وفَكَّر وتدبَّر.. هو لبُّه، وبه حكم، وبه عرف الحكمة: «يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وما يذَّكر إلى أولو الألباب» (69: البقرة). هو جنته في الدنيا إن أحسن استخدامه.. هو وسيلته إلى نيل رضوان الله ونعيمه في الآخرة إن حقق به إنسانيته.. هو طريقه إلى الهاوية والجحيم في المعاش والمعاد إن أهانه، أو غلافيه ووضع نفسه بسبب إفراطه به أو تفريطه فيه فضيَّع كنودا وجحودا مكانته، أو جهل أو تجاهل مكانه... ومكانتهُ ومكانه بفِقْهِ القلب، وببصر العين وبسمْع الأذن... وتلك أدواته للوعي.. وبدون هذا الوعي. وبغير أدواته... يضيع الفهم، وبضياعه يفقد الإنسان إنسانيته: «ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون» (179؛ الأعراف). 4) إنه منهج كرامة الإنسان خَلْقاً وخلقا: خلَقه الله خلقا من بعدِ خلق أطواراً.. أنعم عليه بالنعم التي لا تحصى، ومنها حسن الخلق وجمال الصورة: «... وصوركم فأحسن صوركم، ورزقكم من الطيبات» (غافر: 64).. «.. ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين» (14: المؤمنون).. تبارك الله! خلقه بيده، وأسجد له ملائكته.. عاقب إبليس من الجن لاستكباره وعلوه عن أن يسجد لعظمة الله في خلقه وتصويره.. وجعله خليفة في الأرض... ليعمرها ويزينها بحضارة العلم والتعليم لا بالإفساد، وسفك الدماء... علمه الأسماء كلها.. وهداه النجدين: يشكر أو يكفر... علمه أدب الاختلاف والحوار بسماحة ورفق وتيسير وحسن تبليغ ومخاطبة الناس على قدر عقولهم، وحمَّل كل فرد وكل جماعة مسؤولية فردية وجماعية.. بما كسب وكسبت.. «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الرعد:11) إنْ إلى الخير فالمصير خير، وإنْ إلى الشر فالمآل شر.. ولا يظلم الله تعالى مثقال ذرة. 5 إنه منهج الفطرة السوية.. المنهج اللائق بالإنسان.. الذي يحيا في هذه الدنيا ليسعد بجمالها، ويتمتع بخيراتها، وينعم بنعمها.. في غير إسراف ولا تبذير ولا تقتير.. محدودة هي محرَّمات الله عليه.. مذكورة معروفة.. وما سكت الله عنه فهو مباح.. وما أمر الله تعالى بالتنعم به فهو طيب حلال: «وابتغ فيما آتاك الله ا لدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين، (القصص: 77) عدم الإحسان في التمتع بنعم الله فساد.. عدم الإحسان بالجود بِهَا في اليد من نعم الله إفساد.. تحريم نعم الله الطيبة التي أحلها اعتداء وهو أكبر فساد.. عدم الإنفاق منها كفر بها وجحود لها.. وهو فساد وإفساد.. 6 إنه منهج تعارف وتآلف وتواد بين كل الناس: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات: 13). يتعارفون بالدعوة إلى الخير بكل مجالاته وبكل مستوياته وأّم الخَيْرِ: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» (آل عمران: 104)... 7 إنه منهج أبوة وأمومة وبنوة قائمة كلها على الحب والنصح والرحمة والبر.. إنه منهج تطبيق في الواقع من الفرد للفرد.. ومنه لنفسه، ومنه للجماعة. ومن الجماعة للفرد.. ومن الفرد للجماعة.. في الأسرة والمجتمع وفي المدرسة.. على تعاون مدروس مخطط بين الجميع.. لحمته وسداه القرآن.. وأهم نموذج للتطبيق العملي لمنهج القرآن في التربية نستقيه من القرآن في سورة لقمان حيث يقول عز من قائل: «ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد، وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه: (يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم، ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلي، ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أوفي الأرض يأت بها الله، إن الله لطيف خبير. يابني أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور. ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا، إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)، (لقمان، من الآية: 12 إلى الآية: 19) 8 الحكمة هي وضع الأمور قولا وفعلا في مواضعها الحقيقية، حيث يجب أن توضع، هي حق الشكر لله على نعمه الغامرة في الأنفس والآفاق بتوجيهها الوجهة التي تنفع ولا تضر عموم الخلق، بمعرفة واهبها والأحق بشكرها بدرء المفسدة عن خلقه وجلب المصلحة لهم.. والخلق كلهم عيال الله.. والإنسان خليفة، وهو من خلق الله... فليكن أحب خلق الله إلى الله بنفع عياله.. وذلك منه عين الشكر لله، وحق الشكر لله، وعين العلم اليقين بالله.. وكل كبير من بني الإنسان والد... وكل صغير منهم ولد... ذكراً كان أو أنثى.. ليس بينهم إلا علاقة بنوة بأبوة، وبأمومة... وليس بينهم إلا علاقة حميمة رحيمة بنداء عذب كريم: (يا أبت) من البنوة، و(يا بني) من الأبوة.. وتندمج الأبوة والأمومة، لأنهما من نفس واحدة، ومنها خلق الله زوجَها.. ومنها بث رجالا كثيرا ونساء... وتقوى الله تعالى في المسؤولية عن هذه الأرحام الموصولة بين الإنسان تؤكدها رقابة الله على الناس في حسن رعايتها.. ورقابة الناس لله بعلمهم أنه رقيب عليهم في السر والعلن.. وأنه وحده الرب المالك السيد المدبر المربي القيوم لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.. فإن غلِط الإنسان أو غالط نفسه أو غيره، أو هما معا، باتخاذ شريك فقد ظلم الظلم العظيم.. ظلم نفسه وظلم غيره، وفقد اتجاه إبرة بوصلته وتاه وضاع وفقد معنى الحياة، وعمل على أن يفقده غيره، وفسد وأفسد.. وتهدمت به ولديه أقوى الأواصر التي ينبني عليها صرح إنسانيته وهما: آصرتا الأبوة والأمومة.. ولن يتحقق صرح التوحيد عاليا شامخا سامقا متينا مكينا ركينا إلا إذا عرفت البنوة حق الأبوة والأمومة، بارتباط الشكر لله الموصول الدائم من البدء إلى المنتهى بالشكر للوالدين.. وهذا الشكر: إحسان بعبادة الله بعبادته كأنه يُرَى، فإن لم يكن يُرى فهو يَرى.. «لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار» (الأنعام: 103) «وهو اللطيف الخبير» (نفس الآية)... وتلك حكمة السنين والتجارب.. وتلك حكمة الكتاب ومعه السنة.. وتلك حكمة لقمان الحكيم، وقد أوتي الحكمة.. وهذه وصية الله لكل الإنسان في كل كتاب وكل نبوة ورسالة وكل حكمة.. وصية الله تعالى بالوالدين: الأم والأب، والأم أولى.. وهذا لا يهضم حق الأب في البر والصلة.. لأن الأم حملت وهنا عن وهن، يقول الراغب الأصفها ني رحمه الله في مفرداته القرآنية: «أي كلما عظم في بطنها زادها ضعفا على ضعف..» وذلك السر في اختصاصها ببعض الزيادة في البر والإحسان.. وتُرضِعُ حتى الفصال أي التفريق بينه وبين الرضاع عامين.. وفي ذلك تعاني ما تعاني خلال الرضاع: وتقاسي ما تقاسي من الفصال في نفسها وجسدها ورضيعها.. ومع ذلك إذا اقتضى البر بهما أن يحملاه على الكفر والجحود انفصمت علاقة البنوة بالعقيدة.. بالتربية الإيمانية على الطاعة فيما يرضي الله.. ويبقى البر والصلة على المعروف والإحسان.. أما الإتباع..أما سلوك نفس السبيل، أما اتخاذ نفس المنهج التربوي للسلوك، فلن يكون إلا لمن أناب أي وجه إلى الله مرة بعد أخرى.. بالتوبة والإخلاص في النية والقول والعمل.. فحينئذ تعود العلاقة الإيمانية وتتوطد وترسخ وتتمكن.. و«إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» (البقرة: 222)... ويشرح الراغب الأصفهاني «التوبة»: هي: «ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر لم أفعل أو يقول فعلت لأجل كذا أو فعلت وأسأت وقد أقلعت ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة، والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط منه والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة ومصاحبة الوالدين بالمعروف على كفرهما وعصيانهما، مع عدم طاعتهما في الاقتداء بهما في ذلك.. معناه استمرار الرجاء وعدم اليأس من عودتهما إلى الحق وجادة الصواب وحظيرة الإيمان.. والإيمان رَجاءٌ موصولٌ في إنابة من ينيب وتوبة من يتوب بحسن الدعوة، وبحكمة الداعي.. وبالثقة في إنسانية الإنسان، وحسن الظن بنبل عنصره إنْ عرف الداعي كيف يزيل عن قلبه ما ران عليه بسوء كسبه.. وإلا فلا داعي لتربية.. ولا حاجة إلى منهج قرآني تربوي... والفطرة السوية تتربى وتتعلم بالتجربة والمراد والممارسة والخطإ ثم الصواب.. والمرجع إلى الله والمصير إليه وهو الحكم العدل... في الدنيا والآخرة... ولن ينقطع رجاء مؤمنٍ في إنسان سوي عقلاً ونفساً مادام كل منهما حيا حسا ومعنى.. ومن أحقُّ من الوالدين بحسن هذه الصحبة بالمعروف رجاء إيمانهما.. والله لطيف خبير يعلم السر والنجوى .. ويعلم أدق دقائق الأمور في المادة والروح.. وأخفى الخفايا في مكنونات الكون والصدور.. والمهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على متاعب هذه الدعوة ومصاعبها.. وشحذُ العزيمة، في تواضع للناس ومعاملةٍ لهم بالحسنى.. مع قصد ورفق في اتخاذ الوسائل لذلك.. وغضٍ للبصر والصوت.. فالصياح والصراخ والقذف والتشهير والتعيير والتعيين لأشخاص أو فئات أو هيئات بمقابح.. حقُّهُم أن تُسْتَر عليهم إن لم يَجهروا بها، وواجبنا أن ننكرها على العموم في تعريضٍ دون ذكر مُعيَّن فالمعيِّن في الشرع الحكيم مبتدِع... تلك أركان التطبيق في المنهج التربوي القرآني... 9 - قلت قبل قليل إن منهج التربية في القرآن الكريم منهج ترغيب.. والترهيب فيه إنذار بالوقوع تحت طائلة ما يقضي به الشرع الحكيم بعد الاستتابة والإعذار.. أما الترعيب بإيقاع الأذى حداً أو تعزيراً، أيّاً كان نوع هذا الأذى أو مستواه، فالإسلام لا يرضاه ولا يقبله ولا يقره... إلا إذا كان تحقيقاً للرجاء في سواء فطرة الإنسان، وحسن الظن بما أقر الله في نفسه من بذور الخير فهو سبحانه «الذي أعطى كل شيء خلْقه ثم هدى (طه: 50) وللهداية كان المنهج القرآني التربوي، بعد إحسان الخلْقِ ، وهو «الذي أحسن كل شيء خَلَقَه» (السجدة:7) .. أفيرضى لِمَا ومَنْ أحسنَ خلقَهُ من شيء متحرك أو جامد أن يؤذَى وقد هداه!؟ ولم يخلقه باطلا!؟ ولن يتركه سدى!؟ إن الأذى فساد وعبث... والعقاب للإصلاح، لا للإنتقام.. لأن الانتقام إفساد من المنتقِم للمنتقَم منه.. وفساد فيه هو أولاً وآخراً.. في سواء نفسه وفطرته... 10 وقد ذكر الإمام سلطان العلماء العِزُّ بن عبد السلام رحمه الله تعالى حين تكلم عن الموعظة الحسنة في الدعوة، والدعوة تربية وتعليم في المنهج التربوي القرآني، في الفصل 553 من كتابه القيم (شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال)، «الموعظة الحسنة أدعى إلى قبول الحق من الموعظة المنفرة، وما أغلظ الأنبياء صلواتُ الله وسلامه عليهم جميعاً في مواعظهم إلا لمعاندٍ جريء على الله». وقال في الفصل 530 منه: «لِلّينِ مواطنُ لا يليق بها غيره، وللغلظة مواطنُ لا يناسبها سواه، فمن استعمل أحد الأمرين في موضع الآخر فقد أخطأ». وطبعا لا تكون الغلظة إلا في موضع رجاء النفع بها من الموعظة... ويقول رحمه الله تعالى في الفصل 544 منه : «العاقل يعرف مظان الغضب لله، فيغضب فيها، ويعرف مظان التلطف فيتلطف فيها. ألا ترى أن موسى عليه السلام تلطف في أول الأمر بفرعون بقوله: «هل لك إلى أن تزَكى» (النازعات: 18)، «إني رسول من رب العالمين» (الأعراف: 104) . وغير ذلك من القول اللين الذي أمر به، فلما أصر وأظهر العناد، مع تيقنه صدق موسَى، لقوله تعالى: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا» (النحل: 14) ثم قال لموسى: «إني لأظنك يا موسى مسحورا» (101: الإسراء). أجابه بما يقتضي الحال في الجواب، فقال: «لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر، وإني لأظنك يا فرعون مثبورا» (الإسراء: 102) أي مُهْلكا». ويقول في الفصل نفسه: «وكذلك جميع الرسل، إذا استقرئ أمرهم في بدء الإرسال وجدتَ فيه الرفق واللين والشفقة على قومهم، فإذا أصروا وعاندوا وأغلظوا لهم حينئذ، لما ركب الله تعالى في رسله من العقول الوافرة، والأحلام الكاملة (الأحلام: العقول): «الله أعلم حيث يجعل رسالاته» (الأنعام: 124). 11 - فإذا انتقلنا إلى التربية بمفهوم تنشئة الأولاد، فإننا نجده يقول في الفصل 393 منه عن التربية: «... وذلك بحسن التربية، واللطف، والرفق، والحنو، ودفع المضار، وتحسين الحسن للصغير، وتقبيح القبيح، وتعليم الآداب، وتلقين الكتاب، وتعليم الخط والعلم إن كان متأهلا لذلك، أو صناعة تليق بأمثاله، والأمر بالصوم والصلاة، والنهي عن كل خلق ذميم وعمل غير مستقيم، واجتناب الضرب إن تأدب بالقول والتهديد، أو الضرب الذي لا يصلح إلا به، إلا أن لا يصلح إلا بالضرب الشديد، فيجتنب الخفيف والشديد». ويقول أيضا في الفصل 559 منه: «وإذا تعلم الصبي ما ينبغي أن يتعلمه من غير زجر فلا يُزجر، وإن لم يتعلم إلا بالزجر زجر، فإن لم ينجح فيه الزجر ضُرب ضربا يحتمله مثلُه ، وتَغلِبُ منه السلامة، وإن لم ينزجر إلا بالضرب المبرح، حَرُم المبرّح لأدائه إلى قتله، ولم يَجُزْ غير المبرح لأنه إنما جاز لكونه وسيلةً إلى الإصلاح، فإن لم يحصل الإصلاح حَرُمَ، لأنه إضرار غير مفيد». وفي الجزء الأول من كتابه العظيم «قواعد الأحكام...» صفحة 121 يوضح الأمر أكثر فيقول: «إذا كان الصبي لا يصلحه إلا الضرب غير المبرح فهل يجوز ضربه تحصيلا لمصلحة تأديبية؟ قلنا: لا يجوز ذلك، بل يجوز أن يضر به ضربا غير مبرح، لأن الضرب غير المبرح مفسدَةٌ، وإنما جاز لكونه وسيلةً إلى مصلحة التأديب، فإذا لم يحصل التأديب سقط الضرب الخفيف كما يسقط الضرب الشديد، لأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد». 12 - القرآن الكريم ومنهجه التربوي بكل أركانه وأهدافه وغاياته ووسائله ومجالاته... رحمةٌ وذكرى للمؤمنين.. ولا يستقر الإيمان في القلب إلا إذا صدقه العمل.. ليس بمعجزات من خارجه أو كرامات من غير من يتعلمه أو يعلّمه ويعمل به وله... فهو الكافي الشافي: «وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه، قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يومنون» (العنكبوت: 5O، 51). ومن منهج القرآن في البدء والمنتهى (الدعاء) وهو مخ العبادة ولبها.. بل هو العبادة.. وأختم عرضي هذا بهذا الدعاء القرآني.. وهو في لفظه ومعناه يجسد ويَضْمَنُ تحقيق المنهج التربوي القرآني «لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» (37: ق).. وهو من أواخر سورة البقرة: «ربنا لا تواخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين». والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...