شكلت مدينة الرباط (العاصمة) مدخلا أساسيا للحداثة الإبداعية بالمغرب الجديد، ليس فقط لأنها أصبحت عاصمة للمملكة في مطلع القرن العشرين، استقطبت الكفاءات والنخب والعقول التي ستقود المغرب إلى تاريخ جديد، يتكئ على الحرية والعقلانية والحوار والاعتراف بالآخر، ولكن أيضا لأنها فتحت ذراعيها على المدارس والاتجاهات والمفاهيم الثقافية الحديثة، التي وضعت الثقافة المغربية، في موقع ريادي/ لا يمكن الاختلاف حوله. لذلك، سيكون من السهل على الباحث/ الملاحظ، إن يلمس التطورات التي عرفتها الفنون التشكيلية المغربية كفصيل بارز و أساسي من الثقافة المغربية الحديثة. خلال هذه الفترة من التاريخ/ فصيل يوازي من حيث قيمته، الانعكاسات التي تحكمت في تحديد هوية هذه المدينة، وشخصيتها ورؤاها الاجتماعية، ونعني بذلك التطورات الاقتصادية والسياسية التي برزت انعكاساتها، على الإنتاج التشكيلي، ومن خلاله على الثقافة التي انخرطت في فضاءات جديدة / حداثية بمفاهيم وأشكال جديدة، والتي عكست بسرعة وقوة أساليب مغايرة لأنماط الحياة في مغرب القرن العشرين، كما عكست موقفها من وضع المغرب الجديد على الخريطة الإنسانية. تشكيليا، لا نستطيع أن ننفي هنا، الدور الإيجابي الذي لعبه الفنانون الغربيون، الذين اتخذوا من الرباط موقعا لهم حتى قبل أن تتحول إلى عاصمة، سواء من حيث تنشيط الحركة التشكيلية الحديثة، أو من خلال إعداد أجيال جديدة من الفنانين المغاربة، مدمجين في مناهج الحداثة وأساليبها العولمية، أو من حيث إذكاء تجاربهم الإبداعية، وإعطائها وجها جديدا ومشرقا محليا وعالميا. ان الجيلالي الغرباوي، وفؤاد بلامين وبوشتة الحياني ولطيفة التيجاني والحسين السلاوي، وكمال الزبدي، محمد البوكيلي، العربي بلقاضي، محمد الامين الدمناتي، وفاطمة بنكيران، وفاطمة ناجم وميلود الابيض، والمحجوبي احرضان، والليشاني ومحمد المفضل والحبيب المفضل ومحمد التومي، ومحمد الدواح وبوصابون وبلمقدم ومحمد بناني، وغيرهم كثير، من الفنانين الذين ولدوا فنيا بالعاصمة الرباط، وترعرعوا بفضاءاتها المختلفة، ليصبحوا من نجومها المضيئة في سماء الإبداع التشكيلي. ولاشك، أن حتمية الأخذ والعطاء، كما تحكمت في الفكر والأدب والعلوم الإنسانية خلال هذه الفترة الحالكة من التاريخ، تحكمت في الإبداعات البصرية التي ازدادت على أرض هذه المدينة العتيقة، بل أن هذه الإبداعات وهي متعددة ومتنوعة وذات مرجعيات وطنية وعالمية مختلفة / متداخلة ومتشابكة، كانت المحور الأساسي لكل أخذ ولكل عطاء، على فضاءاتها. إن الحركية المتطورة للفن التشكيلي المغربي، المتمثلة فيما احتضنته مدينة الرباط (العاصمة) خلال العقود العشرة الماضية، من إبداعات ومبدعين، مرت/ تمر بمرحلة غنية، بما تحفل به من قاعات وأسماء ومتاحف، ومدارس واتجاهات وأساليب وقيم ثقافية، حيث استطاعت في هذا الظرف التاريخي، التجدر في الطموحات الثقافية، وفي مختلف التناقضات التي عاشها/ يعيشها المجتمع المغربي، قبل وبعد فترة الحماية، والانتقال بالإبداع التشكيلي من مجرد هواية، إلى فعل ثقافي يساهم بفعالية في التغيير والتنمية والتحديث والبناء القومي. التطور الاجتماعي/ الاقتصادي/ السياسي/ الثقافي الذي عرفته مدينة الرباط خلال القرن الماضي، مع حلول البعثات الفرنسية التي حملتها رياح الحماية(1912)، قد غير كثيرا من الرؤى الجمالية في المغرب الجديد، وانعكس على الفنون البصرية، وعلى تطور مفاهيمها، مما جعل هذه الفنون تتكيف وتتفاعل مع الأنماط الجديدة للحياة الاقتصادية والثقافية التي رافقت هذه البعثات، وهو ما أعطى التشكيل المغربي، في نهاية المطاف منحى دلاليا له أكثر من علاقة بقضية الوجود والكرامة والحرية، إذ انصبت خلال هذه الفترة من التاريخ، اهتمامات العديد من التشكيليين المغاربة بعاصمة المملكة على طرح أسئلة راهنية لتحديد الموقف التشكيلي على الخريطة الثقافية المغربية، بتناقضاتها وهمومها وتداخلاتها مع القضايا الثقافية والحضارية الأخرى. إن التأمل النقدي في التراكمات الإبداعية التي حققتها الحركة التشكيلية المغربية، انطلاقا من الرباط العاصمة، تعطي الانطباع أن بداية هذه الحركة في مطلع القرن الماضي، على يد جيل محمد بن علي الرباطي، كانت تهدف إلى استشراف المستقبل. ذلك لأن ما ميزها منذ بدايتها هو طابع الاستمرارية، وإبراز الذات المغربية. الأعمال الفنية المتبقية عن هذا الجيل، أو الأجيال اللاحقة، كانت وما تزال تلح على سؤال الذاتية والهوية وتلك هي ميزتها الثقافية بكل تأكيد. إن الربط بين الفن والرمز/ بين الفن والخط/ بين الفن والهندسة/ بينه وبين البيئة والتراث، لم يتجه فقط إلى نقل اللغة البصرية إلى مستوى الفلسفة، ولكنه أيضا حاول/ يحاول إعطاء دورا جماليا / ثقافيا إلى هذه اللغة على الساحة الثقافية. لا يعني ذلك إطلاقا أن اللغة التشكيلية المغربية قد وجدت مفرداتها هنا بالعاصمة الرباط، ولكنها بفعل الجذور الأنسية الحضارية لهذه المدينة الأندلسية/ المتعددة الصفات، أصبحت تجسد الوعي تجاه الهيمنة اللغوية الأخرى، ومن ثمة أصبحت حركة التشكيل الحديث، تسير جنبا إلى جنب مع الحركات الثقافية القائمة، وهذا ما يجعلها جديرة بقراءة متأنية لمثنها الإبداعي. ولابد هنا من الإشارة، إلى أن الذاكرة الجماعية وقوة المخيلة كانتا دائما وباستمرار، سمة هذه الحركة/ سمة الأجيال المتلاحقة والمترابطة على تاريخها، إلا أن جيل الشباب الذي برزت سماته مع الألفية الثالثة حاول/ يحاول إعطاء الصباغة المغربية مفاهيم ومعاني نظرية متميزة بالتحرر من قيود الموضوع، ولكنها متأثرة بالجذور الثقافية: الرموز/ الأشكال الهندسية/ الخط العربي والأمازيغي، في محاولة جادة لإعطاء الحركة التشكيلية المغربية شموليتها بأبعاد نفسية/ اجتماعية/ وتاريخية. هكذا تكون مدينة الرباط، قد استقطبت خلال العقود العشرة الماضية، حركة فنية استثنائية، تمثلت أولا في احتضان أجيال من المبدعين/ في فتح قاعات عديدة للعرض التشكيلي/ في تنظيم عروض وتظاهرات تشكيلية متعددة بفضاءاتها/ في إعطاء الثقافة التشكيلية موقعها على الفضاءات الإعلامية والثقافية والتربوية، وجميعها عبرت/ تعبر عن تجاذبات التلاقي والاختراق التي طبعت هذه الحركة في فاعليتها الثقافية، وجميعها أيضا أكدت بصوت مرتفع، أن الحداثة هي قبل كل شيء روح وافق، وتمثلت ثانيا وأخيرا في احتضان المتحف الوطني للفنون التشكيلية، الذي يعطي صورة بانورامية عن حداثة هذا الفن وموقعه بالعاصمة. إن الفن التشكيلي، يقول هنا بصوت مرتفع، أنه ليس انتماءات برانية مبثورة الصلة عن سياقها وعن أسئلتها، أو مفصولة عن هويتها المتعددة الأبعاد، انه إضاءة متجذرة في هويتنا الثقافية.