يوجد ببلادنا فيلم بولوني دانماركي سبق له أن عرض في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش في دورته الثالثة عشرة (2013) و لم يفز بأي جائزة، و لكنه تمكن من حصد العديد من الجوائز في مختلف المهرجانات الدولية كانت آخرها فوزه هذه السنة بجائزة الأوسكار كأحسن فيلم أجنبي. الفيلم يحمل عنوان "إيدا" ) IDA) قام بكتابته و إخراجه البولوني باول باوليكووسكي ، و قامت ببطولته بأداء جيد و متميز الممثلة البولونية أغاطا ترزيبوشووسكا التي شخصت دور الشابة "إيدا" ذات الهوية المجهولة و التي فقدت كل أفراد عائلتها باستثناء خالتها "واندا" (الممثلة أغاطا كوليسزا) التي تمت مراسلتها عدة مرات دون أن تقوم و لو مرة واحدة بزيارة ابنة أختها بالمؤسسة المسيحية التي تقيم بها مع زميلاتها الأخوات المسيحيات و تلبس مثلهن اللباس الديني المسيحي. ستبادر المسؤولة عن هذه المؤسسة الدينية بالإلحاح على "إيدا" كي تذهب للاتصال بهذه الخالة و تفقد أحوالها ، و بعد تردد ستقبل هذا الطلب و سترحل في إجازة قصيرة للالتقاء بخالتها التي تعرفت عليها و رحبت بها قبل أن تخبرها بأنها ليست مسيحية الأصل بل هي يهودية من أم و أب يهوديين قتلا إبان الحرب العالمية الثانية و لا أحد يعرف أين تم دفنهما. الخالة امرأة حداثية و رزينة و حزينة أيضا، كانت مدعية عامة و قاضية و أصبحت تعيش وحيدة في منزلها تعاشر بين الحين و الآخر بعض الرجال الذين يروقونها، و تذهب بانتظام إلى حانة تحاول الاستمتاع فيها ببعض لحظات السعادة و الهناء من خلال الاستماع و الرقص على نغمات فرقة موسيقية يوجد من بين أفرادها شاب عازف على آلة الساكسوفون" (الممثل داويد أوغرزدنيك) الذي أعجب بالشابة "إيدا" من أول مرة ذهبت فيها إلى هذه الحانة صحبة خالتها. ستقرر الخالة رفقة ابنة أختها أن ينطلقا في مهمة البحث عن المكان المجهول الذي تم فيه دفن والدي "إيدا" ، و سيتصلان ببعض الأشخاص الذين كانوا يعرفونهما بل أصبحوا يسكنون في منزلهما ، و سيتعرفان على القاتل الذي اعترف بجريمته و اقترح عليهما بوقاحة أن يدلهما على مكان الدفن شريطة أن مقابل أن يتنازلا له عن هذا المنزل. موازاة مع هذه التطورات المفجعة و الحزينة ستتطور العلاقة العاطفية بين "إيدا" و الشاب العازف على "الساكسوفون" على أمل أن تتوج بالزواج في النهاية و أترك للمشاهد فرصة اكتشاف نوعية هذه النهاية و ما جرى من أحداث و تطورات. تدور أحداث هذا الفيلم المأساوي العنيف ببولونيا خلال سنة 1960 ، و هو بالأبيض و الأسود من بدايته إلى نهايته، و دون موسيقى تصويرية باستثناء بعض المقطوعات الموسيقية أو الغنائية الموظفة في أحداث الفيلم ، صوره رمادية و باردة و قاسية مثل قسوة الطقس المثلج و حدة المعاناة النفسية للبطلة و خالتها، و لكنها صور رائعة و عبارة عن لوحات فنية جميلة بشكلها و مضمونها و دلالاتها. القصة تبدو بسيطة بنوعها ، و لكنها إنسانية و عنيفة و عميقة بمضمونها و عواطفها الدفينة ، تمت كتابتها و معالجتها و حكيها سينمائيا بطريقة فنية كلاسيكية كأننا في عهد السينما الصامتة. الحكي يتناوب فيه الحوار القليل و الصمت الرهيب المعبر، و كل هذا بإيقاع بطيء نافذ و غير ممل. الكاميرا تعود بالمشاهد إلى الماضي بكل أكسسواراته، و إلى بلد مكلوم و بدون ألوان يعيش على رماد التاريخ المأساوي المفجع. الفيلم قوي و متقن و دون مبالغة أو تساهل كأنه فيلم وثائقي فعلا، هو عبارة عن فيلم سينمائي بكل ما في الكلمة من معنى ، و هو نموذج لمن هو في حاجة إلى فهم الفرق بين الفيلم السينمائي و الفيلم التلفزيوني، و هذا لا يعني بأنه سيروق للجميع أو لعموم المشاهدين، و لكنه من المحتمل جدا أن يروق عشاق السينما و من المحتمل أن يذكرهم من خلال قصة المأساوية بالزمن السينمائي الجميل.