تعالى يا صديقي لنشاهد معا التلفزيون المغربي الموجه لأبناء المهجر، فنبحث عن شريط وثائقي أو محاورة ثقافية خاصة بالهجرة أو برامج للمرأة والطفل المهاجرين، أو على الأقل منتوج إعلامي بمواصفات ثلاثية الأهداف : الترفيه، التربية والتثقيف...تعالى لنتبيّن معا أن القائمين على الشأن الاغترابي يُصرون على أن يعيش المغترب خارج الزمن الثقافي المغربي وأن يظل أسير ثقافة أنتجها الآخر (البلد المضيف) لجرّ المهاجر إلى حمل ثقافته ولو جزئيا تمهيدا لعزله وتمييزه كي يحتضر شيئا فشيئا في إطار ما يمكن تسميته بالعنصرية الهادئة أو المقنعة. تعالى لنقف على حالات الانحصار الثقافي والإعلامي المفروضة على الجالية المغربية بعد أن فقدت كل أمل في التصالح مع نشأتها الاجتماعية والانصهار في مكوناتها. فلا مركز ثقافي واحد يمدّ جسور التواصل بينها ويعطيها شحنات إضافية للمعرفة والتطور، بينما تملك الجزائر مركزين ثقافيين بكل من باريس ومرسيليا، ولكل من تونس ومصر ولبنان وموريتانيا وحتى دجيبوتي مراكزها الثقافية التي تتابع عن قرب مشاكل جالياتها وفق منظور يؤمن بالبعد الإشعاعي لثقافة الوطن وثقافة الانتماء.. ولا محطة تلفزيونية أو إذاعية واحدة تعنى بشؤون الشباب المغربي، وقد أصبح وعيه اليوم كثير الثغرات وذاكرته الثقافية فارغة تملأها برامج القناتين الجزائريتين "كنال تلفزيون" و"بور تلفزيون" فضلا عن ثلاث محطات إذاعية (إذاعة "الشرق" اللبنانية، ومحطة"راديو سولاي" التونسية و"راديو المغرب العربي" الجزائرية)، وكلها تتابع عن قرب مشاكل جاليتها، فيما القائمون على الشأن الاغترابي المغربي يكتفون حتى اليوم بالتباهي بمجلسهم الأعلى للهجرة الذي أفرز منذ تأسيسه حالات من النفور والامتعاض لن تزيد سوى في إمعان وتأصيل غربة المغتربين. مثل هذا الإقصاء يزيد أبناء الجالية المغربية قناعة بأن مكانهم في الجهة الخلفية من الوطن، لا من يقوي فيهم شحنة الاعتزاز بانتمائهم ولا من يخلصهم من حالات التقوقع والانحصار المفروضة عليهم في دنيا الاغتراب.. واجبهم أن يرفعوا سنويا من قيمة التحويلات المالية (34 مليار درهم سنة 2013) لإنعاش اقتصاد وطنهم، وقدرهم في المقابل أن يعيشوا على هامش الوطن لأن البعض ممن أسندت إليهم مهمة التواصل والإعلام، يُصرون على ألا يتصالح هؤلاء مع نشأتهم الاجتماعية والهوياتية. ومن هنا يأتي الإدمان المتزايد لشباب الهجرة ممن ينتابهم الإحساس بأنهم غرباء مرتين : في وطنهم الذي يمارس في حقهم الإقصاء والإجحاف المتعمّدين، وفي البلد المضيف الذي حوّل الجالية بفعل التهميش وحالة العداء المُبطن لها، إلى موطن خصب لعصابات المتاجرة بالمخدرات، وأحيانا إلى مرتع للحركات الأصولية كامتداد لصعود الإسلام المتطرف وانتشار الفكر السلفي المتزمّت في بعض أوساط المهاجرين الشباب. وفي غياب أي إدراك من ذوي القرار بدور المنابر السمعية البصرية في التربية والترفيه، لا يجد المغتربون من بُدّ مع فيض الحنين إلى الوطن وانشغالهم الغريزي بأخباره، سوى متابعة البرامج التلفزيونية الوطنية التي لا تخرج للأسف من عنق ثنائية الطبخ والطرب..الطبخ من خلال الوصفات التي تقدمها باحترافية عالية الأخت شميسة، وعيبُها أنها تتكرر إلى حد الملل أحيانا، والطرب من خلال السهرات الفنية التي يعاد بثها ثلاث مرات في الأسبوع. وهنا لابد من نصح لأصحاب البث المتكرر ثلاث مرات أن يضعوا حدا لمثل هذه الممارسة التي تنمّ عن استخفاف واستهتار كبيرين بأبناء الهجرة. فليس أسخف من أن يستهزئ التلفزيون المغربي بأناس يعتقد أنهم أغبياء قد يتقبلون منه هذا التكرار السخيف الباعث على الاشمئزاز والتقزز. والسؤال المركزي الذي يجب طرحه و تكرار طرحه هو لماذا يُصر التلفزيون المغربي على تصدير الطرب والطبخ للمهاجرين دونما اهتمام يذكر بمواد أخرى مستنبتة من صميم بيئتهم؟.. لماذا غياب المنتوج الإعلامي التلفزيوني الموجه للمرأة ومعها الطفل المهاجر الذي نُجبره هكذا على التخلي عن قيمه وشخصيته فيما الآخرون يتمسكون بها ويصدرونها إليه بعناوين براقة؟.. هل يعلم القائمون على الشأن الإعلامي أن الثقافة والتاريخ المغربيين غائبان تماما مثل غياب رموز هذه الثقافة داخل المنظومة التعليمية الفرنسية. فالمغرب لا يظهر في دروس التاريخ إلا في نصف حصة تدريسية عمرها نصف ساعة في السنة من خلال الحقبة الاستعمارية التي جمعته بفرنسا، بينما لا يتعرف التلاميذ على ظهور الإسلام أو وجود الحضارات العربية والإسلامية إلا في درس واحد في التاريخ بالصف الخامس متوسط، وربما كان الاستثناء الوحيد، هو تقديم المغاربة والعرب في صورة المهاجرين المُتسببين في شقاء فرنسا ومشاكلها الاجتماعية. أبناء الجالية يشككون اليوم في أن يكون في القاموس الإعلامي المغربي مكان لهم، ويعتبرون أن القائمين على شؤونهم يسيرون اليوم بدون دليل ثقافي، بل يعتبرون الثقافة همّا زائدا حتى وإن كانوا يدركون بأن البلد المحتضن لأبنائهم يخصص لوزارة الثقافة ميزانية بقيمة 48 مليار أورو، أي ما يفوق بكثير ميزانية الدولة المغربية بكاملها.