من المحقق أن الخطاب الملكي في افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية يوم 10 أكتوبر 2014 أثار فينا جميعا روح الاعتزاز " بتامغربييت" الدفينة ، بدليل ما لاقاه من تصفيق طويل من طرف نواب الأمة. ولما كان الافتخار بتامغربييت يشمل منطقيا وبديهيا الافتخار بكل خصوصياتها المتميزة ، وفي صلبها طبعا الامازيغية ، فان الاعتراف بترسيم هذه اللغة في الدستور ، في عهد الملك محمد السادس ، يجسد بحق اعتزاز هذا الملك بمغربيته الكاملة ، وبصدق احساسه النبيل بهذا الشعور الذي عبر عنه بهذه الجملة المؤثرة : - " وانا كواحد من المغاربة ، فان اغلى احساس عندي في حياتي ، هو اعتزازي بمغربيتي." وما اظن اننا نبالغ أو نقول شططا إذا اعتبرنا الدعوة الى هذا الاعتزاز تمثل قمة وعي شعبنا بذاته، وتحرره اخيرا من فكرالاستيلاب الايديولوجي ، هذا الفكر الذي كان قد برمجنا - ولمدة تاريخية طويلة مع الأسف – على تبخيس الذات المغربية ، وربما على مقتها واحتقارها ، وذلك من خلال قيامه بربط هذه الذات ، بالسداجة وبالبداوة والجهل والتخلف الثقافي والحضاري وغير ذلك من الأوصاف السلبية ، التي كانت تدفع المغاربة على مر العصور الى إخفائها ، أو الى استبدالها بذوات أخرى شرقية أو غربية. وإذا ما صارحنا أنفسنا بالحق في اطار محاولة تصور درجات كمال الوعي التاريخي بتامغربييت ، كما ينبغي ان يكون عليه هذا الكمال ، فيمكننا بكل موضوعية وحياد ، أن نعتبر درجة وعي جلالة الملك بمغربيته تفوق بكثير درجة وعي الملك يوسف بن تاشفين، على اعتبار أن هذا الأخير على الرغم من ثبوت جهله لأية لغة أخرى غير لغته الأمازيغية، فلم يذكر عنه التاريخ أنه قام بأي شيء من أجل المحافظة على هذه اللغة أو النهوض بها. كما أننا إذا ما قارنا بين هدف المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية، في اقراره إدماج الأمازيغية في خطب الجمعة بمدينة فاس، وبين هدف إدماجها اليوم بمقتضى الدستور في جميع مجالات الحياة العامة، نجد الفرق شاسعا بين هذين الهدفين، إذ الأول يروم خدمة الدين، بينما الثاني يهدف الى خدمة الأمازيغية بذاتها ولذاتها. وما من شك ان اعتزاز جلالة الملك بالامازيغية ، وهو من اصل عربي شريف ، يذكرنا باعتزاز جده الرسول محمد ص ، بعروبته ، وهو من اصل كلداني ، علما ان النبي النبي ابراهيم عليه السلام ، الذي هو الجد الاعلى للرسول ينتسب الى اصل غير عربي ، ومن الواضح جدا ان هذا الامر يذكرنا كذلك باعتزاز الرئيس السابق لفرنسا السيد ساركوزي بفرنسيته رغم انتمائه الى نسب اخر غير فرنسي ، واعتزاز الرئيس اوباما بامريكيته رغم اصوله الافريقية ، وكل ذلك فيما اعتقد يتطابق مع المبدأ الكوني لهوية الشعوب المستمدة اساسا من الانتماء الى الوطن باعتباره يشكل أصلا جامعا واحدا وثابتا ، وليس من الاصول العائلية للمواطنين المتعددة والمفرقة والمتغيرة . . وبعد: أكيد أن الارتقاء بتامغربييت الى هذه الدرجة السامية من الاعتزاز بالذات ، مبعثه وعي جديد بحقائقها التالية : انها لا متناهية. أنها حرة. وأنها غاية في ذاتها. فهي لا متناهية لأنها ممتدة في أغوار الماضي السحيق، وفي ذات الوقت مسترسلة في آفاق المستقبل، أي ترى ماضي شعبنا وحاضره ومستقبله بعقلية حديثة تتسم بالوحدة والكلية التي لا تقبل التجزئة. وهي حرة ، لأنها كمياه البحر تحافظ دائما على جوهرها الطبيعي الامازيغي، رغم تغذيتها بكل الروافد التي احتكت بها في مختلف الأحقاب والعصور. ثم وهي غاية في ذاتها، لأنها ليست وسيلة لغيرها، إذ هي التي تشكل ذاتها، وتحدد مصيرها ومصالحها العليا بإرادتها الحرة. اعتقد ان اعتزاز جيلنا بهذا الوعي المغربي الجديد يجعله جيلا متميزا وفريدا من نوعه ، من منطلق انه يخوض لاول مرة في تاريخنا، معركة تحرير وطني في ميدان لم تتطرق اليه سابقا اية حركة من حركات التحرير والمقاومة ، هذا الميدان هو فضاء عقل شعبنا ، قصد تطهيره من سموم الفكر الايديولوجي المعششة في ثناياه. وبالفعل فبقدر ما كان المغاربة على مر العصور حريصين على حماية فضاء وطنهم ، وكيانهم من أي غزو اجنبي ، فقد تركوا – مع الاسف - ابواب فضاء قلعة عقلهم مشرعة لهذا الغزو ، فكانوا في هذا الامر شبيهين بمن لذغته عقرب ، فاعتقد انه تخلص من شرها بقتلها او بطردها من بيته ، تاركا سمومها تستشري في كيانه. فبهذه السموم كان اجدادنا يدمرون انفسهم بانفسهم ، وبها كانوا ينقادون لخدمة ذوات الاخرين وحضارتهم ، ومن ثمة خرجوا من التاريخ خاويي الوفاض ، بدليل انه رغم مساهمتهم - كما هو معلوم - في بناء كل الثقافات والحضارات التي عرفتها منطقة البحر الابيض المتوسط ، فقد كان البعض يسخر منهم بكونهم لم يرثوا عن اجدادهم سوى حلق الرؤؤس واكل الكسكس ولبس البرنوس. والغريب في الامر ان وزارة الثقافة المفروض ان يكون وعيها بالذات المغربية اكثر عمقا ، لم تنتبه الى تلك السموم ، وبذلك تقوم بتكريس هذا المنظور الدوني للمغاربة من خلال المتحف الاركيولوجي المجاور لمقر التلفزة بالرباط ، فعندما يزور الانسان هذا المتحف ، يخرج منه بفكرة ان تاريخ المغرب قبل الاسلام كان فقط تاريخ الرومان والفينيقيين ، وان المغاربة لم يكونوا يلعبون فيه أي دور ، فحتى التلميذ الذي درس الممالك الامازيغية في مادة التاريخ ، لا يجد في هذا المتحف اثرا واضحا لهذه الممالك ، لخلط انجازاتها مع مخلفات الاستعمار الروماني بشكل يوحي له ولغيره بان الاشياء الاثرية المعروضة خاصة بالفترة الرومانية . والمؤسف كذلك ان بعض وسائل إعلامنا الوطني تباشر بدورها عملية شرخ هذه الذات وتمزيقها عندما تقوم احيانا ، وفي " براءة سادجة " ، بتقديمها أحد المواطنين كفنان أمازيغي ، ثم تقديمها الأخر كفنان مغربي، أو عندما تقوم أحيانا أخرى بتصنيف تراث وطني معين ضمن الحضارة الأمازيغية ، وتراث آخر ضمن الحضارة المغربية ، مع العلم انه كان عليها أن تستغل قوتها الإعلامية لترسخ في أذهان الناس، أن مفهوم المغربي ، ومفهوم الأمازيغي ، لهما معنى واحد ، لا يختلفان الا في الإسم ، وأن الحضارة المغربية ، والحضارة الأمازيغية مترادفتان ، تدلان معا على نفس الشئ. لكن لما كان قطاع التربية والتعليم يشكل بطبعه اصل كل داء وكل دواء ، فان الخطر الادهى ينطلق دوما منه ، ومن هنا ان كان هذا القطاع قد قام - مشكورا – بحذف العبارة المسمومة الشهيرة : " البربر هم سكان المغرب الاولون " ، من مادة التاريخ ، فاننا مع ذلك نلاحظ ان وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني ، بمصادقتها على تدريس الكتاب التالي : " الجديد في الاجتماعيات للسنة السادسة من التعليم الابتدائي – كتاب التلميذ والتلميذة – العدد رقم 6 " ، فهي تقوم – من دون ان تقصد ذلك طبعا – ببث سموم الدونية والتفرقة في ناشئتنا ، على اعتبار ان هذا الكتاب يوحي لاطفالنا بانقسام ساكنة المغرب الى قسمين مختلفين هما : الأمازيغ ، الذين سكنوه قبل الإسلام ، والمغاربة الذين يسكنونه حاليا ، ذلك انه حينما قام باستعمال مصطلح "الأمازيغ" ، في فترة ما قبل الإسلام ، واصفا دول هذه الفترة " بالممالك الامازيغية " ، ثم قام بعد ذلك بتخليه عن استعمال هذا المصطلح في الفترة الإسلامية ، معوضا اياه باسماء قبائل متفرقة ومعزولة ، فانه بذلك يوحي لاطفالنا – بل ولاي كان - بوجود اختلاف بين الشعب الأمازيغي والشعب المغربي ، مع العلم ان الحقيقة الثابتة التي تتفق عليها كل كتب التاريخ تؤكد ما يلي : ان الأمازيغ والبرابرة والمغاربة ، ألفاظ مختلفة للشعب الواحد الذي ننتمي إليه جميعا. وخلاصة القول فعندما يرتقي الوعي بذات تامغربييت ، الى الدرجة التي تبدو فيها هذه الذات غير متناهية في ماضيها وفي مستقبلها ، وبأنها حرة مستقلة ، غير قابلة للانقسام في ساكنتها ، وفي تاريخها ، وفي ثقافتها وحضارتها ، وفي اجزاء ترابها الوطني ، ثم عندما يرى المغربي هذه الذات تشكل غاية في ذاتها ، أي ليست وسيلة لغيرها ، عندئد يدرك حق الادراك قول جلالة الملك في خطابه السامي : " نحن نعرف من نكون ، ونعرف الى اين نسير". وحينها يمكن لهذا المغربي ان يردد مع جلالته العبارة السابقة التالية : " وانا كواحد من المغاربة ، فان اغلى احساس عندي في حياتي هو اعتزازي بمغربيتي ".