منذ سنوات طويلة أتنقل في دول العالم قضيت منها عشر سنوات في لبنان وعشر سنوات في اليونان وحتى الآن ثلاث وعشرين سنة في هولندا. حضرت مراسيم دفن في أوربا ثلاث مرات لثلاث أمهات من أصدقائي. وكانت طقوس الدفن تطرد الوحشة عن الميت وترعاه بالإحترام والقدسية. حضرت قداس الكتائس للموتى وسمعت موسيقى الأورك وعزف موسيقى يختارها الشخص لموته فتثبت في وصيته. كتبت سيناريو مغربي عن شخص عراقي يعيش في المغرب وفيه مشهد يحضر فيه العراقي دفن أم مغربية. قرأ السيناريو صديقي المخرج كاظم الصبر وأبدى لي ملاحظة أن النساء لا يحضرن دفن الميت في المقبرة وهو طقس إسلامي! لم أكن منتبها لهذا الأمر لأنني ربما نسيت أو أنني لم أحضر مشهدا في مقبرة حين كنت صبيا. في مقبرة بجزيرة تاسل في الحدود الألمانية الهولندية حضرت دفن أم لجارتنا في لاهاي، يعيش أهلها في تلك الجزيرة. يقضي واجب الجيرة أن أذهب لحضور دفن تلك المرأة الطيبة التي كانت تزورنا بين الحين والحين. جلسنا في الكنيسة نسمع قصائد الشعر ومقاطع من الأنجيل ونسمع الموسيقى. كان المشهد جليلا مؤثرا. المطر ينث هادئا باردا وأحيانا بين ندى المطر الجامد تبزغ الشمس خجولة بين الغيوم فتلقي بضوئها على المشهد الجنائزي المؤثر في لحظة الوداع الأخيرة، حتى وصلنا مقبرة عامرة بالأشجار والناس تحمل باقات الورد. المشهد فيه رجال ونساء أو بالأحرى نساء ورجال أهل الجزيرة يذرفون الدموع على رحيل إبنة تلك الجزيرة. سألتني أبنتي هل صحيح في مراسيم الدفن الأسلامية المرأة لا تأتي لتوديع الميت لحظة دفنه؟! أنتبهت للسؤال وفهمت معناه .. وتساءلت وعدت للبيت في الطريق من الجزيرة إلى مدينة لاهاي والجواب يحيرني طوال الطريق مثل ما حيرني السؤال. إلى أية درجة نحن لا نحترم المرأة ولا نعطيها حقها لا في الحياة ولا في الموت! فهذا عالم فان والنهاية المحتومة آتية نحو كل إبن إمرأة وكل بنت رجل! وكل نفس ذائقة الموت. والله أنا حائر في الإجابة على سؤال إبنتي .. هل من يجيبها؟ المسألة لا تتعلق بالحياة والموت؟ ولا تتعلق بطقوس الموت والموسيقى والشعر وحنان الوداع والمطر والشمس والخلق والخالق الجميل والحياة والموت؟ لا .. المسألة تتعلق بحرية المرأة في لحظات الوداع الأخيرة! حتى في لحظات الموت وفراق الأحبة ليس للمرأة مكان بيننا؟! سينمائي عراقي مقيم في هولندا [email protected]