الإرهابُ الأصغرُ: هو كل أعمال العنف الفردى أو المنظم، التي يرتكبُها أصحابُها، تحت راية الجهاد أو الدفاع عن الدين، وهذا يمارسه أفرادٌ وجماعاتٌ وتنظيمات. الإرهابُ الأكبرُ: هو الاستراتيجية الغربية- أمريكية وأوروبية- التي قررت استخدام نظرية الجهاد الإسلامى في تحقيق أهدافها في حقبة المواجهة بين الشرق الشيوعى والغرب الرأسمالى، وهى المسؤولة- بالتأسيس والتمويل والتسليح والتوظيف- عن كل أشكال هذا العنف الذي يسمى الجهاد، من إندونيسيا إلى الجزائر، ومن الصومال إلى نيجيريا، ومن نيويورك إلى لندن، إلى مدريد، إلى باريس، وإلى ما يستجد خلال الأعوام القليلة القادمة، وقد عرفت هذه الاستراتيجية عدة مراحل: في المرحلة الأولى، تم تجريب قوى الاعتدال الإسلامى المهادنة للغرب: تركيا، السعودية ومعها دول الخليج، مصر، الأردن، الباكستان، اليمن الشمالى، في هذه المرحلة كان الاعتماد الغربى يركز على «الدول» دون سواها. في المرحلة الثانية، مع غزو السوفييت لأفغانستان، وسيطرة الشيوعيين على اليمن الجنوبى، بدأت فكرة الاعتماد على الجماعات بالتنسيق مع الدول، والجميع يتحركون تحت مظلة المخابرات المركزية الأمريكية ونظرائها في أوروبا وتوابعها في الإقليم. في هذه المرحلة، تم استخدام جماعة الإخوان المسلمين، مع القبائل، مع التمويل السعودى، مع اليمن الشمالى، للمواجهة المسلحة مع الشيوعيين في اليمن الجنوبى. تم استخدام الجماعة الإسلامية في باكستان ضياء الحق مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر السادات ومبارك، مع المخابرات المركزية الأمريكية جيمى كارتر ورونالد ريجان، في ابتكار جماعات المجاهدين الأفغان، وتولى الإعلام الغربى الترويج لها، وسعت كل أجهزة المخابرات الأوروبية ليكون لها موضع قدم في ساحات الجهاد الأفغانى المقدس. زبجنيو بيرززنسكى، مستشار الأمن القومى الأمريكى، والعقل الإجرامى، الذي استطاع استدعاء مفهوم الجهاد الإسلامى وتوظيفه- بمكيافيللية قاسية- في خدمة الاستراتيجية الأمنية والعسكرية الغربية. هذا الرجل لايزال على قيد الحياة، ولايزال في كامل حضوره الذهنى الجبّار، وقد سأله فريد زكريا- في CNN- عما ينبغى أن يفعله الغربُ في مواجهة «داعش»، فأجاب بكلمة واحدة: الاحتواء!. أمريكا- ومعها السعودية- كلتاهُما كانت شريكةً في قرار الرئيس السادات ابتكار فكرة الجماعات الدينية في الجامعات المصرية. أمريكا- ومعها السعودية ومصر والباكستانوالأردن- كانوا شركاء في تأسيس جماعات الجهاد الأفغانى، وفى تشجيع المواطنين العرب على الهجرة إلى الجهاد، الذي استمر قريباً من خمسة عشر عاماً، كانت كفيلة بتدريب آلاف الكوادر الشابة التي تحترفت القتال، وارتزقت من القتال، ولا تستطيع أن تعيش بغير قتال، ومنهم تناكحت وتوالدت وتكاثرت أجيالٌ جديدةٌ من المجاهدين العشوائيين في الفكر والفقه، المنظمين في الفعل والحركة، وقد تباعدت المسافاتُ بينهم وبين الأجيال الجهادية الأولى من الإخوان ومَن على شاكلتهم في التفكير، فجاءت طالبان، ثم القاعدة، ثم داعش. عندما كُنتُ رئيساً لتحرير صحيفة «الوفد»، زارنا السفير الأمريكى الأسبق فرانسيس ريتشاردونى، وقد آثرتُ أن أواجهه- بصراحة كاملة- وقصصتُ عليه، بالتفصيل، كيف صنعت المخابرات الأمريكية جماعات الجهاد، وكيف تخلصت منها بعد انتهاء دورها في هزيمة الروس، وكيف صنعت المخابرات الأمريكية جماعة طالبان، وكيف جاءت بهم من كتاتيب تحفيظ القرآن في قرى باكستان، وقلتُ له: كل ما تراه حولك من جهاد هو إرهاب لا علاقة له بالإسلام، ولكن له علاقة بمخابراتكم وأجندتكم وتمويلكم وتسليحكم وميكيافيلليتكم التي لا تتورع عن اللعب بأى شىء وبكل شىء، بما في ذلك مقدرات الأمم ومصائر الشعوب. احمرَّ وجهُه الماكر، والتزم الصمت الخبيث، وخرج وقفاه يُقَمّر «عيش»، وأظن أنه كتب- فىَّ وعنّى- أسوأ تقرير يمكن أن يُكتب عن رئيس تحرير يتجرّأ على المندوب السامى الأمريكى. المرحلة الثالثة، ما قبل وما بعد الربيع العربى، والمقصود بما قبل هو القرار الغربى بالمجىء بأردوجان في تركيا 2002م، وهى تجربة ناجحة، لرسوخ العلمانية في الدولة التركية، ولدرجة التطور الاقتصادى والاجتماعى في تركيا، ولنضوج واعتدال التدين التركى، ولخصائص القيادة في شخص أردوجان، وللتحالف الأمريكى، والتعاون الأوروبى. لكل هذه الأسباب نجحت تجربة الحكم الإسلامى في تركيا. لكن حين تم نقل هذه التجربة إلى مصر بعد عشر سنوات 2012م، في إطار إقليمى أوسع يشمل تونس وليبيا وسوريا واليمن، فإن الإقليم غرق في أسوأ موجات الإرهاب، اقتتالٌ عبثىٌ في كل الأنحاء. كان تقديرُ الغرب أن تسليم بلادنا لحكام من الجماعات والتنظيمات الدينية من شأنه أن يحمى الغرب من زحف الإرهاب عليه، على أساس أن هذه التنظيمات سوف تنشغلُ بالسلطة عن الإرهاب، وسوف يسهل تطويعها وترويضها وهى في أقفاص السلطة الجديدة عليها، ولكن الذي حدث هو: أن الشعوب أفشلت هذا المشروع الغربى، والجماعات- باستثناء تونس- اختارت أن تدافع عما تراه حقوقاً مكتسبةً لها بالعنف والإرهاب. خُلاصةُ الكلام: الإرهابُ الأكبرُ يُمسكُ بمفاتيح وصنابير ومنابع الإرهاب الأصغر.