تتيح لنا ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في مثل هذا اليوم من سنة 1944، الفرصة للتأكيد على جملة من الحقائق التاريخية التي يقع طمسها والتعمية عليها كلما تجدد الحديث عن هذه المحطة الفاصلة من تاريخ المغرب المعاصر. ذلك أن هذا الحدث العظيم هو وليد الفكر الوطني الذي خطط للانتقال بالمغرب من مرحلة المطالبة بالإصلاحات في ظل الحماية الفرنسية والحماية الإسبانية، إلى مرحلة المطالبة بفسخ معاهدة فاس المبرمة في 30 مارس سنة 1912، في تحوّل جريء وخطير (بالمعنى الإيجابي للخطورة) ارتفع بالحركة الوطنية المغربية إلى ذروة التحدي للوجود الاستعماري الذي اغتصب السيادة المغربية في مرحلة كانت شديدة الغموض، أحسن جلالة الملك الحسن الثاني، رحمه الله، حين وصفها بأنها كانت بمثابة حادثة سير، سقط فيها المغرب تحت جبروت الدولة الاستعمارية الفرنسية التي جلبت معها الدولة الاستعمارية الإسبانية. وثيقة المطالبة بالاستقلال هي وثيقة استقلالية وطنية شعبية، تعبر بقوة شدسدة وبوضوح كامل، عن الإرادة الجماعية الصلبة للشعب المغربي، صنعها حزب الاستقلال، الذي هو الوريث الشرعي الوحيد للحزب الوطني من أجل تحقيق مطالب الشعب المغربي، والوريث الشرعي الوحيد لكتلة العمل الوطني التي كان قد مضى على تأسيسها عشرة أعوام. فقد استهلت الوثيقة بعبارة : (إن حزب الاستقلال الذي يضم أعضاء الحزب الوطني السابق وشخصيات حرة (أي الشخصيات التي لم تكن منتمية للحزب الوطني، وأصبحت بتوقيعها على الوثيقة من مؤسسي حزب الاستقلال) ...). وبعد عشر حيثيات قوية وقاطعة، يقرر حزب الاستقلال أربعة مطالب رئيسَة، ثلاثة منها ترجع للسياسة العامة، ومطلب رابع يرجع للسياسة الداخلية. وتتضمن الحيثيات العشر التي تحدد الأسباب، ومن ضمنها حق المغرب في الاستقلال باعتبار أنه حَافَظَ دائمًا خلال التاريخ على استقلاله، تتضمن شرحًا تحليليًا دقيقًا للأوضاع العامة التي كان يعيشها المغرب، ولطبيعة النظام المغربي (حيث إن الأمة المغربية التي تكوّن وحدة ً متناسقة َ الأجزاء، تشعر بما لها وما عليها من واجبات داخل البلاد وخارجها، تحت رعاية ملكها المحبوب، وتقدر حق قدرها، الحريات الديمقراطية، التي يوافق جوهرها مبادئ ديننا الحنيف، والتي كانت الأساس في وضع نظام الحكم، بالبلاد الإسلامية الشقيقة). فحزب الاستقلال إذن، وليس غيره، هو الذي قرر في هذه الوثيقة التاريخية أولا ً، (أن يطالب باستقلال المغرب، ووحدة ترابه، تحت ظل صاحب الجلالة، ملك البلاد المفدى، سيدنا محمد بن مولانا يوسف نصره الله وأيده). وحزب الاستقلال هو الذي قرر (أن يلتمس من جلالة الملك السعيَ لدى الدول التي يهمها الأمر، للاعتراف بهذا الاستقلال، ولتوقيع اتفاقيات تحدد ضمن السيادة المغربية، ما للأجانب من مصالح مشروعة). وحزب الاستقلال هو الذي قرر (أن يطلب جلالة الملك انضمامَ المغرب للدول الموافقة على ميثاق الأطلسي والمشاركة في مؤتمر الصلح)، وحزب الاستقلال هو الذي قرر (أن يلتمس من جلالة الملك أن يشمل برعايته، حركة الإصلاح التي يتوقف عليها المغرب في داخله، ويكيل (أي حزب الاستقلال) بنظر جلالة الملك السديد، إحداثَ نظام سياسي شوري (أي ديمقراطي) شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية الإسلامية بالشرق. (يقصد بالبلاد العربية الإسلامية الشقيقة هنا، مصر، والعراق، وإيران، وتركيا، ثم سوريا ولبنان اللتان كانتا حديثتي عهد بالاستقلال)، تحفظ فيه (نظام الحكم) حقوقُ سائر عناصر الشعب (أي مكونات الشعب المغربي على تعدد أعراقها) و(حقوقُ) سائر طبقاته (أي جميع الفئات المجتمعية)، وتحدد فيه واجبات الجميع). وهذا الربط بين الحقوق والواجبات بهذه الصيغة المحكمة، هو مما تنفرد به هذه الوثيقة التاريخية. هذا الحضور القوي الفاعل والمؤثر لحزب الاستقلال في ساحة الحركة الوطنية المغربية، هو الذي أدى إلى تلك النقلة النوعية في العمل السياسي الوطني، خلال تلك المرحلة الدقيقة والحرجة، بل الخطيرة من تاريخ المغرب. ولذلك فإن طمس معالم هذه الحقيقة بالاكتفاء بالإشارة إلى (الوطنيين)، أو إلى (الحركة الوطنية) عند الحديث عن هذا الحدث العظيم، بدون تحديد دقيق يرسم معالم الصورة، هو تنكبٌ عن جادة الحق، وانحرافٌ عن الحقيقة، بل هو عمل من أعمال التشويه للحقائق، والتحريف للتاريخ، وخيانة الأمانة التي تقتضي رواية الأحداث كما كانت، لا كما يراد لها أن تكون. فليس من النزاهة في شيء، ولا هو من الموضوعية والمهنية في رواية التاريخ وتسجيل وقائعه، هذا الخروج على النص، وهذا التصرف غير اللائق الذي يخل بقواعد الرواية التاريخية النزيهة والمنصفة، التي تقتضي أن تكون على قدر كبير من التجرد والصدق والأمانة والالتزام بأخلاقيات المهنة. ولكن ما يقع في هذا اليوم من كل سنة، هو بخلاف ذلك تمامًا، فلا وسيلة إعلامية، من إذاعة وتلفزيون وصحف، تذيع أو تنشر النص الحرفي الكامل لوثيقة المطالبة بالاستقلال، سوى جريدتي «العلم» و»لوبنيون»، فيحرم بذلك المواطنون المغاربة (الكلمة تفيد الذكور والإناث كما لا نحتاج أن نقول) من معرفة حقيقة ما جرى في هذا اليوم التاريخي، إذْ تحجب عنهم الحقائق التاريخية التي تقطع بأن حزب الاستقلال هو صانع هذا الحدث الحاسم في تاريخ المغرب، وهو طليعة النضال الوطني الشاق والطويل الذي خاضه الشعب المغربي من أجل التحرير والاستقلال. فتلك هي الحقيقة التاريخية، سواء أكانت موضع تسليم واعتراف من المنصفين النزهاء، أم موضع نكران وإخفاء واعتراض وتشكيك. ولا تفسير ولا تعليل ولا مبرر لهذا النكران للجهود البطولية التي سجلها التاريخ لحزب الاستقلال الذي احتفلنا في الشهر الماضي بالذكرى الثمانين لتأسيس نواته الصلبة الأولى، كتلة العمل الوطني في سنة 1934، مسجلا ً بذلك السبق على المستويين الوطني والعربي الإسلامي في هذا المضمار. ومهما يكن من أمر، فإن وثيقة المطالبة بالاستقلال، ليست هي من وثائق الأرشيف التاريخي، ولا هي من الذكريات التي مضى عليها الزمن، ولم يعد لها تأثير في الواقع، ولكنها وثيقة حيّة، متجددة في جوهرها وفي روحها وعمق مضامينها، لأنها تربط حركة الإصلاح، التي هي حركة مستمرة لا تتوقف، بالملكية الدستورية، وبالحريات الديمقراطية، وبنظام الحكم الديمقراطي الذي لا يَتَنَافَى ومبادئ ديننا الحنيف. ولأنها تؤكد بصورة قاطعة، أن الملكية في المغرب هي القوة الدافعة للتقدم والازدهار، والحصن الحصين لحفظ استقلاله ولصون سيادته ولضمان استمرار الدولة المغربية. وتلك هي المبادئ الراسخة التي اعتمدتها هذه الوثيقة أساسًا قانونيًا، ودعامة لبناء مستقبل المغرب في ظل الحرية والاستقلال. فهذه المبادئ التي هي من الثوابت، لم تكن وسيلة للتحرر من عبودية الاستعمار وللحصول على الاستقلال فحسب، بل كانت ولاتزال، وستظل دائمًا، الوسيلة الأكثر فعالية ً والأشد تأثيرًا، للتطوير، وللإصلاح، وللتجديد، وللتحديث، ولمواكبة المتغيرات، ولبناء الحاضر وصناعة المستقبل. وبذلك تكتسب وثيقة الحادي عشر من يناير سنة 1944، خاصية الديمومة وصفة الاستمرار وطابع الفعالية التي لا تزيدها المراحل التاريخية التي يقطعها المغرب، إلا قوة وصلابة ومناعة وشدة التأثير في حياة الشعب المغربي. ومن أجل هذه الخصوصية التي تكتسيها وثيقة المطالبة بالاستقلال، فينبغي أن يكون التعامل معها على قدر عال من الوعي السياسي والرشد الحضاري والفهم التاريخي لسياق المتغيرات المتوالية التي تترك آثارها في الواقع المعيش، مما له صلة بالمفهوم العملي للاستقلال الوطني، الذي هو ليس فقط تحريرًا من الاستعمار، وليس هو كسرًا للحواجز التي أقامها الاحتلال أمام تقدم المغرب وازدهاره فحسب، ولكنه تحرير دائم من معوقات التقدم، وكسر مستمر للحواجز التي تحول دون انتظام مسيرة التنمية الشاملة المستدامة، والتي تضع العراقيل أمام بناء الدولة الحديثة على أقوى الأسس تكون فيها السيادة للقانون، والقرار للشعب الذي تمثله المؤسسات المنتخبة النزيهة، وفي إطار الملكية الدستورية. وهذا هو الجوهر الأصيل للاستقلال وروحه المشرقة ومضمونه الكامن فيه. ولذلك نؤكد دائمًا أن وثيقة الحادي عشر من يناير سنة 1944، ليست محطة تاريخية، ولكنها من المعالم التي تضيء الطريق نحو المستقبل.