عاش العالم في ظل نظام ثنائية الأقطاب من نهاية الحرب العالمية الثاتية سنة 1945 حتى سنة 1991 عندما تفكك الاتحاد السوفييتي رسميا في 25 ديسمبر 1991 باستلام بوريس يلتسين مقاليد الحكم وتوقيع رؤساء الجمهوريات السوفييتية ال15 على وثيقة تفكيك الإتحاد. تفكك الاتحاد السوفيتي أكمل صياغة نهاية حقبة توازن القوى على الساحة الدولية الذي سبقه سقوط حلف وارسو في عام 1990، وحائط برلين في 1989. وكان قدوم الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في الكرملين وخططه لإعادة البناء وخفض التوتر السوفييتي الأمريكي قد مهد الطريق إلى هذا الانهيار السلمي نوعا ما، والذي أحاط به ضباب من الانقسام الداخلي في الجيش الأحمر السوفييتي والذي أوصل بوريس يلتسين على ظهر دبابة إلى سدة الحكم في روسيا الاتحادية، ليرسخ فترة تفكيك قدرات الكرملين داخليا وخارجيا. سقوط وضع توازن القوى العالمي أتاح للولايات المتحدة فرض هيمنتها على العالم، وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أوجد المحافظون الجدد في البيت الأبيض ذريعة للعودة إلى سياسة فرض توجهاتهم بالغزو وبالقوة العسكرية المباشرة التي كانت حرب الفيتنام قد وجهت لها ضربة قاسية. قدر ساسة البيت الأبيض أن عهد الإمبراطورية العالمية قد حل ومعه ما وصفه بعض المحللين بنهاية التاريخ. نهاية التاريخ صاحب نظرية نهاية التاريخ فرانسيس فوكوياما شرح فكرته بالقول إن ما نشهده الآن ليس نهاية للحرب الباردة أو مرور فترة معينة لمرحلة ما بعد الحرب، وإنما نهاية للتاريخ، بوضع حد للأفكار الأيدلوجية في التاريخ الإنساني وانتشار قيم الليبرالية الغربية وإنهيار نظام توازن القوى. توازن القوى نظرية تقوم على أن وجود الدول والتحالفات في حالة تكاد تتعادل فيها قوتها العسكرية أمر من شأنه أن يحول دون نشوب النزاع المسلح، وعليه فإن بعضا من الدول تسعى إلى الحفاظ على التوازن العسكري فيما بينها، ويعتبر سعي إحدى الدول لزيادة قدرتها العسكرية بالصورة التي تخل بتوازن القوى أمرا يدعو للاضطراب ويولد سعيا من قبل الدول الأخرى لتعزيز توازن القوى بمعاهدات تلتزم فيها الدول الأطراف بالحفاظ على قوتها العسكرية ضمن حدود مقبولة من الدول الأخرى. وفي معاهدات السلام التي تبرم بين الدول بعد إنقضاء الحروب يتم في العادة التطرق لتوازن القوى والإشارة إلى الترتيبات التي من شأنها أن تحافظ عليه وتحول دون الإخلال به. تعتبر نظرية توازن القوى إحدى الركائز الأساسية لكل من نظرية الواقعية الكلاسيكية ونظرية العلاقات الدولية، وتسعى لتوضيح مفهوم تشكيل تحالفات. ونظرا لفكرة الفوضى في العلاقات الدولية التي تتبناها الواقعية الجديدة، يجب أن تضمن الدول بقاءها من خلال الحفاظ على قوتها وزيادتها في عالم يزيد فيه الاعتماد على المساعدة الذاتية. وتحاول الدول تجنب الوقوع تحت أي هيمنة محتملة عليها من قبل قوى متوازنة. ووفقا لكينيث والتز مؤسس الواقعية الجديدة، تسود سياسة توازن القوى عندما يتم استيفاء مطلبين إثنين فقط وهما: أن يكون النظام فوضوياً وأن يكون مشغولاً من قبل وحدات ترغب بالبقاء على قيد الحياة. ويمكن للدول القيام بذلك من خلال "التوازن الداخلي" حيث تستخدم الدولة جهودها الداخلية لزيادة قدراتها الاقتصادية ولتطوير استراتيجيات ذكية وزيادة القوة العسكرية، أو من خلال "التوازن الخارجي" والذي يحدث عندما تتخذ الدولة تدابير خارجية لزيادة أمنها عن طريق تشكيل تحالفات مع دول أخرى. نمط توزيع القوى جاء في بحث نشرته مجلة السياسة الدولية: إن هيكل النظام الدولي يتحدد بنمط توزيع القوى فيما بين الدول الكبرى عند قمة ذلك النظام، وهو النمط الذي يحدد بدوره نمط القطبية فى النظام الدولي، وليس هناك نوع واحد من القوة يتحدد به نمط هيكل النظام الدولي، ولكن بالقوة العسكرية والقوة التكنولوجية والقوة الاقتصادية جميعا يتحدد ذلك الهيكل وفى هذا الشأن فإن الولايات المتحدة تنفرد دون سواها من القوى الكبرى بوضع القطب الذى يجمع بين يديه الأنواع الثلاثة من القوة معا ولعل ذلك الوضع هو الذي يدعو كثيرا من الباحثين إلى وصف هيكل النظام الدولي بالأحادية القطبية فاليابان قوة كبرى تكنولوجيا واقتصاديا، ولكنها ليست كذلك عسكريا، والاتحاد الأوروبي قوة كبرى اقتصاديا وتكنولوجيا ولكنه ليس كذلك لا سياسيا ولا عسكريا، والصين والهند ما تزالان قوتين إقليميتين بالأساس ولعل القدرة الكبيرة التي تتمتع بها الولايات المتحدة الآن على إنفاذ تصوراتها وتحويلها إلى واقع معاش تعود إلى الفجوة الكبيرة التي تفصلها عن غيرها من القوى الكبرى الأخرى من حيث القوة العسكرية والقوة التكنولوجية العسكرية، وإلى تقدمها على تلك القوى الأخرى من حيث القوة الاقتصادية، وأيضا إلى امتلاكها لتصور استراتيجي متكامل لمستقبل النظام الدولي وعدم امتلاك الآخرين لتصور بديل كما يرى بعض المنظرين في واشنطن، بل واتفاقهم مع كثير من عناصر ذلك التصور وبخاصة تلك العناصر التي تتعلق بالأهداف حتى وان اختلفوا كلهم أو بعضهم مع التصور الأمريكي في أدوات ووسائل تنفيذه رؤية السياسة الأمريكية لمستقبل النظام الدولي: تنطلق رؤية السياسة الأمريكية من اعتبار أحداث 11 سبتمبر نقطة انطلاق من أجل تغيير النظام الدولي والتغيير المتصور هنا هو تغيير فى قواعد إدارة العلاقات الدولية، وتغيير فى أنظمة بعض الدول أو الوحدات التي تشكل عضوية النظام الدولي، وعلى النحو الذي يكرس أحادية القطب الأمريكي وسيطرته على النظام الدولي وينشر مبدأ الحرية الذي اتخذته الولايات المتحدة معيارا لسياستها منذ لحظة انخراطها في شئون العلاقات الدولية هذه الرؤية لا تقر سياسة الاحتواء، ولا توازنات القوى، ولا استراتيجيات الردع، كما أنها لا تقدس القواعد القانونية التي قامت عليها حركة العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والسبب في ذلك هو تغير الأساس الفلسفي للرؤية الأمريكية الراهنة لمستقبل النظام الدولي، فبعد أن كانت الولايات المتحدة تتزعم فريق الدول الداعية إلى الحفاظ على الوضع القائم، والاعتماد على مفاهيم وسياسات توازن القوى والاحتواء والردع، أصبح واجبا أن تتحول إلى قوة داعية إلى تغيير النظام الدولي حتى ولو استلزم ذلك عدم احترام مبادئ السيادة الوطنية وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، وصنع التغيير لدى الغير بائتلاف مع الدول الحليفة الجاهزة للتدخل، والمؤمنة به مثل بريطانيا، وإلا فيجب أن يتم التغيير بتدخل أمريكي منفرد ووفقا لهذه الرؤية الجديدة لفريق المحافظين الجدد فإن العبرة فى شأن مشروعية التدخل من أجل التغيير ليست بما إذا كان ذلك العمل متوافقا مع المبادئ والقواعد القانونية الدولية التى ينص عليها ميثاق الأممالمتحدة أو الاتفاقيات والأعراف الدولية. تفكك عناصر القوة عناصر القوة التي تصورت واشنطن إمتلاكها بشكل منفرد أخذت تتفكك نتيجة أزمتها الإقتصادية وتقلص قدراتها العسكرية مقابل نهوض روسيا وتمكنها من إعادة وضع توازن الرعب بفضل قوتها العسكرية المتنامية، وبمعيار المساحة، والموارد الاقتصادية، والقدرات الكامنة العلمية والتكنولوجية، وكذلك نظرا لما شهدته، خلال السنوات الماضية، منذ تولي فلاديمير بوتين رئاستها عام 2000، من خطوات للعودة إلى مسرح السياسة العالمية، بعد سنوات من تفكك الامبراطورية السوفيتية، وبروز بوادر خطر من احتمال التجزئة، وانفصال جمهوريات ومناطق عن جسد الدولة الروسية نفسها. تقدم الصين السريع نحو المرتبة الإقتصادية الأولى على الصعيد الدولي، المرفوق ببناء قوة عسكرية مرشحة لأن تصبح ندا مكافئا للولايات المتحدة إذا ما إضيفت إلى القوة الروسية تفرض تفوقا كاملا، هذه كانت كلها عوامل إضافية في تحجيم الهيمنة الأمريكية وعرقلة مشاريعها خاصة في منطقة الشرق الأوسط الذي يعتبر العديد من السياسيين التحكم فيها أحد العناصر الأساسية في إقامة نظام عالمي جديد. المشكلة أن غالبية مخططي السياسة الأمريكية لا يعترفون بهذه التحولات ويواصلون سياسة التدخل بشكل أو بآخر، وخاصة عبر ما يسمى المواجهة الناعمة أو الحرب بالوكالة، وذلك بإستخدام أطراف أخرى للقتال بدلا عنهم بشكل مباشر مثل المرتزقة والأحزاب والمنظمات التي تتبنى العنف للوصول إلى السلطة بالتعاون مع أطراف أخرى محلية وخارجية، حيث تأمل واشنطن أن تتمكن هذه الأطراف من ضرب أطراف أخرى والوصول في النهاية إلى النتيجة المرجوة دون الانجرار إلى حرب شاملة. حدثت بعض الحروب بالوكالة في نفس الوقت الذي حدثت فيه حروب شاملة. ويعتقد بعض المحللين أنه من شبه المستحيل أن تحدث حروب خالصة بالوكالة، حيث أن الأطراف الوكيلة قد يكون لها أهدافها الخاصة التي قد تنحرف عن مصالح الأطراف التي وظفتها. يعد مفهوم الحرب الناعمة من المفاهيم الجديدة التي استحدثت في عالم الحروب وذلك باستخدام وسائل وأساليب للتأثير على الآخرين تخلو من الاستخدام المباشر للقوة العسكرية ، وهذا ما عبر عنه جوزيف ناي الباحث والمتخصص في الشئون العسكرية ووكيل وزير الدفاع الأمريكي الأسبق الذي تحدث عن الحرب الناعمة بقوله: "استخدام كافة الوسائل المتاحة للتأثير على الآخرين باستثناء الاستخدام المباشر للقوة العسكرية". حقبة إنتهت خلال الثلث الأخير من سنة 2013 اكد زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق ان مفهوم الهيمنة العالمية فقد بريقه وان حقبة سلطة أمريكا على العالم قد انتهت محذرا من مواصلة السياسات السابقة يهدد الأمن الدولي. واوضح بريجنسكي في كلمة له بجامعة "جون هوبكينز" ان حقبة الهيمنة الأمريكية على العالم بعد الحرب الباردة والتي استغرقت 13 عاما، انتهت ايضا، بسبب تقويض شرعيتها خلال الاعوام الاخيرة. ورأى هذا المسئول الأمريكي السابق ان الحكومة الامريكية وعلى أقل تقدير لا يمكنها المحافظة على مكانتها الدولية الراهنة أكثر من عمر الحاضرين في الجلسة. وقال مستشار الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر ان على امريكا ان تواكب العالم الحديث الذي يواجه تعقيدات وتتكيف معه منتقدا التصريحات التي اطلقها الرئيس الامريكي باراك اوباما ووصفه للشعب الامريكي بانه شعب استثنائي. عالم يعيش حالة من اللانظام وجهة نظر زبيغنيو بريجنسكي وجدت مؤخرا دعما نسبيا من جانب أحد رواد فكر المحافظين الجدد الذي يتخلى ولو مرحليا عن فكرة الهيمنة الأمريكية ولكنه في نفس الوقت يكشف جزء من مخططات إعادة رسم حدود الدول، حيث يقدم وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنغر في كتابه الجديد "النظام العالمي" الصادر سنة 2014 تأملاته وقراءته لمسار تاريخ النظام العالمي، وما سيؤول إليه الوضع في ظل تنامي الفوضى وانعدام الاستقرار وتداخل العلاقات الدولية. ويتحدث كيسنغر عن وضع عالمي جديد سيظهر نتيجة انهيار بعض الدول التي لم تعد قادرة على فرض هيبتها على أراضيها وظهور قوى جديدة في مكان سلطتها ومناطق سيادتها. سنة 2001 وبعد أحداث 11 سبتمبر صرح كيسنغر، واصفا الوضع العالمي: "إن لم تستطع سماع طبول الحرب فأنت أصم"، اليوم، يبدو أن صدى هذه الطبول يدوي في مختلف زوايا العالم حيث تنتشر الأزمات في كل مكان: الصراع الروسي الأوكراني، التطرف والفوضى في العراقوسوريا وتداعيات ذلك على كامل منطقة الشرق الأوسط، إرهاب وأوبئة قاتلة في أفريقيا وتوترات في شرق وجنوب بحر الصين واقتصاد عالمي لازال عاجزا عن الوصول إلى مرحلة نمو كافية. وفي ظل الوضع العالمي الحالي الذي هو عبارة عن خليط متعدد الأقطاب من الدول الوطنية والمناطق والثقافات وفاعلين أشباح غير حكوميين، كيف يمكن بناء نظام دولي مشترك في عالم مليء بوجهات النظر المتباينة، والصراعات العنيفة، والتكنولوجيا المنتشرة للأسلحة والتطرف الأيديولوجي؟. الكتاب ضم تأملات وقراءة لمسار تاريخ النظام العالمي على غرار تصريحات كيسنغر ومؤلفاته العديدة الأخرى، وقد رافق ظهوره جدل كبير، وإن كان في مجمله يقدم تحليلا للوضع العالمي الراهن الذي تتشابك فيه الصراعات والأزمات من الشرق الأوسط إلى المحيط الهادئ، وتتعارض فيه مصالح القوى الدولية وتتلاقى في كثير من زواياها ومؤامراتها. من خلال هذه القراءة يؤكد رئيس الدبلوماسية الأمريكية، في عهدي الرئيسين نيكسون وفورد، انتماءه إلى المدرسة "الواقعية"، وفيها قدم أطروحته عن توازن القوى التي تفند نظريتي صراع الحضارات ونهاية العالم، وتلخص حال النظام العالمي الحالي، مؤكدا للذين يتهمونه بالتركيز على الواقعية على حساب كل الاعتبارات الأخرى، أن "المثاليين لا يحتكرون القيم الأخلاقية، أما الواقعيون فيجب عليهم أن يدركوا أن المثل هي أيضا جزء من الواقع". ويحاول كيسنغر أن يشبه الوضع في الشرق الأوسط بالحروب الدينية التي شهدتها أوروبا في القرن السابع عشر ولكنها أكثر اتساعا كما يبتعد عن أطروحة فرانسيس فوكوياما الشهيرة القائلة بنهاية التاريخ عبر المحاججة بقوة بأن التاريخ والهوية يكتسبان أهمية محورية في نظرة المجتمعات لنفسها في الزمن الحاضر. ويضيف أن ما يجري في الشرق الأوسط يثبت أن الدين عاد "ليحمل السلاح" في خدمة الأهداف السياسية، الذي يشير إلى أن الدول التي تتفكك وتنهار سلطتها تصبح ساحة للتنافس بين القوى المحيطة، وهذا هو حال كثير من دول الشرق الأوسط اليوم. ويضيف أنه في عصر الإرهاب الانتحاري وانتشار أسلحة الدمار الشامل، يجب النظر إلى النزاع الطائفي الإقليمي على أنه تهديد للاستقرار العالمي، وأن عدم تحقيق ذلك الاستقرار يهدد مناطق شاسعة بالفوضى وبانتشار التطرف في مناطق أخرى، وحتى من ساعد القوى المتطرفة لأي سبب من الأسباب، فهو ليس بمأمن من خطرها. ولتفادي الانزلاقات يقترح هنري كسيسنغر أن تطرح الولايات المتحدة السؤال التالي أولا: هل الأفضل التدخل أحادي الجانب أم متعدد الأطراف؟. أو هل يجدر بالولايات المتحدة أن تنسحب؟. وفي إجابته على هذا التساؤل يرى كيسنغر أن الائتلاف الدولي لتدمير تنظيم الدولة الإسلامية في العراقوسوريا أمر مناسب نظرا لخطورة هذا التنظيم على المنطقة وخارجها. لكنه لا يفضل أن يقتصر التدخل على الضربات الجوية بل يجب استخدام وحدات عسكرية تتحرك بسرعة على الأرض. وعلى نحو مماثل يجب على الغرب أن يكون حذرا في منطقة أوراسيا في ما يخص الوضع الأوكراني والروسي. "نحن نقول إن أوكرانيا دولة، لكن بالنسبة إلى روسيا، أوكرانيا هي جزء من التاريخ الروسي. كل طرف يتصرف بعقلانية لكنهما يصعدان من التزامهما لتصل إلى أزمة لا تتناسب مع حجم الخلاف". روسيا في معادلة الشرق الأوسط الجديد لا يختلف كثير من المحللين في أن منطقة الشرق الأوسط وخاصة نقطة المركز بها والممتدة من العراق شرقا إلى سواحل أفريقيا الشمالية على المحيط الأطلسي غربا، هي محور التدخلات والمنافسات الأكثر عنفا وخطورة في العالم مع إنتصاف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فالولايات المتحدة تخوض فيها حروبا بالوكالة بعد أن تعثرت حربها المباشرة على العراق والمستمرة منذ سنة 2003، ساعية إلى تحقيق مخطط المحافظين الجدد القاضي بإعادة رسم حدود المنطقة على أسس عرقية ودينية ومناطقية بحيث يتم إنشاء ما بين 54 و 56 دولة جديدة، وهو ما يخدم إسرائيل ويكفل استمرارها. عودة التوازن إلى الساحة الدولية يشكل أحد الدعائم التي تتعامل معها الحكومات العربية في نطاق جهودها لمواجهة التحديات التي تفرضها السياسات الأمريكية. خلال السنوات الأربع الأولى من العقد الحالي، تبنت روسيا مواقف في سياستها الخارجية أحيت التطلعات بعودة التوازن. وكانت خطوات ومواقف السياسة الروسية في منطقة الشرق الأوسط تحديدا لافتة، مع استمرار دعمها للنظام السوري على مدي ثلاث سنوات، وأخيرا دعمها للتغيرات الأخيرة في مصر بعد 30 يونيو، و 3 يوليو 2014. جاء في دراسة نشرتها مجلة السياسة الدولية: ذهبت أنماط التفكير بخصوص التحركات الجديدةلروسيا في الشرق الأوسط مذاهب متعددة: الأول: أشار إلى العنوان العريض، وهو "عودة روسيا"، في مشابهة بين الدور السوفيتي السابق في الخمسينيات والستينيات وما يتوقع من العودة الثانية لروسيا من تحالفات عسكرية، ومحاور مناهضة للسياسات الأمريكية. ويحمل هذا المذهب في طياته رؤية تري أن روسيا تستغل التوتر والاضطراب في علاقات دول المنطقة مع الولايات المتحدة في تسجيل نقاط قوة جديدة، واستعادة مواطئ قدم في دول لا تزال في الخندق الأمريكي. والثاني: انطلق من نظرية ملء الفراغ، حيث أكدت العديد من التحليلات أن الولايات المتحدة على مشارف إنهاء وجودها في المنطقة، بعد قربها من التخلي عن نفط الخليج العربي. ولأجل ذلك، تراجعت عن ضرب سوريا، وتقدمت في الموضوع النووي مع إيران، وأرسلت رسائل متعددة إلى دول بالمنطقة تدعوها للتأهب للاعتماد على ذاتها أمنيا، وأنها قررت نقل وتوجيه اهتمامها، وتكثيف علاقاتها في العقود المقبلة مع آسيا نحو الصين والهند..، وذلك في أكبر عملية تحول استراتيجي مخططة ومدروسة للسياسة الخارجية لقوة عظمي في التاريخ. وبمقتضي هذا المذهب، فإن روسيا لم تأت إلى الشرق الأوسط على غير إرادة الولايات المتحدة، وإنما بتنسيق معها لملء الفراغ المتوقع في المنطقة، على أثر الرحيل الأمريكي. أما المذهب الثالث، فقد أشار إلى ملامح ترتيب إقليمي، تقوده المملكة العربية السعودية، التي لديها اهتمام خاص بملف سوريا، وتريد أن تنهيه، حتي لا يتسبب في انعكاسات استراتيجية كبري على المنطقة، وأنها في سبيل ذلك مستعدة لتعويض روسيا عن خسارتها في سوريا بمساعدتها على استعادة الوجود والنفوذ في دول بالمنطقة. وضمن هذا السياق، راجت الأحاديث عن استعداد السعودية لتمويل صفقات سلاح روسية كبري، بهدف استمالة الروس نحو تغيير النظام السوري، ولكسر الدائرة، وتذليل كل العقبات للإطاحة بنظام بشار. وليس هنا مجال لتحليل جوانب قوة أو ضعف أي من المذاهب الثلاثة، والعلاقات الدولية تتضمن أبعادا مختلفة للظاهرة الواحدة، قد تجمع كل ذلك. لكن هذه المذاهب في قراءة الإطلالة الروسية الجديدة على الشرق الأوسط تتسم بالذاتية، وتربط التوجهات العالمية للسياسة الروسية باحتياجات وأوضاع منطقة الشرق الأوسط، وكأن القوي العظمي تضبط بوصلة سياساتها، وفق مقاسات هذه المنطقة فقط. وهذا المذهب ليس بعيدا فحسب من الناحية العلمية والواقعية، ولكنه أيضا بعيد عن فكر القيادات على الجانب الروسي، أو على جانب دول المنطقة، الذين حرصوا على تأكيد أن تطوير العلاقة البينية لن يكون على حساب العلاقة مع الولايات المتحدة التي لا يمكن الاستغناء عنها. ويوحي المذهب الأول وكأن روسيا عادت إلى العالم، حين قررت العودة إلى الشرق الأوسط، ولا يأخذ في الحسبان التراكم الكبير الذي حققته الدولة الروسية في علاقاتها بمختلف المناطق الاستراتيجية على مدي السنوات العشر الماضية سواء منطقة آسيا الوسطي، أو شرق آسيا، أو في سياق مجموعة البريكس، وهو ما يؤكد أن تحولات السياسة الروسية تدور وفق مصالح اقتصادية عالمية كبري، وليست منطلقة من ترتيبات استراتيجية شرق أوسطية فقط. وعلى الرغم من أن للمذهب الثاني بعض الوجاهة التي يعززها ما تأكد من توجهات السياسة الأمريكية الرسمية نفسها التي تتجه إلى الانعطاف تجاه آسيا الهادي، بدلا من منطقة الأطلسي، فإنه لا يأخذ في الحسبان احتياج هذه النقلة أو التحول الاستراتيجي إلى وقت أطول، وأنه لا يمكن إجراؤه بين يوم وليلة، كما أنه لا يأخذ في الحسبان استمرار قيمة الشرق الأوسط كمحطة انتقال وعبور استراتيجية دولية مهمة، ويغفل قيمة السيطرة الأمريكية على نفط الخليج العربي في التأثير في سياسات القوي الآسيوية الصاعدة التي هي في أمس الحاجة إليه مثل الصين، واليابان، والهند.. وغيرها. كما أنه لا يأخذ في الحسبان احتمالات التحول في السياسة الأمريكية على أثر الرؤي الاستراتيجية الجديدة، إذا قدمت إدارة جمهورية إلى البيت الأبيض. أما المذهب الثالث، الخاص بالسعودية، فإنه هو الآخر له بعض المصداقية، وقد يعززه إدراك المملكة للتحول الاستراتيجي في السياسة الأمريكية، والتوجه الآسيوي للولايات المتحدة، والعلاقة الخاصة لروسيابإيران التي يمكن أن تسهل الكثير من الملفات في الخليج العربي، ومن ثم يصعب ربطه بالملف السوري وحده. ويؤكد ذلك أن علاقات المملكة بروسيا أخذت في التطور باطراد على مدي السنوات الماضية وحتي 2013، وتطورت علاقات البلدين في مختلف المجالات. إن التحول في النظام الدولي له دلالات عديدة، منها أن المواقع القيادية داخل هيكل ذلك النظام لم تعد مقصورة علي قوي غربية وأمريكية أساسا، أو قوي أوراسية مثل روسيا، وإنما تمتد لتشمل قوي آسيوية مثل الصين، ثم الهند، أو لاتينية مثل البرازيل. إن وجود مجموعة البريكس التي تضم الصين، والهند، وروسيا، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، أو مجموعة ال20، هو من مؤشرات التعددية القطبية اقتصاديا، هو ما يجعل مساحة السيطرة، أو القيادة، أو التأثير لكل من الولايات المتحدةوروسيا أقل مما كانت عليه أيام الحرب البادرة وما بعدها. معني ذلك أن النظام الدولي أصبح أكثر تعقيدا، وأكثر اهتزازا، ويقل فيه النفوذ الأمريكي، ويقل فيه النفوذ الروسي عن سابقه السوفيتي، وإن كان أقوي من نظيره الروسي، خلال العقد الأول من زمن ما بعد الحرب الباردة. يؤدي ذلك كله إلي مسرح أكثر تركيبية وأجندة دولية أكثر تعقيدا علي الجميع. موقف لن يتبدل يسعى البيت الأبيض عبر وسائل إعلامه وتصريحات مسؤوليه إلى التقليل من خطورة التأزم المتواصل في العلاقات مع الكرملين، والتلويح بأن تفاهمات مشتركة يمكن أن تتم وذلك في محاولة لإقناع بعض الدول بعدم رهن أمنها بالتقارب مع روسيا. ولكن الأحداث تشير إلى أن المواجهة ربما تكون الأخطر منذ الحرب الكورية ذلك أن موسكو تشعر أن الولايات المتحدة لا تسعى فقط لمنعها من إستعادة مكانتها الدولية بل تعمل على تدميرها. يوم الخميس 4 ديسمبر 2014 وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جملة إتهامات خطيرة للغربيين خلال عرضه حصيلة السنة في كلمته السنوية امام مجلسي البرلمان الروسي، حيث أكد ان روسيا أمة متماسكة قادرة على الدفاع عسكريا "عن مواطنيها" وهي ضحية ساسة الغرب الساعين منذ القدم الى اضعافها كلما أصبحت "قوية جدا ومستقلة". وانتقد الرئيس الروسي "النفاق الصرف" الذي يمارسه الغربيون الذين لا يسعون، برأيه، الا إلى البحث عن ذريعة لمعاقبة روسيا. وقال ان "العقوبات التي فرضت نتيجة أزمة أوكرانيا لم تكن مجرد رد فعل عصبي من قبل الولايات المتحدة او من قبل حلفائها". واعتبر بوتين انه "حتى بدون الازمة الاوكرانية وضم القرم، لكانوا ابتكروا شيئا آخر للحد من قدرات روسيا المتنامية". وشدد على ان "هذه الطريقة في التصرف ليست بجديدة. هذا يعود لعقود وقرون. وبالفعل، فكل مرة يعتبر شخص ما في الغرب أن روسيا قوية للغاية ومستقلة، تظهر الاليات المتعلقة بوقف تقدم روسيا". وانتقد أيضا الولايات المتحدة التي "تسعى وراء التأثير من وراء الكواليس او مباشرة على علاقاتنا مع جيراننا". وقال هازئا: "احيانا، لا نعرف مع من يجدر بنا ان نتكلم، مع الحكومات او مباشرة مع حماتها او رعاتها الامريكيين". واعرب بوتين عن رغبته في "إعادة توطيد العلاقات التقليدية مع قارة أمريكا الجنوبية وكذلك مع أفريقيا ودول الشرق الأوسط. وأكد بوتين أن التفوق على روسيا عسكريا أمر مستحيل وجيشها قادر على الوقوف في وجه أي تحدي، وأعاد إلى الأذهان فترة كانت فيها روسيا أمام مخاطر تفتت جدية، وواجهت حركات انفصالية مدعومة من الخارج، لكنها تمكنت من الحفاظ على وحدة أراضيها ولم تتفكك رغم مساعي بعض الجهات لتطبيق السيناريو اليوغسلافي فيها. وأشار بوتين إلى أنه على رغم انفتاح روسيا كان خطر تقسيمها قائما وفق سيناريو يوغوسلافيا بكل ما يترتب عليه من عواقب مأسوية، مشيرا الى "حراك انفصالي مدعوم من الخارج إعلاميا وسياسيا وماليا وعبر قنوات استخباراتية". واعتبر أن خطط واشنطن لنشر "درع صاروخية" في أوروبا تهدد الأمن الاستراتيجي الدولي، "لأنها تخلق وهما خطيرا لدى واشنطن بأنها في أمان مطلق، ما يدفعها نحو قرارات أحادية الجانب وغير مدروسة"، مشددا على أن بلاده "لن تهزَم أبدا، ولن تسمح لأي طرف بالتفوق عليها عسكريا". وأصر بوتين على أن "الحديث مع روسيا بلغة التهديدات ومنطق القوة ليس مجديا، ونحن لن نسير أبدا على طريق الانعزال وكراهية الآخر، والبحث عن الأعداء لأنها مظاهر ضعف، في حين نحن أقوياء ونثق بأنفسنا، وهدفنا إيجاد أكبر عدد من الشركاء المتكافئين في الغرب والشرق معا". إن العالم يستعيد ملامح حرب باردة جديدة في ظل ما يحدث من استفزازات وتوترات، وإن ميزان قوى حديث يرتسم في الافق. سيرغي رادشنكو، الخبير في شؤون روسيا في جامعة "ابيريستويث" البريطانية " قال تعود الحرب الباردة الى الواجهة لكن على نطاق اصغر بالتأكيد مع مخاطر تصعيد فعلية". فيليب مورو ديفارغ، الباحث في معهد العلاقات الدولية الفرنسي أكد من جانبه "لقد كان الغرب في غالب الاحيان فظا مع روسيا. لقد قلل من شأن القومية الروسية وعزة نفس الروس. ان روسيا يديرها ايضا اليوم رجل مهووس بعظمة روسيا ويقوم بتشديد اللهجة بدلا من تهدئة الأمور"، وأضاف مورو "المخاطر هنا هي أن يتشكل تحالف مناهض للغرب". عمر نجيب [email protected]