كان القيادي الاخواني التاريخي «مصطفى مشهور» مشهورا بالصوت الخفيض والتماوت أثناء الحديث، وقد كان يظن أنه عندما يتحدث بطريقته هذه فإنه سيعطي انطباعا بالرقة والليونة، على الرغم من ان شخصيته كانت فيها حِدة وقسوة ولا مبالاة بالمشاعر الانسانية، فقد تدرج في التنظيم الخاص وارتقى في الجماعة عن طريق قوة السلاح ومهارة التخطيط، ومع ذلك فقد كان بالنسبة للعلوم الاسلامية سطحيا غاية ما تكون السطحية، وقد كان خالي الوفاض من أي ثقافة انسانية! فقد كانت ثقافته هي السلاح وحده، وحدث ان التقى الأستاذ عمر التلمساني المرشد الثالث للجماعة في النصف الثاني من السبعينيات بالشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله وكان برفقته مصطفى مشهور الذي كان يُكنى ب«ابو هاني» ويُعرف بين أبناء الحركة الاسلامية بالصقر، فأخذ مشهور يتحدث مع الشيخ عبد الحليم بطريقته المتماوتة، وكان مما قاله وهو يستجلب تعاطف شيخ الأزهر: اننا جماعة ضعيفة لا نملك من أمرنا شيئا، فقال الشيخ عبد الحليم داعيا: «اللهم قو ضعفهم» فانفرجت أسارير مصطفى مشهور وشكر الشيخ على هذا الدعاء، وبعد ان انصرفا من اللقاء قال الأستاذ عمر التلمساني لمشهور: أتعرف دعاء الشيخ عبد الحليم؟ قال مشهور: نعم، دعا لنا، فرد عليه التلمساني: بل دعا علينا، فلو قوَّى الله ضعفنا لهلكنا، صارت هذه الحكاية بعد ذلك من الحكايات المشهورة داخل الجماعة وأصبحت من النوادر وكان الحاج مصطفى يغضب عندما يسرد أحدهم قصة لقائه بشيخ الأزهر وما حدث فيه، ومن باب الاحتياط أصدر قسم الدعوة بالجماعة لخطباء الاخوان «منشورا دعويا» يتضمن نهيا عن ان يقوم أحدهم بالدعاء في الكتائب والمعسكرات الاخوانية قائلا: «اللهم قوِ ضعفنا»!. ولكننا في هذه الأيام أحوج ما نكون الى ان ندعوا الله قائلين: اللهم قو ضعف الاخوان، خاصة أنهم يخططون بسرية لخوض انتخابات البرلمان القادم، صحيح ان نتائج انتخابات برلمان تونس أظهرت بجلاء ان مشروع الاسلام السياسي آخذٌ في التآكل، فعلى الرغم من ان مشروع الاخوان في تونس كان أكثر ذكاء من شقيقه في مصر، وكانت لديه القدرة على التعامل مع كافة الأطياف السياسية بشكل أكثر موضوعية الا أنهم فشلوا في الحصول على ثقة الجماهير، هذا المشروع الذي عاش في ظل تعاطف الجماهير العادية بحيث لا يمكن ان تكون له حياة الا في ظل هذا التعاطف سقط عندما فقد ثقة الشعوب. ولا أظن ان جماعة الاخوان وباقي أطياف الحركة الاسلامية أدركت ان لها مشكلة رئيسية لم تستطع ان تحل معضلاتها بل يبدو أنها لم ترها أصلا وهي اشكالية التناقض بين الدعوة والحكم على الرغم من أنها الاشكالية التي واجهت الحركة الاسلامية على مدار تاريخها، كانت المشكلة الأكبر هي هذا الظن الذي تغلغل في شرايين قادة الحركات الاسلامية بأنهم هم وجماعتهم الاسلام نفسه والاسلام هم، ولكي يُقام الاسلام يجب ان يصلوا بأعينهم وأفكارهم الى الحكم، حينها سيكون الاسلام قد حكم وتكون الخلافة الراشدة قد عادت من جديد بعد ذلك المُلك العضوض! ومن أسف فان الرشد السياسي فضلا عن الديني ظل غائبا عن الحركة الاسلامية، فلم يحدث ان قدمت تلك الحركة عبر تاريخها نظرية سياسية للحكم واضحة المعالم تضع تفسيرا منهجيا للعبارة الغامضة المتناقضة (حزب مدني بمرجعية اسلامية) وللحق أقول ان النظرية الوحيدة التي أنتجتها العقلية الاسلامية في العصر الحديث كانت نظرية محض دينية أقام بنيانها سيد قطب وهي نظرية اقصائية متطرفة يغلب عليها الطابع الحركي وتحدد كيفية مواجهة المجتمع المسلم للمجتمع الجاهلي الى ان يصل المسلمون الخالصون في ظنه الى الحكم! وبعد ذلك لا يكون الحكم الا لله! فيتحاكم المسلمون وقتئذ لكتاب الله وسنة رسوله وحدهما دون غيرهما، دون ان يشرح لنا قطب ما هو الخيار الفقهي أو الآلية والوسيلة التي ستفهم الدولة الاسلامية من خلاله النصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة أو النصوص ظنية الثبوت قطعية الدلالة وأغلبها يتحدث عن الحكم والمعاملات. وأظننا لن ننتظر طويلا حتى تعود مدرسة «الامام محمد عبده» من جديد لتضع مشروعا مدنيا يرفع من قيمة العقل والحرية والعدالة والمساواة، ويجعل ركيزته الكبرى تعمير الأرض، ورغم داعش وأخواتها الا ان الأفضل هو القادم، فالقادم هو اسلام الانسانية.