سجل تباين في تقديرات المراقبين والمحللين ومراكز الرصد بشأن الكيفية التي ستنهي بها مواجهة شهر رمضان سنة 2014 بين قوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وجيش الكيان الصهيوني. إستعراض ومتابعة هذا التباين يجب أن تتسم بالحذر للتمكن من الخروج بتقدير يتميز بدرجة عالية من الدقة والموضوعية، ذلك لأن البعض من التقديرات المطروحة تخفي بين طياتها معطيات مغلوطة أو ملغمة نتيجة لإقحام توجهات واضعيها الذين تقودهم خياراتهم السياسية والمذهبية إلى الوقوع في فخاخ الخطأ والخروج عن الموضوعية. المواجهة الدائرة غير متكافئة حسب الحسابات العسكرية المجردة لأنها تقع بين جيش يعتبر من حيث القوة ضمن الخمسة عشرة الأوائل على الصعيد العالمي وهو مسلح بأحدث الأسلحة برا وبحرا وجوا، والمقاومة الفلسطينية في غزة المشكلة أساسا من كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس وحركة الجهاد والتي تعتمد على كمية محدودة من السلاح الخفيف والمتوسط وصواريخ ومعدات تعتبر بدائية جزء منها مصنع محليا. هذه المواجهة ليست جديدة فقد تكررت عدة مرات منذ سنة 2007، وفي كل مرة كانت تنتهي بإتفاقية لوقف إطلاق النار وبشروط والتزامات من جانب أطراف الصراع، يعلن كل طرف بعدها أنه حقق من خلالها أهدافه. المراقبون يتوقعون وقفا جديدا لإطلاق النار ينهي مواجهة شهر يوليو 2014، إلا أن الشروط قد تكون مخالفة لسابقاتها ومؤثرة بشكل مختلف على العديد من دول المنطقة. ترسانة صواريخ المقاومة تميز الصراع المسلح الجديد والذي أطلقت عليه سلطات تل أبيب من جانبها تسمية "الجرف الصامد"، بتمكن المقاومة من تسجيل تقدم نوعي في عملياتها العسكرية وخاصة في مجال استخدام الصواريخ حيث أصبح الجزء الأكبر من كل فلسطينالمحتلة داخل مدى القصف. جاء في تقرير عسكري: لا يمكن الحصول على رقم دقيق لكمية الصواريخ الموجودة لدى المقاومة، ولكن مجمل التقديرات العسكرية تشير إلى إمكانية امتلاك المقاومة لترسانة من 20 ألف صاروخ بحد أدنى من مختلف الأعيرة والأنواع. ومما لا شك فيه أن هذه الترسانة تشكل العامل الأساس في ضرب وإيذاء العدو على المستويين النفسي والعسكري. وقد أثبتت المقاومة في فلسطين حتى الآن قدرتها على ضرب أهداف في عمق الأراضي المحتلة على شعاع يصل حتى 170 كيلومتراً. وتبقى الميزة الأساسية لهذه الصواريخ في القدرة على إخفائها وتخزينها فضلا عن القدرة على إدخالها إلى الأراضي المحتلة، كما تحمل عددا من الميزات التكتيكية، أبرزها القدرة على إطلاقها من منصات أرضية وتحت أرضية ثابتة ومتحركة، ما يعطي الرماة القدرة على تمويه أماكن وجودها وإطلاقها. كما أن ميزتها التكتيكية الأساسية تبقى في عدم قدرة منظومات الصواريخ الاعتراضية الإسرائيلية على اعتراضها بسبب سرعتها العالية، وامكانية إطلاقها بصليات كبيرة، وعلى علو منخفض، ما يؤخر ويربك قدرة الرادارات على التقاطها ومن ثم اعتراضها في الوقت الذي تكون قد قطعت فيه مسافة أمنت إصابتها لأهدافها. وتمتلك المقاومة ترسانة صاروخية كبيرة من الصواريخ السوفياتية التقليدية من طراز "غراد" و"كاتيوشا" والصواريخ من عيار 107 ميلليمتر التي يصل مداها الأقصى إلى عشرة كيلومترات. يضاف إلى ذلك صواريخ "القسام 1" و"القسام 2" التي يتراوح مداها بنسختها المتطورة من 9 إلى 12 كيلومتراً، وتبلغ حمولة الرأس المتفجر فيها من 5 إلى 6 كيلوغرامات من مادة "تي ان تي" شديدة الانفجار. أما صاروخ "القسام 3" وهو النسخة الأكثر تطورا، فيصل طوله إلى ما يزيد عن ثلاثة أمتار، ويفوق مداه 16 كيلومترا، ويحمل رأسا متفجرا مكونا مما يزيد عن 10 كيلوغرامات من مادة ال"تي ان تي". صواريخ ال"كاتيوشا" وهي نوع من المدفعية الصاروخية التي بنيت في الأصل واستعملت من قبل الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية. ومن ميزات "الكاتيوشا" سهولة تحريكه وسرعة إخفائه وهو ذو قدرة تدميرية كبيرة، وقادر على إحداث هلع أو انهيار نفسي لدى العدو. وتتميز هذه بفعاليتها في ساحات القتال الضيقة والجبلية، وهو من عيار 132 ميلليمترا ويبلغ وزنه 42.5 كيلوغراما ويصل مداه العملي إلى نحو 15 كيلومتراً. اما صاروخ "فجر 5" فهو صاروخ تم تطويره في سوريا، ويصل طوله إلى 6 أمتار ومداه العملي إلى حوالي 100 كيلومتر وهو قادر على الوصول إلى تل أبيب، ويعد "فجر 5" سلاحا جديدا تستخدمه المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، وهو نسخة عن الصاروخ الصيني "دبليو اس". أما صاروخ "أم 75" وهو من الصواريخ المتوسطة المدى، فيصل مداه ما يقرب ال 75 كيلومترا. ويلفت خبراء إلى أن الفرق بينه وبين صاروخ "فجر" هو في القوة التدميرية للرأس المتفجرة، حيث تبلغ القوة التفجيرية لرأس صاروخ "فجر 5" ما يقارب ال 90 كيلوغراما، فيما تبلغ القوة التفجيرية لرأس صاروخ "أم 75" ما يقرب ال 70 كيلوغراما، كما يتميز الأول بدقة إصابة أعلى. وهناك صاروخ "أر 160" ويصل مداه إلى أكثر من 120 كيلومترا وبرأس تفجيري يناهز ال 45 كيلوغراما، وصاروخ "أم 302" وهو سوري الصنع يصل مداه العملي إلى حوالي 150 كيلومتراً وبرأس تفجيري يناهز ال145 كيلوغراما. وتستطيع المقاومة بواسطة مجمل هذه الترسانة الصاروخية ضرب المدن الإسرائيلية المحتلة الرئيسية مثل تل أبيب وحيفا بالإضافة إلى المطارات العسكرية والمدنية والمفاعلات النووية الإسرائيلية بشعاع يغطي تقريبا كامل الأراضي المحتلة وهو ما يقلب ميزان المعركة عسكريا ونفسيا لصالح المقاومة. مواجهة تطور مدى صواريخ المقاومة بغض النظر عن الجدل الدائر حول الفعالية القتالية للقذائف الصاروخية وحجم الخسائر التي تلحقها بالخصم، أصبح التعامل معها أساسيا بالنسبة للساسة الصهاينة ولحليفتهم الولاياتالمتحدة. المشكلة بالنسبة لواشنطن وتل أبيب أنه في كل المواجهات السابقة والتي كانت تكشف عن تقدم قدرات المقاومة المستمر لم تنجحا حتى في تقليص الخطر الذي يتهدد إسرائيل. طرح تطور المدى الذي تبلغه الصواريخ التي تستخدمها حركة حماس، عدة سيناريوهات للتعامل معها. يوم 16 يوليو تناول فريد زكريا هذا الموضوع في برنامجه على شبكة "سي إن إن" الأمريكية باستضافة الخبيرين برت ستيفنس، الكاتب في وول ستريت جورنال، وريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية. وفقا لستيفنس فإنه يتعين على إسرائيل أن تدمر حركة حماس بالكامل عبر إعادة إرسال قوات إلى غزة، مما يعني بطريقة أو بأخرى إعادة احتلال مؤقت للقطاع. ويقول ستيفنس إن الأمر لا يتعلق بإعادة احتلال كامل ولكن بإعادة احتلال أراض تفصل غزة عن مصر لأن "ما نراه الآن هو أن حماس تطلق صواريخ تصل إلى تل أبيب والقدس وحيفا وهو أمر لا يمكن لأي دولة أن تقبل به بغض الطرف عن دقة تلك الصواريخ وفعاليتها. والأمر المقلق حقا أنها المرة الثالثة التي تخوض فيها إسرائيل حربا منذ سحب جميع مستوطناتها ومستوطنيها من قطاع غزة عام 2005". ويضيف "لدينا الآن دورة عنف تتكرر ولذلك لا أعتقد أنه سيكون من الحكمة أن تترك حماس هناك في غزة وهي تمتلك قاعدة للقوة. ومن البديهي أنه لا يمكنك القضاء عليها بالكامل ولكن يمكن القضاء على فعالية قوتها القتالية ومؤسستها السياسية. ومن جهته، يرى هاس أنّه لا توجد أي فرصة للقضاء المبرم على حركة حماس سواء سياسيا أو عسكريا. فالحركة تملك "ما بين 10000 و12000 صاروخ تصل أكثر فأكثر إلى داخل العمق الإسرائيلي. لنفترض أنك قضيت على 25 بالمائة من تلك الترسانة. هذا سيعني أنه سيبقى لديها ما بين 8000 و9000 صاروخ. يمكنك أن تدمرهم عسكريا ولكن سياسيا ستقوى لأنها ستكون رمزا للمقاومة". وأضاف "عليك أن تفكر في كيفية إضعاف هذه الحركة وليس تقويتها، إذا أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ما أقترحه هو عزل حماس وإنهاء تحالفها مع فتح. بذلك نقول لهم :انظروا لهؤلاء الذين لديهم شيء لتقديمه للفلسطينيين في الوقت الذي أنتم، حركة حماس، لم تجلبوا لهم سوى البؤس. لا أرى حلا إلا في الدبلوماسية البديلة". في الكيان الصهيوني حالة من التخبط في التعامل مع المواجهة الجديدة، فإذا كانت حكومة تل أبيب قد إختارت ركوب قطار الحرب فإنها وحسب رأي كبار المحللين لديها لم تخطط لإسلوب الخروج. كبير معلقي "يديعوت أحرونوت"، ناحوم بارنيع شدد على أن يوم موافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار كان "غير لامع"، ليس بسبب أن الجيش افتقر للعمل الناجع ولا لأن حماس واصلت إطلاق الصواريخ وإنما "لأن المبادرة والقرار بشأن مجريات المواجهة انتقل إلى حماس في الأساس. والانطباع أن اسرائيل تنقاد من دون هدف لنهاية، ومن دون إستراتيجية ومن دون رب بيت. ولذلك تأثيرات عسكرية خطيرة وتأثيرات سياسية. إن إسرائيل لديها متحدث ممتاز اسمه بنيامين نتنياهو وليس لديها رئيس وزراء". وعدد بارنيع تناقضات الحكومة والجيش التي تبدت في التعامل مع حماس والعملية سواء بوعود الحسم أو العملية البرية أو الردع أو قراءة الواقع المحيط. وبالعموم تعامل الجيش مع "الجرف الصامد" على أنها عملية عقابية وليست ضربة قاضية، برغم أن أحدا في القيادة العسكرية الإسرائيلية لا يؤمن بإمكانية الضربة القاضية لحماس. تبنى نتنياهو، بحسب بارنيع، التصورات العسكرية ولم يحدد هدفا للحرب سوى إضعاف حماس. ومن بين التناقضات أن حكومة نتنياهو تطالب دول العالم بعدم التعامل مع حماس، لكنها اليوم تحث هذه الدول على إقناع حماس بقبول وقف إطلاق النار. واعتبر أن الجيش ونتنياهو يهربون من تحمل المسؤولية بإلقائها على الآخرين. عموما، يرى بارنيع أن مشكلة نتنياهو في وزيريه، أفيغدور ليبرمان ونفتالي بينت، اللذين يدفعان لعملية برية في غزة وينتقدانه بشدة، ما يمكن أن يجره إلى مكان لا يريده. تحد حقيقي لإسرائيل وجيشها يوم 17 يوليو كتب المحلل الإسرائيلي آري شبيط في صحيفة هآرتس: "لا يبدو الأمر جيدا من اللحظة الاولى، أعني المصطلح المقلق، عملية مدحرجة. والوعد المكرر بأن حماس مذعورة وعدم وجود ضربة أولية ساحقة دقيقة. وخطوط تشابه ما مع حرب الخليج الاولى: فلا يوجد في الاسبوع الاول ضرر كبير، ويوجد القليل من الضحايا، لكن السيادة الاسرائيلية قد دُنست. وتوجد خطوط تشابه اخرى مع حرب لبنان الثانية مثل توهم أنه يوجد وقت والشعور بأنه يمكن التمهل، وعدم القدرة على اتخاذ قرار الوقف أو التصعيد. وهكذا تظهر علامات سؤال رويدا رويدا. هل وعدونا بأن حماس مردوعة؟ إنها ليست كذلك. وهل وعدونا بأن الجيش الاسرائيلي عنده جواب؟ ليس الجواب كاملا. فلا يوجد حل مدرسي ولا ضربة خاطفة. ومع عدم القدرة على الضرب كما ينبغي من الجو يصبح المجلس الوزاري المصغر مضطرا إلى الدخول البري الخطير، أو تسوية هشة اشكالية. إن الجرف صامد في الحقيقة لكن الصورة واضحة وهي صورة منظمة صغيرة وفقيرة ومتطرفة تنجح في تحدي الجيش الاسرائيلي القادر على كل شيء. وتنجح التقنية المتدنية لغزة تحت الارض في مواجهة تقنية اسرائيل العالية زمنا طويلا. وليس ذلك حسنا، ليس حسنا بما يكفي. إن المسألة الاخلاقية لا لبس فيها وذاك أن حماس حركة دينية متطرفة، هاجمت دولة اسرائيل في يوم ما صاف. وقطاع غزة قطعة ارض ليس فيها مستوطنات ولا حواجز ولا جيش احتلال ولهذا لا يوجد أي تسويغ للهجوم الوحشي على السكان المدنيين في اسرائيل. لكن الأمر الاستراتيجي أكثر تعقيدا. فاسرائيل لم تفعل في السنوات الاخيرة لمواجهة احتمال اشتعال مواجهة مرة اخرى في الجنوب، ما كان يفترض أن تفعله، فلم تستغل سنوات الهدوء للدفع بمسيرة سياسية قدما، ولم تستغل لبناء أساس صلب لشرعية دولية. ولم تستعمل السنوات السمان لمنح الجيش الموارد والدعم الذي كان يحتاج اليه. ولم تتحقق إسرائيل الوادعة في الألفية الثالثة من أنها مستعدة كما ينبغي لصدام مع من يريدون القضاء عليها. الأهداف يعتقد عدد من المراقبين أن هذه الجولة من القتال ترمي، من ناحية إسرائيل، لإجبار حركة "حماس" على قبول وقف إطلاق النار بالصيغ المطروحة، في حين تعني من ناحية "حماس"، رفض هذا المطلب والاستعداد للمواجهة وتصر على مجموعة من المطالب. ويشير معلقون إسرائيليون إلى أن جانبا من العزم الذي تبديه الحركة في هذه المواجهة يعود إلى إحساسها بتردد نتنياهو، ولذلك فإنهم يشددون على أن نتنياهو وقيادة الجيش، الذين كانوا يرفضون العملية البرية، قد يجدون أنفسهم مضطرين لخوضها بكل ما تتضمنه من أخطار. وفي نظر المعلقين فإن هذا إنجاز ل"حماس" التي أفلحت في أن تجبر الجميع على اللعب وفق أجندتها، وليس أن تلعب هي وفق أجندتهم. كتب المعلق العسكري لصحيفة "هآرتس" عاموس هارئيل أن "دخول الجيش الإسرائيلي برا إلى قطاع غزة سيلاقي جهدا دفاعيا من حماس التي ستستعمل الصواريخ المضادة للدبابات والمتفجرات ونظاما دفاعيا من أنفاق تحت الأرض. ويتوقع أن تزيد في الوقت نفسه محاولات اطلاق القذائف الصاروخية على المراكز السكنية في اسرائيل، وستضطر الحكومة المصغرة الى أن تفكر في أنه هل يوجد قدر كاف من المعلومات الاستخبارية الدقيقة، وهل توجد اهداف يمكن احرازها بعملية برية محدودة قبل الموافقة عليها. وستكون حيرة الوزراء بين الخشية من أن يبدوا مستعدين لانهاء المعركة بنتيجة التعادل مع حماس "التي ستعرض التعادل على أنه انتصار كبير" وبين الخشية من التورط واصابات في قوات الجيش الاسرائيلي. وقد أصبحت الساعة السياسية تتكتك في الخلف". لكن الغارات الجوية لا تمثل حلا لواقع أسلوب عمل المقاومة في القطاع حيث يجري قصف المكان مرات ومرات وتستمر الإطلاقات الصاروخية من ذات المكان. وقد لجأ الجيش الإسرائيلي إلى أسلوب تنفيذ مجازر كالتي وقعت في الكثير من البيوت والمساجد حيث لا يتورع عن قتل مدنيين بهدف الردع. كما لجأ إلى الأسلوب المجرب والذي فشل مرارا بمحاولة خلق شرخ بين الأهالي والمقاومة عبر مطالبة أحياء بكاملها بترك بيوتها والهجرة إلى أماكن أخرى في القطاع. وخلافا لمنطق إسرائيل في السعي لتحقيق حسم سريع في المعارك فإنها هذه المرة تحذر منذ البداية أن المعركة ستكون طويلة بقصد الإيحاء باستعدادها لذلك. لكن من يعرف واقع إسرائيل النفسي والاقتصادي يدرك أن نافذة الوقت أمام القيادة الإسرائيلية تغلق وبسرعة ليس فقط بسبب ضغوط دولية ولكن أصلا بسبب ضغوط داخلية. إن معضلة إسرائيل مع غزة مزمنة ولا حل لها في المستقبل المنظور. والمسألة لا تكمن فقط في إطلاق النار من عدمه لأن ذلك نتيجة حتمية لواقع أشد عمقا. فالقطاع محاصر وهو التجسيد لفكرة إسرائيل في حشر الفلسطينيين في أضيق نطاق والتمتع بأكبر قدر ممكن من أرضهم. ولذلك فإن مسألة غزة ليست الحصار وإنما الحل الشامل الذي من دونه يتعذر أبدا حل المعضلة. فغزة من دون حل شامل يضمن الحقوق لا يمكنها أن تهدأ وإن هدأت فإلي حين. إذ ليس صدفة أن ثلثي أهالي قطاع غزة هم من اللاجئين الذين يرون من شرفات بيوتهم أرضهم في الجانب الآخر من الحدود. وفي كل حال من الواضح أن إسرائيل محتارة جدا ليس فقط في تحديد أسلوب التعامل العسكري مع غزة وإنما أيضا محتارة في تحديد الأهداف التي تريدها من كل تصعيد. صحيح أن اليمين المتطرف يطالب نتنياهو باستخدام "عقيدة الضاحية" وتحويل "الشجاعية إلى الضاحية"، غير أن نتنياهو لا يزال يدرك القيود المفروضة على القوة الإسرائيلية. والأهم أن الشجاعية، مثل الضاحية، لم تعد تقبل أن تكون الضحية الصامتة وهي تملك من القوة ما يجعلها بالغة الإزعاج لإسرائيل. لذلك فإن الخيارات الأهم هي بين المعركة البرية واتفاق وقف إطلاق النار. ويبدو أن وقف النار هو الأقرب والأقل تكلفة لإسرائيل. لا خيار ثالث يوم 16 يوليو وعلى موقع الجيش الصهيوني الإخباري، اعتبر قائد سلاح البحرية الصهيونية السابق "إليعيزير مروم" أن "إسرائيل" تقف أمام خيارين، إما الإكتفاء بالتهدئة المؤقتة أو التوجه نحو نزع الصواريخ من قطاع غزة، الأمر الذي يتطلب إدخال قوات برية إلى داخل القطاع، لافتا إلى أنه حان الوقت لتقييم الحملة العسكرية، وما هي الأهداف التي يمكنها تحقيقها. وزعم "مروم" أن حماس من الناحية العسكرية قامت بتفعيل كل المفاجآت التي أعدتها للمعركة الحالية، ولم يتبق لديها سوى الصواريخ، مشيرا إلى أن العالم العربي لا يسارع إلى التدخل السياسي، معللاً ذلك بأن حماس هي "منظمة إرهابية دولية"، أو بسبب التعب الدولي مما يجري في الشرق الأوسط، الأمر الذي يوفر ل"إسرائيل" حيزا واسعا جدا للعمل لم يسبق له مثيل. وأوضح أن على "إسرائيل" أنّ تقرر كيف تنهي المعركة، وأنّها تواجه خيارين، الأول الدخول في مسار تؤدي إلى وقف إطلاق النار، وفي هذه الحالة يكون استنادا إلى تفاهمات "عامود السحاب" التي لم توفر الحماية لإسرائيل من قصف الصواريخ، أما الخيار الثاني فهو محاولة التوصل إلى نزع الصواريخ من قطاع غزة، وذلك بهدف تحقيق تهدئة للمدى البعيد، غير أن مثل هذا الهدف لا يتحقق بالوسائل السياسية، ومن أجل تحقيقه بالوسائل العسكرية فإن ذلك يتطلب إدخال قوات برية إلى قطاع غزة، وهو ما يعني عملية عسكرية طويلة. وذكر إليعيزير مروم أن مصادر عسكرية وأمنية صهيونية كشفت أن الجيش الصهيوني استكمل الاستعدادات لعملية برية ضخمة في قطاع غزة، وأن المرحلة الآن بحاجة إلى توجيه من رئيس الحكومة ووزير الحرب بشأن حجم التدخل البري، لافتا إلى أن المسؤولين في الجيش وكبار ضباط هيئة الأركان العامة مجمعون على ضرورة القيام بعملية كهذه لإلحاق ضربة مدمرة للبنية التحتية التابعة لحماس، والتي سيكون لها تأثير لمدى طويل. هناك ضمن القيادة الإسرائيلية من لا يريد ركوب مغامرة الحرب البرية وقد ذكر أن قائد سلاح الجو الصهيوني "أمير إيشل" يحاول اقناع رئيس الأركان ووزير الحرب بأن سلاح الجو يمكنه لوحده عمليا إكمال تدمير منظومة إنتاج وإطلاق الصواريخ وضرب الأنفاق، موضحةً أنّ "إيشيل" يدعي بأن أسلوب الهجمات والإستخبارات النوعية التي بحوزته، لديها القدرة على ضرب أهداف متعددة في وقت قصير نسبيا، والأسلحة الموجهة الذكية يمكنها أن تكون ناجعة ليس أقل من عملية برية كبيرة، والتي يمكن أن ينتج عنها خسائر وأخطاء. المطلب الأساسي يوم الجمعة 18 يوليو نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تحليلا لمراسلها في رفح المصرية بيتر بومونت تحت عنوان "إعادة فتح معبر رفح تشكل أولوية حماس الأولى في محادثات وقف إطلاق النار". ويؤكد التحليل ان فتح معبر رفح هو مسألة حياة او موت بالنسبة لحماس، إن معبر رفح من الناحية الشكلية لايمثل شيئا فهو عبارة عن بوابات العبور مع قوسين اسمنتيين بالإضافة إلى مبنى وحيد نصف مهدم وتظهر على جدرانه آثار طلقات الرصاص. ويضيف أن المعبر رغم ذلك يمثل الجائزة الكبرى لحركة حماس وأعلى أولوياتها خلال مفاوضات وقف إطلاق النار مع إسرائيل بعد مرور أيام على بدء المعارك. إعادة فتح المعبر بشكل مستمر تعد أهم مطالب حماس والمطلب الوحيد حسب المحللين المختصين الذي ترفض حماس التفريط فيه بعكس بقية المطالب التي يمكن التفاوض بشأنها حتى المطلب الخاص بإعادة إطلاق سراح المعتقلين الذين أفرجت عنهم إسرائيل في صفقة إطلاق سراح جلعاد شاليط والذين اعتقلتهم تل أبيب مرة أخرى قبل أيام. ويؤكد بومونت ان المعابر بين إسرائيل وقطاع غزة كانت دوما مغلقة منذ عام 2007 عندما سيطرت حماس على القطاع وهو ما جعل معبر رفح على الحدود المصرية هو المنفذ الوحيد لإدخال الطعام والإمدادات الحيوية للقطاع. ويستمر بومونت في تحليل أهمية المعبر موضحا ان المعبر تم إغلاقه قبل نحو عام بعد هجوم على القوات المصرية اتهمت فيه جماعة مسلحة مقربة من حماس وتم فتحه بعد ذلك لسفر حاملي جوازات السفر المعترف بها وسفر الحجاج فقط وغير ذلك يبقى المعبر مغلقا لمدد مختلفة. ويوضح بومونت أن الأنفاق التي تمتد تحت خط الحدود الفاصل بين رفح المصرية وغزة تعد مصدرا للأموال لحركة حماس كما أن المعبر يقع في قلب لعبة مصالح متعددة الأطراف منها الطرف المصري الذي لا يرغب حاليا في إهداء المعبر لحماس مفضلا فتحه لصالح السلطة الوطنية التي يرأسها محمود عباس "ابومازن". وينقل بومونت عن مخيمر أبو صدر المحلل السياسي في غزة قوله "أن حماس تستطيع ان تتنازل عن أي مطلب آخر لكن ليس مطلب فتح معبر رفح". دوافع حرب جاء في تقرير ل "معهد العربية للدراسات" نشر يوم 15 يوليو: ربما كان الدافع وراء الحرب المشتعلة الآن في غزة وفي إسرائيل، كحلقة في مسلسل الصراع المستمر والمقدس بين الطرفين، هو الحصول على مكاسب الصراع لا الصراع نفسه، ومن هنا حرص أطراف الحرب المشتعلة الآن، على أن تكون محدودة وغير شاملة، وخلت الأهداف المعلنة من شعارات وسجالات الصراع الكبرى...! ففي كلمة إسماعيل هنية نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صباح يوم 15 يوليو أكد "ان المشكلة لا تكمن في التوصل إلى وقف إطلاق النار أو إعادة العمل باتفاقية 2012 الموقعة في القاهرة لوقف إطلاق النار بل المشكلة في الأوضاع التي يعيشها قطاع غزة من إغلاق للمعابر وعدم تقاضي موظفي حركة حماس رواتبهم منذ ثلاثة أشهر بالإضافة إلى اعتقال النواب في القدس وتنكر الإسرائيليين للاتفاقيات الموقعة سابقا معهم ومنها اتفاقية تبادل الأسرى واتفاقية 2012 للتهدئة". أهداف حماس تتنوع بين معالجة الوضع المأزوم في غزة، وتوسيع تمددها في الضفة الغربية الساحة التقليدية لحركة فتح، والضغط من أجل فتح المعابر ورفع الحصار، أما الأهداف الإسرائيلية فتتحدد في محاولة استنزاف قدرات حماس الصاروخية، وتخريب اتفاق المصالحة بينها وبين فتح، والتأثير على مسار المفاوضات. ولكن يبدو أن أيا من الطرفين لم ولن يحقق نتائجه بشك كامل، في ظل ضراوته والخسائر المتبادلة فيه، فبينما تبدو الخسائر الفلسطينية كبيرة نتيجة التصعيد الإسرائيلي، ولكن تبدو الضربات الفلسطينية موجعة لإسرائيل كذلك فقد نجحت الصواريخ الفلسطينية، التي تطلقها كتائب القسام وسرايا القدس، وبعضها محلي الصنع، في اختراق القبة الحديدية والحدود الإسرائيلية، وأجبرت سكان تل أبيب وغيرها من المدن الإسرائيلية على اللجوء للمخابئ، وأجبرت الحكومة الإسرائيلية على إبداء استعداد مبكر للمصالحة بعد طرح المبادرة المصرية مساء يوم الاثنين 14 يوليو، والتي نصت في مبدئها الأول على وقف إسرائيل جميع عملياتها ضد قطاع غزة برا وبحرا وجوا، وكذلك وقف الرد من الجانب الآخر بشكل كامل، كما تضمنت فتح المعابر مع استقرار الوضع الأمني وترتيب الأوضاع المتعلقة بمسألة الأمن، كما أن الفصائل الفلسطينية التي أثبتت تطور أسلحتها ونوعيتها، تتسع شعبيا من غزة لتشمل الضفة الغربية أيضا وللكثيرين من عرب إسرائيل أيضا، وهو ما يفسر هذا الاستعداد المبكر الذي أبدته إسرائيل للقبول بالمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار. تأتي الحرب على غزة بعد شهور قليلة من توقيع اتفاق المصالحة بين السلطة الفلسطينية في رام الله وبين حركة حماس في 23 أبريل 2013، والمعروف باتفاق الشاطئ، والذي لم يغير الكثير في الواقع، نظرا للخلافات التي تجددت بين حماس وبين الحكومة الانتقالية حيث رفضت الأخيرة، مع أزمتها، دفع رواتب 15 ألف موظف يتبعون للحكومة المقالة، وهو ما يجعل البعض يرى أن اتفاق المصالحة ولد ميتا. وقد يصح القول أن هذه الحرب الأخيرة تستهدف رفع الحصار عن قطاع غزة من قبل حماس وتأكيد شروط حماس في اتفاق الشاطئ والمصالحة الفلسطينية. ويبدو أن تصحيح هذا الوضع جزء من أهداف حماس الخاصة من هذه الحرب المشتعلة الآن كما جاء في كلمة إسماعيل هنية المشار لها سابقا، عبر ضخ المعونات واستعادة التعاطف العربي معها، وحل المشكلات العالقة بخصوص المعابر أو المساعدات والرواتب وغيرها. أسباب الحرب قديمة ربما تعود إرهاصات هذه الحرب لشهور قبلها، وليس فقط عند حادث اختطاف المستوطنين الثلاث في 12 يونيو 2014، والذي يظن قيام هواة فلسطينيين به، وليسوا منتمين لتنظيمات فلسطينية، فقد سبق أن تجدد الصراع والقصف بين إسرائيل والفصائل في 12 مارس سنة 2014 حين أطلقت سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الفلسطيني صواريخ باتجاه الجانب الإسرائيلي، وأكد حينها الناطق باسم سرايا القدس الذراع المسلح لحركة الجهاد الإسلامي أن عملية كسر الصمت تأتي في سياق الرد على العدوان الاسرائيلي المتواصل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن الهجمات التي شنتها سرايا القدس في هذا التاريخ جاءت بعد سلسلة طويلة من الخروقات الإسرائيلية للتهدئة التي أبرمت في نوفمبر عام 2012 مشددا على التزام سرايا القدس بالتهدئة بمقدار التزام الجانب الإسرائيلي بها، وظل الأمر محتقنا رغم هذه التهدئة خاصة مع عدم تحقق تخفيف الحصار على غزة، مع التغيرات التي حدثت في مصر بعد إسقاط حكم الإخوان، ورفضت إسرائيل توسيع منطقة الصيد في البحر المتوسط إلى أكثر من ثلاثة أميال، كما رفضت أيضا تسهيل دخول البضائع التجارية إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم. وهو ما تجدد مع خطف المستوطنين ثم مع القتل البشع للطفل محمد أبو خضير، والإجراءات العنيفة التي اتخذتها إسرائيل ضد الفصائل الفلسطينية، رغم عدم تبني أي تنظيم فلسطيني لهذه العملية، اتهمت إسرائيل حماس بالمسئولية عنها، بعد وحدثت اعتقالات لأكثر من 700 عنصرٍ وكادر وقيادي في حماس وغيرها. لذا كانت شرارة هذه الحرب التي انطلقت الأربعاء 9 يوليو ومشهدها المتمثل بإطلاق الصواريخ وصفارات الإنذار وعمليات القصف الجوي، ويستخدم أطرافه بشكل واضح مبدأ "العين بالعين" مع ميل واضح لعدم تصعيده لرتبة الحرب الشاملة، ويبدو اختصاره في تصويره كنزاع بين إسرائيل وقطاع غزة، أو حماس تحديدا رغم الجهد الكبير والواضح لحركة الجهاد الإسلامي أيضا. احتوت عملية خطف المستوطنين الثلاث على تفاصيل غريبة، فرغم محاولات حماس منذ مدة طويلة تعزيز حضورها في الضفة الغربية، إلا أن منفذي عملية الإختطاف بدوا من الهواة. فقد أخطأوا في إحصاء عدد الرهائن على ما يبدو ولم يجردوا الرهائن من هواتفهم ثم توتروا عندما اتصل أحد الرهائن بالشرطة. بعد ذلك، ثم سارع المختطفون إلى قتل ودفن الرهائن في حقل قريب من مستوطنة محاطة بإجراءات أمنية مشددة، واللافت، هنا، حقيقة أن حماس نأت بنفسها عن عملية الإختطاف، بينما أعلنت تنظيمات سلفية عدة مسؤوليتها عن هذه العملية. غالبية المنظمات السلفية التي تبنت العملية مصنفة لدى بعض أجهزة المخابرات الأوروبية كتنظيمات من صنع الأجهزة الإسرائيلية بالتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية بهدف تشكيل طابور خامس داخل فلسطينالمحتلة يسهل عملية ضرب وتشويه المقاومة الوطنية الفلسطينية. عمر نجيب [email protected]