كتب ذات يوم الدكتور يوسف إدريس الطبيب الروائي، مقالا ً سياسيًا لافتًا للانتباه، نشر له في جريدة (الأهرام) بعنوان (فكر الفقر وفقر الفكر)، كان أحد أهم المقالات المثيرة والمتميزة التي نشرتها الصحافة المصرية في الثمانينيات من القرن الماضي، إذ تألق كاتبه في إبداع وصف معبر بدقة متناهية، عن طبيعة المرحلة الصعبة التي كانت ولا تزال تجتازها مصر كما تجتازها غالبية الدول العربية. وقد ذكرني بهذه العبارة التي هي من إبداعات الدكتور يوسف إدريس، الزميل الصحافي الصديق حازم عبده في مقال له بعنوان (الفقر مفتاح الإرهاب)، نشره ضمن عموده الأسبوعي (بعض القول) في جريدة (اللواء الإسلامي) التي تصدر عن مؤسسة (أخبار اليوم) في القاهرة، جاء فيه ما يلي : (( أولى خطوات الإرهاب التكفيري وأولى خطوات التكفير، الفقرُ الذي طحن الناس، فماذا ننتظر من شاب من سكان القبور الذين يقاربون الثلاثة ملايين نسمة في القاهرة وحدها، وهو ينظر إلى ساكن القصور وراكبي السيارات الفارهة، وحتى لو حصل هو على شهادة جامعية، لا يجد فرصة عمل، وإن حاول ابتكار مشروعه لا يجد من يموله أو يقرضه مهما كانت فكرته ورغبته في العمل، بينما اللصوص يحصلون على المليارات بدون أية ضمانات. هل أمامه طريق آخر غير الكفر بالمجتمع وتكفيره؟)). ثم خلص الكاتب الصحافي نائب رئيس تحرير (اللواء الإسلامي) إلى القول : (( إننا بحاجة إلى التخلص مما اسماه الراحل الدكتور يوسف إدريس فقر الفكر وفكر الفقر اللذين أعييا الطبيب المداوي. نحن بحاجة لأن نتراحم ونرحم، فكيف تسمح الحكومة المصرية لكل المنظمات التبشيرية بالعمل في قرى ونجوع مصر وتعرقل مبادرة (بنك الفقراء) التي حصلت على جائزة نوبل للسلام ونجحت نجاحًا مذهلا ً في دول عربية مثل الأردن)). ومبادرة (بنك الفقراء) التي أشار إليها الكاتب، أطلق فكرتها الأمير طلال بن عبد العزيز رئيس برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأممالمتحدة الإنمائية (أجفند). وقد رحبت الحكومة المصرية في ذلك الوقت بالمبادرة، وبدأت الخطوات العملية في سنة 1997، وتم إنشاء مجلس أمناء البنك برئاسة الأمير طلال والدكتور عبد العزيز حجازي رئيس الوزراء المصري الأسبق نائبًا له، وعضوية عدد من الشخصيات العامة، وتم الاستعانة بالخبير البنغالي أمامس سلطان نائب الدكتور محمد يونس مؤسس بنك الفقراء (جرامين) في بنغلاديش والحاصل على جائزة نوبل. ولكن المبادرة أجهضت بسبب من البيروقراطية ومحدودية الرؤية إلى المستقبل، كما أجهضت مبادرات أخرى كانت ترمي إلى محاربة الفقر وإنقاذ الملايين من البشر من البؤس الغارقين فيه. ودل هذا الموقف على شيوع فكر الفقر، أي الفكر الذي يغذي الفقر، ويقوي شوكته. صفاء الرؤية إلى المستقبل وشمولها هما بداية الطريق نحو التحرر من فقر الفكر من أجل التخلص من فكر الفقر. ذلك أن الفكر المنحرف، المعتل، المختل، القاصر، العاجز، الفكر الفقير هو الذي يفشل في معالجة المشكلات الإنمائية القائمة التي هي من معوقات التنمية الشاملة المستدامة، وهي التنمية التي تستفيد منها الأجيال الحاضرة والأجيال القادمة بالتساوي. لأن الفكر العشوائي (وهو من أكثر العشوائيات خطورة على المجتمعات النامية) من الآفات المتفشية التي إذا استفحل شرها وتفاقم خطرها، أدت إلى نتاج عكسية، ولا داعي لأن أقول إلى البوار والخراب وسوء الأحوال. فالفقر يأتي في غالب الأحيان، من هيمنة هذا الفكر على الحياة العامة، ومن امتداد هيمنته تلك إلى صانعي القرار الذين يقعون تحت تأثيره، فتكون الكوارث الاجتماعية التي تتسبَّب في انتشار الفقر على نطاق واسع. ويسود فكر الفقر في المجتمعات المنغلقة، وفي ظل الأنظمة الاستبدادية التي تبتعد عن الديمقراطية وتتجافى عن مبادئ حقوق الإنسان. وفكر الفقر هو الذي نتيجة طبيعية لفقر الفكر، أي أن الفقر مصدره غيابُ الفكر الموضوعي الواقعي العلمي الذي يتعايش مع الواقع على الأرض، لا مع الأوهام والأحلام. وكلما اقترب الفكر من الواقع وتعامل مع المشاكل والأزمات والظواهر السلبية بقدر كبير من الموضوعية، كان أقرب إلى إيجاد الحلول والبدائل والمخارج من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبذلك تضيق مساحة الفقر، ويحاصر في أضيق الحدود قبل أن يقضى عليه ويطهر المجتمع منه. فهذه إذن، علاقة تبادلية بين الفكر وبين الفقر. وقد أكدت التجارب أن الفقر ينمو في المجتمعات التي يتراجع فيها الفكر عن القيام بدوره في البحث عن الحلول للمشاكل، وإيجاد السبل العملية لتطوير وسائل النموّ، وتيسير الأسباب للتغيير الذي يخرج المجتمع من ضيق الفقر ومذلة البؤس، إلى سعة الرخاء ونعمة الازدهار. من خلال هذه الرؤية الثقافية المستقبلية، أنظر إلى المشروع الحضاري المتميز والكبير الذي أطلقه جلالة الملك محمد السادس، في سنة 2005، والذي يحمل عنوان (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية)، التي هي مبادرة رائدة غير مسبوقة على الصعيدين العربي والأفريقي، ترمي إلى القضاء على مظاهر الفقر، واقتلاع جذوره، ومحو آثاره، وإرساء الأسس الثابتة لمجتمع الكفاية والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص التي تحترم فيه الكرامة الإنسانية. وإذا كنا في المغرب لا نستعمل لفظ (الفقر) ونستبدل به مفردات مثل : (الهشاشة)، و(الحاجة)، و(الإقصاء)، و(التهميش). فإن هذا مجرد تحايل بالألفاظ على واقع الأمر؛ لأن الحقيقة الصارخة التي لا سبيل إلى نكرانها، تثبت أن نسبة عالية من المواطنين المغاربة تعيش عند حافة الفقر، وأن نسبة أخرى من المغاربة تعيش تحت خط الفقر. (هل لدى الجهة الرسمية المسؤولة عن هذه المبادرة إحصائيات مدققة حول نسب الفقر في بلادنا؟). لقد كان الهدف الاستراتيجي للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية هو محاربة الفقر بكل أشكاله، وحصره في أضيق الحدود، والسعي الحثيث لاجتثاث شأفته، لأن الفقر مصدر كل المصائب، بل هو البؤرة التي تفرز المشاكل الاجتماعية التي تتفاقم وتتفاحش لتفجر المشاكل السياسية الناتجة عن اضطراب حبل الأمن الاجتماعي، والأمن الاقتصادي، وهما الأساس للأمن الجنائي وللأمن السياسي، كما لا أحتاج أن أقول. والتنمية البشرية في مفهومها العلمي المستقر، تقوم على أساس محاربة الفقر والبؤس والحرمان، أو لنقل بالتعبير السائد عندنا، محاربة الهشاشة والحاجة والإقصاء والتهميش، وبذلك تكون التنمية البشرية عنصرًا رئيسًا للتنمية السياسية التي تقوم على قواعد الديمقراطية وسيادة القانون والشفافية والربط بين المسؤولية والمساءلة. فلا تنمية بشرية في غياب التنمية السياسية، ولا تنمية سياسية في معزل عن الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وكفالة الحريات العامة في نطاق القانون. فمحاربة الفقر بالفكر العلمي الموضوعي القائم على الحسابات الإحصائية والتحليل الدقيق للمعلومات والتأكد الوثيق من صحتها ودقتها، تكون لها نتائج إيجابية في جميع الأحوال. بينما محاربة الفقر بالفكر الاعتباطي العشوائي السابح في الأوهام والواقع تحت تأثير الإيديولوجيات التي ثبت تهافتُها وتأكد فشلها وبان بطلانها، تكون نتائجها بالغة الخطورة بحيث تنعكس سلبًا على خطط العمل الوطني في هذا المجال الحيويّ. وإذا كانت المبادرة الوطنية للتنمية الشاملة مشروعًا وطنيًا يرعاه جلالة الملك، ويرقى به إلى مستوى المشروعات الحضارية الكبرى، استنادًا إلى المعايير الدولية المستقرة، فإن هذه المبادرة جاءت للنهوض بالفئات العريضة من الشعب المغربي، بانتشالهم من أوحال الفقر الذي يطحن الناس، والانتقال بهم إلى أحوال من العيش الكريم الذي هو حق لكل مواطن. وبذلك يكون من الأهداف الرئيسَة لهذه المبادرة محاربة الفقر من منطلق التخلص من فقر الفكر والتحرر من فكر الفقر. وتلك هي الجوانب المضيئة في هذا المشروع الوطني الرائد غير المسبوق. ولكن المبادرة الوطنية للتنمية الشاملة إذا كانت تجربة وطنية بالغة التميّز عظيمة النفع أثبتت جدواها ونجاعتها وفعاليتها، فإنها تحتاج إلى تحصين وإلى تأمين بالمراقبة، وبالمتابعة، وبالرصد، وبالمحاسبة، حتى تظل في المستوى العالي من الجدية والمسؤولية، ومن أجل ضمان استمرارها وامتداد آثارها. وهو الأمر الذي يتوقف على نجاعة، أو بالأحرى صرامة السياسة المتبعة في هذا الصدد، والتي لابد أن تكون سياسة وطنية بالمعنى العميق والشامل للوطنية، لا بالمعنى السائد الفارغ من القيم المثلى والمقومات القوية والثوابت الراسخة، بحيث ترتقي هذه السياسة إلى مستوى الرعاية الملكية السامية لهذا المشروع الحضاري المغربي الذي لا نظير له. المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مشروع وطني ينبغي أن يحصَّن ويصان ويؤمَّن ويستمر ويتوسَّع؛ لأنه أداة للتنمية الشاملة المستدامة، ورافعة للتقدم والنهوض في بلادنا. من أجل ذلك يتوجب أن تخضع المشاريع التي تنفذ في إطار هذه المبادرة الكبرى، للمتابعة، وللمراقبة وللمساءلة، وإن اقتضى الأمر تخضع للمحاسبة أيضًا. وبعبارة أخرى، يجب أن يهيمن الفكر الوطني الصحيح على مجمل العمليات التي تدخل ضمن هذا المجال، حتى نقطع السبيل على فكر الفقر، وننأى بهذا المشروع العظيم عن فقر الفكر، ونقربه إلى غنى الفكر وصفاء الرؤية المستقبلية. لقد عانينا كثيرًا، كما عانى العرب عمومًا، من تفشي فكر الفقر في بلداننا، ومن هيمنة إيديولوجيات البؤس التي خدعت الشعوب، وخدرت العقول، وباعت الناس الوهم، وأفسدت الحياة السياسية، فضاعت فرص النمو، وتراكمت المشاكل، وتفاقمت التجارب الفاشلة، ففشا الفقر فشوًا رهيبًا مرعبًا، وعمّ البؤس أطرافًا من الوطن وفئات من المواطنين، على امتداد الخريطة العربية والأفريقية. ولذلك كله، كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تجربة وطنية مغربية جديرة أن يؤخذ بها في دول شقيقة أخرى. بقي أن أشير إلى أن الفقر هو المصدر الرئيس للإرهاب بكل أشكاله.