موقع رئيس الحكومة، يعد من أهم مكتسبات دستور 2011 من حيث طريقة تعيينه والمسؤوليات الملقاة على عاتقه. من حيث التعيين، شكل دستور الربيع العربي والمغربي ثورة حقيقية مقارنة مع الدساتير السالفة، بحيث نجده يقر في الفصل 47 «يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها» في حين أن دستور 1996 في الفصل 24 يقول حرفيا «يعين الملك الوزير الأول» دون أية إشارة إضافية كمراعاة نتائج الانتخابات مثلا. في هذا الإطار، عَيِّن الملك الراحل الحسن الثاني، عبدالرحمان اليوسفي، في منصب الوزير الأول في فبراير 1998 بعد أن حصل حزبه، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، على المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية لنونبر 1997 وتمت تزكيته في نفس المنصب من طرف الملك محمد السادس إثر تربعه على العرش بعد وفاة والده في شهر شتنبر 2000. لكن المفاجأة كانت إثر إعلان نتائج انتخابات شتنبر 2002، التي استطاع من خلالها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الحفاظ على موقعه الانتخابي السابق مما كان يؤشر على إعادة منح فرصة أخرى لقائد الحزب، عبدالرحمان اليوسفي، لقيادة الحكومة لولاية ثانية. المفاجئة، إذا، كانت حين تم الإعلان عن ادريس جطو وزيرا أولا وتشكيل أغلبية مساندة له دعمها الحزب الأول أنذاك، حزب الاتحاد الاشتراكي، مما حدا بزعيم الحزب، عبدالرحمان اليوسفي، اتخاذ قرار الانسحاب من الحزب ومن السياسة. فأصبحت سنة 2002 في القاموس السياسي المغربي تنعت بسنة الخروج عن المنهجية الديمقراطية. وأصبح مطلب تعيين الوزير الأول من الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات مطلبا ملحا. رياح الربيع العربي والمغربي جلبتا تعديلات مهمة عرفها دستور 2011 وخاصة فيما يخص تعيين رئيس الحكومة كما سبق ذكره سابقا. وكان أول تطبيق عملي لهذا الفصل حين عين الملك محمد السادس، عبدالإله بنكيران، في منصب رئيس الحكومة بعد انتصار حزبه، العدالة والتنمية، في الانتخابات السابقة لأوانها لنونبر 2011. إن هذا الفصل واضح لكن يطرح إشكاليات حقيقية لابد من الإشارة إليها: أولا، لا يقر هذا الفصل صراحة أن رئيس الحكومة هو الكاتب أو الأمين العام للحزب. لذا تساءل المواطنون، بعد الإعلان عن نتائج انتخابات 2011، عن من سيكلفه الملك بتشكيل الحكومة من داخل قيادة حزب العدالة والتنمية، كان البعض يقر باختيار عبدالإله بنكيران، الرجل الأول والبعض الآخر سعدالدين العثماني، الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية. جرت العادة في الدول الديمقراطية أن المسئول الأول في الحزب يتقلد مباشرة مسؤولية التدبير الحكومي... وهذا ما كان أيضا في المغرب، حيث تم تعيين قائد الحزب، عبدالإله بنكيران، في منصب رئيس الحكومة. ومن ثم أصبح هذا المعطى رئيسيا خلال انتخاب قيادات الأحزاب المغربية... ثانيا، الدستور لا يتحدث عن فرضية فشل رئيس الحكومة في لم أغلبية حكومية، ومن ثم هل يجب تعيين شخصية أخرى من نفس الحزب، أو شخصية من الحزب الثاني، أو من الأغلبية البرلمانية المعلن عنها، أو تعاد الانتخابات... هذا ما كان موضوع نقاشات واسعة حين إعلان حزب الاستقلال انسحابه من الحكومة وظهور بوادر أزمة حكومية وصعوبة لم أغلبية جديدة... أظن أن الفصل 47 من دستور 2011 يوجد ضمن الفصول التي تتطلب «إغناءات» كما جاء في تصريح سابق لرئيس حزب الأصالة والمعاصرة، مصطفى البكوري. لسبب بسيط هو كون النمط الانتخابي الحالي بالمغرب لا يُمَّكن من فرز أغلبية واضحة بل نجد المقاعد موزعة على أكثر من ثمانية أحزاب. هذا حال كل الانتخابات السابقة وأيضا تلك المتعلقة بآخر انتخاب لنوننبر 2011 حيث حصل حزب العدالة والتنمية على 107 مقعدا، حزب الاستقلال (60 مقعدا)، حزب الأحرار (52)، حزب الأصالة والمعاصرة (47)، حزب الاتحاد الاشتراكي (39)، الحركة الشعبية (32)، الاتحاد الدستوري (23) والتقدم والاشتراكية (18). أي بمعدل عام يزيد أو ينقص عن 50 مقعدا. نتيجة العدالة والتنمية بحصوله على 107 مقعدا كان استثناء لم تعرفه أية انتخابات سابقة بحيث نجد أن الحزب الأول خلال انتخابات 1997 حاز على 57 مقعدا (الاتحاد الاشتراكي)، والأول خلال انتخابات 2002، حاز على 50 مقعدا (الاتحاد الاشتراكي) والأول في انتخابات 2007 حصل على 52 مقعدا (حزب الاستقلال). حتى التحالفات القبلية المعلنة لم تستطع الظفر بأغلبية برلمانية واضحة، هكذا وللتذكير فإن انتخاب 395 عضو بالبرلمان الحالي كان على الشكل التالي: أحرز (ج 8) أو التحالف من أجل الديمقراطية (الأحرار، الأصالة والمعاصرة، الحركة الشعبية، الاتحاد الدستوري وأربعة أحزاب صغيرة) على ما مجموعه 159 مقعدا، أما الكتلة الديمقراطية آنذاك (حزب الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية) على 117 مقعدا وحزب العدالة والتنمية لوحده على 107 مقعدا. في حين أن الأغلبية البرلمانية تتطلب التوفر على أكثر من 180 مقعدا. منطوق الدستور منح منصب رئيس الحكومة للحزب الأول، حزب العدالة والتنمية، الذي كان عليه البحث عن أغلبية برلمانية وكلنا نعرف كيف تتشكل الأغلبيات في بلدنا. إذن هناك مشكل نمط الانتخاب، تشتت المقاعد على أكثر من 8 أحزاب، عدم وضوح التحالفات القبلية وفق البرامج والهويات، ضرورة البحث عن حلفاء... اليوم، هناك معادلة معقدة في المشهد السياسي المغربي، من جهة محاولات لزحزحة الموقع الانتخابي لحزب العدالة والتنمية في نفس الوقت الذي تؤكد بعض المعطيات إمكانية احتلال هذا الحزب الإسلامي للصف الأول في الانتخابات المقبلة ولو بمقاعد أقل من تلك التي حاز عليها في 2011. لنقدم المعطيات التي تذهب في اتجاه محافظة حزب العدالة والتنمية على صدارة انتخابات 2016. أولا، هناك ظاهرة عامة هي منح الناخبين فرصة ثانية لحزب يمارس مهامه التدبيرية لأول مرة، إن لم تكن هناك قضايا خلافية جوهرية حول تدبيره للشأن العام. هذا ما حدث مع حزب الاتحاد الاشتراكي الذي بوأته صناديق الاقتراع المرتبة الأولى سنة 1997 وقاد حكومة التناوب الأولى 1997 – 2002، وأعاد الناخبون التصويت عليه سنة 2002. ثانيا، كانت نتائج الانتخابات الجزئية منذ تعيين حكومة بنكيران إلى يومنا هذا في صالح التحالف الحكومي وخاصة حزب العدالة والتنمية، هكذا حازت الأغلبية الحكومية على 9 مقاعد من ضمن 13 والمعارضة 4 مقاعد وكان نصيب حزب العدالة والتنمية لوحده 5. ثالثا، لم تتمكن أحزاب المعارضة من تقوية مواقعها والظهور كقوى قادرة على التنافس مع الحزب الإسلامي. حزب الاستقلال (المحتل للمرتبة الثانية خلال انتخابات 2011) يعيش صراعات داخلية صعبة ولم يستغل فرصة خروجه من الأغلبية لتحسين صورته، حزب الأحرار قرر الالتحاق بالأغلبية الحكومية وتعويض حزب الاستقلال وهو ما فوت عليه فرصة التموقع كبديل للحزب الإسلامي، حزب الأصالة والمعاصرة ما زال في طور تنظيم صفوفه وتلميع صورته بعد المخاض الذي عاشه إثر اندلاع حركة 20 فبراير، حزب الاتحاد الاشتراكي في أزمة خانقة. وأخيرا يصعب إقناع قطاع واسع من الناخبين أن «العفاريت والتماسيح» لا تشتغل ضد هذه الحكومة... يظهر أنه لا بديل آني عن حزب العدالة والتنمية وعن رئيس الحكومة عبدالإله بنكيران. إذا، ما العمل؟ تبقى عدة حلول مطروحة بدءا من تعديل الدستور في اتجاه إعادة صياغة الفصل 47 في اتجاه تعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي أو الائتلاف الانتخابي الحائز على المرتبة الأولى، وهو ما يطرح استفتاء دستوريا والإعلان عن ائتلاف انتخابي وتعيين الشخصية المؤهلة للتنافس على مقعد رئيس الحكومة. يبقى سؤال آخر مطروحا، من يكون قائد هذا الائتلاف؟ الشخص القادر على منافسة عبدالإله بنكيران؟ زعيم حزب الاستقلال، حميد شباط، يعيش صراعا داخليا قويا مع تيار عبدالواحد الفاسي ويجد صعوبة في تلميع صورته لدى الرأي العام ناهيك عن مشاكله الانتخابية في عقر داره مدينة فاس والمنافسة الصامتة له من طرف كوادر شباب داخل الحزب كما هو الشأن بالنسبة لكريم غلاب. رئيس الأحرار، مزوار، وبعد أن كان يمني النفس بقيادة حكومة ما بعد الربيع المغربي قرر مبكرا التموقع في صف المعارضة، لكن عاد من بعد سنة لينقلب 180 درجة ويتراجع عن قراره ويعوض حزب الاستقلال المنسحب من حكومة بنكيران، دون إغفال ضجة تبادل البريمات. يبقى وجه واحد يشق طريقه بهدوء داخل المشهد السياسي وهو مصطفى البكوري الذي يتوفر على حظوظ كبيرة لقيادة ائتلاف انتخابي ومنافسة بنكيران على مقعد رئيس الحكومة. رجل يجر معه "خطيئة النشأة" لحزب الأصالة والمعاصرة لكن صورته لدى الرأي العام هي لرجل خبير في الاقتصاد والمال يُسَيِّر تحت الإشراف المباشر للملك، أحد القطاعات الاستراتجية للبلاد (الطاقة الشمسية)، لَبِق في معاملاته مع الأصدقاء والخصوم ولا تحوم حوله شوائب رغم ما يقال حول ظروف "إعفاءه" من صندوق الإيداع والتدبير ... ما دمنا نتحدث في السياسة والسياسة فن الممكن، يمكن في أية لحظة أن يظهر وجه جديد، ورقة "الجوكير" الرابحة، شخص (رجل أو امرأة) يظهر فجأة ليقود أحزاب وائتلافات انتخابية لمزاحمة بنكيران وحزبه... إن القارئ ما خلف السطور لبعض الصحف الوطنية يمكن أن يجد إشارات في هذا الاتجاه، أكتفي بالمقال الصادر عن إحدى أقدم الأسبوعيات المغربية التي ترجح امرأة لمنصب رئيس الحكومة! أسمعكم تتحدثون عن خيارات أخرى مثل دخول السلفيين إلى معترك الانتخابات وخلق مصاعب للعدالة والتنمية على غرار حزب النور بمصر... مقدمين كأدلة التحاق معتقل سلفي سابق وهو محمد عبدالوهاب رفيقي "أبو حفص" بأحد الأحزاب وإمامة معتقل سلفي آخر، هو محمد الفزازي، في مدينته طنجة، صلاة الجمعة في حضرة الملك محمد السادس. كما أن البعض الآخر منكم قد يقر أن أحد السيناريوهات المحتملة والقوية هو استمرار نفس الأغلبية الحالية بنفس رئيس الحكومة لولاية ثانية. هذا السيناريو مرتبط أساسا بما دار من نقاش داخل مراكز القرار قبل انتخابات 25 نونبر 2011 بتمكين الناخبين من الإدلاء بأصواتهم بكل حرية ومنح الفرصة للتيار الإسلامي المعتدل للعب دور أساسي في مرحلة ما بعد الربيع العربي والمغربي. هل كان القرار استراتيجيا في اتجاه تمكين فصيل إسلامي معتدل من المشاركة من داخل السلطة في تدبير شؤون الدولة وتحييده حتى لا يتحالف كل الطيف الإسلامي (العدالة والتنمية، العدل والإحسان، التيار السلفي) ويصبح قوة معارضة يمكن أن تخلق متاعب عديدة... أم كان قرارا ظرفيا يجيب على إشكاليات طرحت لتوها مع اندلاع المسيرات المطالبة بالتغيير ومحاربة الفساد والاستبداد... وهل التطورات اللاحقة تذهب في اتجاه فرضية منح ولاية ثانية للإسلاميين ما داموا قد استطاعوا "وقف" غضب الشارع وامتصاص الاحتجاجات و"التأقلم" مع الأوضاع ودعم الاستقرار الأمني والاجتماعي... إنها أسئلة كثيرة تطرح هنا وهناك... والأكيد أنها ستبقى مفتوحة إلى حين الإدلاء بأصواتكم وظهور نتائج الانتخابات المقبلة... عبدالحق الريكي الرباط، 17 مايو 2014