الحكاية لم تبدأ بإعلان الوزير الأول الجزائري ، عبد المالك سلال بالنيابة، عن ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة، أو حتى بإعلان "الموالين" دعمهم لبقاء الرئيس في الحكم منذ أن طار إلى باريس للعلاج، يوم 27 أفريل 2013، ولكنها تعود إلى عام 2008، لما حاز بوتفليقة على صك "تسريح العهدات الرئاسية". وليس فتحها فحسب، حينها لم تكن "الثالثة" هدف المترشح "الحر" بقدر ما كان المبتغى، تحييد قصر المرادية عن أي "جسم غريب" حتى وإن أجل المنافسون الحالمون بالرئاسة، حلمهم خمس سنوات أخرى، حيث كان الاعتقاد سائدا باستحالة "الرابعة". المنعرج، حدث بالضبط يوم 12 نوفمبر 2008، حينما جمع عبد العزيز زياري، وهو رئيس المجلس الشعبي الوطني آنذاك، نواب البرلمان وفي جدول الأعمال نقطة واحدة ووحيدة، هي تعديل الدستور، والنقطة الواحدة والوحيدة التي جيء بالنواب من أجلها في التعديل، هي: فك الحصار على الرئيس بوتفليقة". وبلغة قانونية "فتح العهدات الرئاسية" بينما سيق مبرر عام، يفيد بأن "تقييد فترة الحكم بدعة مستوردة من الخارج" أو هكذا قال زياري في ذلك الوقت، بينما كانت حسابات النواب قد ازدانت بزيادة في الرواتب، قبل اجتماعهم بأيام قليلة، وقالت المعارضة بما فيها تلك التي صادق نوابها على التعديل.. إنها رشوة. في الواقع لم يكن بوتفليقة بحاجة إلى رفع أجور النواب من أجل تعبيد الطريق إلى عهدة ثالثة، بينما كان مدعوما من تحالف رئاسي، حول المشهد السياسي إلى مشهد "أحادي" في شكل تعددي، لأن مبتغى الرئيس العليل من تعديل الدستور حينها، لم يكن الثالثة، وإنما البقاء في الحكم ما استطاع. ولا يمكن للأحزاب التي صوتت لصالح التعديل الدستوري حينها، واصطفت اليوم، قسريا إلى جانب المعارضة، ثم المقاطعة الانتخابية، أن تبرر موقفها قبل ست سنوات، بمجرد الخطأ في التقدير، ثم يأتي قادتها اليوم، ليستغربوا كيف لرئيس مريض أن يترشح لعهدة رابعة ويتحدثون عن صفقة مشؤومة؟ صحيح أن السياسة "ليست إما أبيض أو إما أسود" لكن التأرجح بين اللونين، في ظل وضع موبوء بالفوضى السياسية، خيار متقلب مجهول العواقب، لكنه ليس كخيار الرئيس بوتفليقة الذي حسم مصيره السياسي، قبل ست سنوات، بشفافية ووضوح، مبتغيا إقفال"العشرينية الرئاسية" شاء الخصوم أم أبوا. وبوتفليقة هو أكثر الرؤساء مكوثا في الحكم، وقد تجاوزت فترة حكمه، الفترة التي قضاها الرئيس الراحل هواري بومدين في سدة الحكم، فالرئيس المريض مع متهم جاري الشهور يكون قضى 14 سنة وخمسة أشهر، وبضعة أيام، في قصر المرادية، بينما حكم بومدين 13 سنة وستة أشهر وثلاثة أيام. الكثير ممن يقدمون أنفسهم على أنهم "دهاة سياسة" خابوا في فهم ما يجري بمخيلة الرئيس، لكن والظاهر، أن من يفهم بوتفليقة جيدا، شخص واحد، هو سابقه بقصر المرادية، اليامين زروال.. هذا الرجل وبقدر ما استغرب لصمته، من يريدونه أن يتكلم، بقدر ما شكل صمته سمة العارف بمحرك سلطة، رأسها بوتفليقة. لذلك انسحب من المشهد ورفض دعوات ترشيحه في موعدي 2004 و2009 ثم في الموعد القادم، وأرسل إشارات لخصوم بوتفليقة "أن لا تتعبوا أنفسكم"، وكأنه كان يعلم أنه عصي، حتى على أكبر دهاة المراوغة السياسية وحتى "مهندسو المؤامرة" أن يغيروا مسارا، قد ارتسم منذ 99، على عهدة بعقدين من الزمن غير قابلة للتجزيء. حمروش لم يفهم الوضع كما فهمه زروال، أو أنه كان يفهمه كذلك، كما بدا للجميع على مر السنوات الفارطة، لكن ذكاءه يبدو أنه خانه هذه المرة، لما غلب احتمال أن لا يقدم النظام مرشحه، فصاغ البيان الذي يعرفه الجميع. أما الرئيس، فدائما يتبنى "المعادلة الصفرية" التي تؤول نتيجتها إليه بلا شك، فقد حسم أمره وصمت طويلا ولم يتحدث منذ خطابه الشهير بسطيف الذي قال فيه "جيلي طاب جنانو"، وصمت الرئيس بمثابة "حرب استنزاف"، أمام خصوم، بعضهم ظاهر وبعضهم خفي، لقد استنزف قوى معارضة سياسية "ثارت" كلاميا، طول المدة التي قضاها في باريس والمدة التي تلتها، إلى اليوم، وكما أن بوتفليقة لم يترشح إلا حرا، ثلاث مرات والرابعة في الطريق، ضاربا عرض الحائط دعوات الترشح باسم أحزابه، لم يعر اهتماما لأحزاب المقاطعة. وكأنه لم يسمع بها، فرسالة "العمق الشعبي" الذي يؤمن بها الرئيس، هي إداته في استقطاب الأصوات، وأيضا استقطاب "التعاطف الشعبي"، حتى أن حرارة صيف 2013 دفعت البعض للتعليق على وجود بوتفليقة في باريس للعلاج بأنه "يتمارض فقط" من أجل كسب تعاطف الجزائريين.. قناعة بوتفليقة بالامتداد الشعبي، حسب اعتقاده، زائد الحق القانوني في الترشح، عاملان أساسيان أزاحا من أمامه أي حرج في إعلان الرغبة في الرابعة، وبقي للمعارضة فقط، جانب "المنطق" الذي يقول إن رجلا مريضا لا يمكن قيادة أمة، لكن "المنطق"، مجرد قانون طبيعي، "هلامي" غير مقيد في بنود ملزمة، في رئاسات 17 أبريل ولا في دستور، أول عبارة في ديباجته تقول "إن الشعب الجزائري حر ومصمم على البقاء حرا".