الكتابة صيغةٌ للوقوف في وجه النسيان، واستعادةٌ لما يُهدِّد بالاندثار، وتثبيتٌ بالكلمات للمنفلت من الأزمنة والأمكنة، ومسرحةٌ لرؤى تخصُّ الماضي والحاضر، وتستشرف الآتي. وهنالك أجناسٌ أدبية عديدةٌ بوسعها أن تقوم بهذا الدور؛ بل إنها تقوم به، خصوصا الرحلةَ والرواية والقصة والمسرح الشعري. ولعلَّ إحدى الخاصياتِ الأساسيَّةِ التي تَمِيزُ الأدَبَ اشْتِباكُه مع حُقولٍ معرفيَّةٍ وإبداعيَّة عديدة، وتفاعلُه معها، وما يُفرزُه هذا التَّعالق من تحقُّقاتٍ وتجلّياتٍ فنيةٍ غدتْ سمةً تطبع عصرَنا. وما يميِّز الأدبَ أيضا أنه إنْتاجٌ وإعادةُ إنتاجٍ للتَّجارب والوقائعِ وللعالم برُمَّته، الشيءُ الذي يسمح بإعادة قراءةِ الوُجودِ بظواهره الشَّتى. ويكشف تارِيخُ الأدب عن أنَّ المتخيَّلَ الكتابيَّ بصنوفه المتنوِّعة يُيسِّر استكشافَ مناطقَ مجهولةٍ في ماضينا عَبْرَ اسْتِنْطاقه تخييليًّا بتآليف تسائلُهُ. إذ الأكيد أن كلَّ تأليف لا يأتي عبَثا، وإنما يَحْضُر ليطرح أسئلةً أو للتعبير عن انشغال بوضع. لذلك يحقُّ لنا أن نتساءلَ: أيُّ سؤالٍ أو انشغال يُفصح عنه كتاب الدكتور حسن الطريبق: "المسرحيات الشعرية الكاملة"2 محور هذا التقديم؟ الشيءُ الأكيدُ هو أنَّ "المسرحياتِ الشعريَّةَ الكاملة" إبداعٌ أدبيٌّ، بل إبداعٌ شعري داخل التاريخ، ذلك أنَّ موضوعاتِها تاريخيَّة بالأساس، اللهم إلا ما كان من أمر مسرحية "بين الأمواج"؛ التي قد يتهيَّأ أنْ لا علاقة لها بالتاريخ، في حين أنها في خضمِّه، ذلك أن أطروحتَها تدعو، بشكل غير مباشر، إلى التآزر بين زمرة من الصيَّادين في مَركبٍ هو مركبُ الحياةِ بالأساس قصد الإفلاحِ في التخلُّص من القراصنة، والقراصنة كُثر في البر أكثر منه في البحر. و"المسرحيات الشعريَّة الكاملة" داخل التاريخ أيضا لأنها نتاجُ مرحلةٍ زمنيَّة تتأطَّر ضمنها، ما يسمح لنا بالتساؤل: فيم تُفكِّر به هذه المسرحيات؟ بحكم أنه ?بإمكان النص الأدبي أن يصبح حاملا لرسالة فكرية، غالبا ما ينقل مضمونها الفلسفي إلى مستوى التواصل الإيديولوجي.?3. لأنه من العسير تصوُّر الأدب مجرَّدا من أيِّ نزوع فكريٍّ. ولا مراء في أنَّ الانبثاقَةَ الأولى للمسرح الشعري العربيِّ كانت مقترنة باستكشاف التاريخ العربي ومراجعة فصول مهمة منه، ويكفي أن نستحضر مسرحيات أحمد شوقي وحدَه للاستدلال على ذلك( قمبيز، مصرع كيلوبترا، مجنون ليلى...) وأعتقد أن الهاجس نفسَه قد شغل الشاعر والناقد د. حسن الطريبق في أعماله المصنَّفة ضمن المسرح الشعري. إننا نعرف أن د. حسن الطريبق قد أبدع دواوين شعرية عديدة منها تأملات في تيه الوحدة 1972- ما بعد التيه 1974- العقبى والنار (مجموعة شعرية مسجلة على كاسيت)- أكافيف، وتمتمات اللظى، ومن بقايا الألفاف، وأصدر في النقد: ?القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة بين الغنائية والدرامية?، و ? الشعر المسرحي في المغرب: حدوده وآفاقه?، كما اشتهر بمساهماته القوية في المساجلات النقدية التي شهدتها السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، على صفحات جرائدنا الوطنية، لكنه ظلَّ مع ذلك وفيًّا للمسرح الشعري، منافحا عنه عبر إغنائه بنصوص خمسة متميِّزة، هي التي يُيَسِّرها لنا اليوم مجموعة طيَّ دفَّتي كتاب واحد، صادرٍ عن منشورات سليكي إخوان، عنْوَنَه:? المسرحيات الشعرية الكاملة ?، الذي يحوي المسرحياتِ التاليةَ، وَفْقَ صُدورِها زمَنيًّا: وادي المخازن- مأساة المعتمد- بين الأمواج- كسيلة- الساعدان( العرب والبربر)؟ إن د. حسن الطريبق في مسرحياته الخمس لا يعمد بأيِّ شكل من الأشكال إلى اكتشاف تاريخ المغرب، بل يهتمّ بابتكار تاريخ آخر لهذا المغرب، ، لأن ما يحرِّكه هو الذَّودُ عن ثقافة قومية، بإقصاء عناصر التفرقة عنها، والكشف عن المضيء فيها، أي السداة التي تلحم بين مكوناتها، وتؤهِّلُها للاستمرار في الوجود. ضمن هذه الرؤية تنخرطُ المسرحياتُ، التي استهلَّها بمقاربةِ واقعةٍ تاريخيّةٍ دالَّةٍ جدا، هي وادي المخازن، التي تعكس التلاحمَ بين المغاربة جميعا ونجاحَهم في الذِّيادِ عن بلادهم التي استباحها المسيحيون بزعامة البرتغال، الذين كان يقودهم سيبستيان. وضمنَ هذه الرؤية أيضا أعادَ قراءةَ وقائعَ تاريخية شَهِدها تاريخُ المغرب مثل المقاومة البطولية لكسيلة، الذي قُدِّمَ في صورة بطل حقيقيٍّ، لمْ يُنْتَقصْ من دورِه البطولي، بل احْتُفِيَ به، وأُعْطي فُرصةً كاملة للتعبير عن أفكاره ومواقفه من الحضور العربي الإسلامي إلى المغرب الأقصى. وضمن هذه الرؤية كذلك، التفتَ في مسرحية " الساعدان:( العرب والبربر)" إلى الفتنة التي شهدتها مرحلةٌ أساسٌ من تاريخ المغرب، مرحلةُ تأسيسِ الدَّولةِ بعد لُجوءِ الْمولى إدريسَ إلى المغرب، وبعد اغتياله، مع ما صاحبَ كلَّ ذلك من توتُّر قادته أطرافٌ ذاتُ نزوعٍ انفصالي، أتاحَ لها الشاعرُ حسن الطريبق الفرصةَ كاملةً لتُحرِّكَ اللآسنَ مبرزَةً منظورَها للوجودِ العربي الإسلامي في المغرب. أما في مسرحية "مأساة المعتمد"، التي تُقارِب حادثةً تاريخيَّة أسالتِ المدادَ الكثير، واتُّخِذتْ فيها من يوسفَ بنِ تاشفينَ والمغاربَةِ مواقف انتقادية منْ قِبَل المشارقة والمستعربين، فقد عالجَها الشاعر حسن الطريبق وفق المنظور المذكور آنفا، أي بموضوعية جعلتْ المعتمد ومُواليِّيه يعبِّرون عن أفكارهم، مثلما أتاح للطرف المغربي أن يدلو بدلوه في هذا الشأن، وهو بذلكَ يُحقِّق ما يُعرَفُ في النقد الروائيِّ بالبوليفونية، أو تعدُّديِّة الأصوات، حيث يُوزَّع المبدِعُ أفكارَهُ على شخصياته، فينشأ بينها حوارٌ، ويتركُ للقارئ أن ينتهي إلى الاقتناع الذي يَهُمُّه؛ بمعنى أنه يتركُ مسافةً تقيه التعسُّفَ على المتلقي، وإنْ كان ذلكَ طموحا وتطلُّعا، لأن التوجيهَ يكونُ لا محالةَ حاضرا. وأخيرا، يهمني أن ألفت الانتباه إلى خاصيَّة طريفة وردتْ في الحوار بين النسوة الثلاث في مسرحية ?كسيلة? (ص248)، وفيها إشارةٌ صريحة إلى المكانة التي منحها الشاعر السارد للمرأة، من حيث مناقشتُها لقضايا البلاد، واتخاذُها لمواقف وقرارات جريئة أساسها العقل دفاعا عن الأرض والعرض. المرأتان الأولى والثانية تخوضان في نقاش مع كنزة المحافظة والمتخوِّفة، والتي ستنتهي بها الحال إلى التجرد من ترددها والتخلي عن خوفها متبنِّية- بعد اقتناعها بصواب رأي الأخرييْن- لموقف ثوري يرفض استبداد "كسيلة". ولعل الموقع السياسي للدكتور حسن الطريبق، وكذلك اشتغاله بالإبداع والتعليم العالي، يسمح بافتراض تضمُّن هذه الأعمال الشعرية المسرحية مجموعةً رؤيةً للعالم أساسُها الدفاع عن كلِّيَّة المجتمع المغربي، والاحتفاءُ بهويته في تعدُّدها الثقافي والعرقي، كوعي قائم، واستباقٌ إبداعي، كوعي ممكن، منذ أزيد من أربعة عقود من الزمان لاحتواء خطاب اجتماعي وسياسي وثقافي يعتمل في المشهد المغربي، ذي نزوع عرقي وثقافي معيَّن، يدعو لدى بعض المغالين إلى إقصاء المكوِّن العربي الإسلامي. لقد أبى الأدبُ في "المسرحيات الشعرية الكاملة" إلا أن يسائل نظير هذا الخطاب، بالدعوة في وقت جد متقدِّم إلى احتضان ألوان الطيف الثقافي والعرقي المتعايشة في المغرب، على أساس أن العرب والبربر فيه ساعدان، ولن تقوم لبناء متين قائمة دونهما، ودون التعاضد فيما بينهما. هوامش: 1 - نص مداخلة احتضنتها جامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بتطوان بتاريخ 15 أبريل 2010. 2- المسرحيات الشعرية الكاملة، د. حسن الطريبق، منشورات سليكي إخوان، الطبعة الأولى، يناير 2010 3- بيار ماشيري- بم يفكر الأدب؟ تطبيقات في الفلسفة الأدبية- ترجمة د. جوزيف شريم- المنظمة العربية للترجمة- بيروت، يونيو 2009، ص.62.