في مثل هذه اللحظات الوجدانية التي يمتزج فيها الوفاء بالمودة والاحترام بالتقدير، يغتنم الطلبة فرصة الحفل ليقيموا أعمدة من أجل نشر النور الندي على جنبات المقام. في مثل هذه اللحظات الخالية يغتنم الطلبة فيها فرصة السفر في أعماق ذواتهم، بحثا عن حزمات من الأضواء يقيمون بها أعمدة الأنوار بمناسبة الحفل، كل حزمة بألف فتيل، ترى فيها كل واحدة تسابق أختها في نشر النور الندي على جنبات المقام، فيزداد الحفل ضياء فوق ضياء... إنهم يغتنمون فرصة السفر في أعماق الأرواح بحثا عن أجمل الرموز والكلمات التي تكشف عن العلاقة المقدسة التي تربط بينهم وبين من أشعل لهم مصابيح المعرفة في بداية الطريق. في مثل هذه اللحظات التي يحضر فيها التكريم كحالة وجدانية يقف فيها الطلبة أمام أساتذتهم ليقدموا باقات من مشاعرهم النبيلة وأطباقا من أحاسيسهم السامية عربونا على الوفاء واعترافا بالجميل واحتراما لأعمال إنسانية تم تشييدها بصبر وأناة، ونصوص إبداعية تم نسجها للتعبير عن الواقع والذات. في مثل هذه اللحظات الخالدة يحضر الماضي بلحظاته المشرقة ليمتزج بالحاضر فيتعمق الإحساس بالزمنين، وليسمو الإدراك المعرفي والحس الإنساني لتعجز الحروف عن رسم الصور وترجمة المعاني فتكبر وتزداد قامتها علوا لتعانق أسطورة الوفاء في صورتها الخالدة. في هذه المناسبة التي نقف على ضفافها السحرية نستريح قليلا، نأخذ نفسنا قبل أن نأخذ طريقنا من جديد في أفق المعرفة، ونبحث مرغمين عن مخرج وسط متاهات الحياة... نقف لحظة مع هذا الأستاذ والشاعر الفحل والباحث المتميز. فعن أي شيء أتحدث فيك أيها المكرم؟ هل أتحدث عنك كأستاذ جلست بين يديه ونهلت من معارفه في مدرجات كلية الآداب بفاس فاستفدت من تجربته وتوجيهاته. أم أتحدث عنك كشاعر قد ملأ الدنيا بشعره وأتحف المتذوقين بفنه الذي مزج فيه بين القديم والحديث ووظف فيه التراث ورصعه بالبيان. أم أتحدث عنك كباحث شهد قلمه بنبوغه، وحبره بتفوقه، وأقامت أبحاثه ومشاركاته الدليل على رسوخ علمه ورحابة فكره. أو أتحدث عنك كأستاذ صديق وزميل عزيز من شيوخ الجامعة الذين نستفيد من تجربتهم، نتسابق إلى السلام عليك والحديث معك نستمتع بمجالستك ونستفيد من مصاحبتك. فإذا كنت لا أستطيع في لحظة كهذه استحضار كل هذه الأعمال والحديث عن كل هذه السمات والمميزات التي طبعت أستاذنا الدكتور حسن الطريبق فإنني أقتصر على عرض لمحات دالة على جمال فنه وبيان شعره أستقيها من تجربته الشعرية المسرحية. هذا العمل المزدوج المتألف من الشعر بوصفه جنسا أدبيا قائما بذاته، ومن المسرح بوصفه جنسا آخر يقوم بذاته أيضا، لكن هذا الازدواج يتلاءم في تكوين هيكل واحد موسوم بهما في التأليف والتكوين، يتصادف ويتقاطع بحسب الحالات الفنية والأداءات والصور المصاحبة سخرها صاحبها لوصف وتشخيص جوانب من الكفاح الوطني وتاريخ الأمة ورجالها ومبدعيها. فقد كتب الدكتور حسن الطريبق أربع مسرحيات شعرية هي: «مأساة المعتمد» و«وادي المخازن» و«بين الأمواج والقراصنة» و«كسيلة» بالاضافة إلى دراسته الأكاديمية الرائدة عن الشعر المسرحي في المغرب والتي كانت سابقة في موضوعها ومتميزة في مادتها وقد سماها «الشعر المسرحي في المغرب: حدوده وآفاقه» ويمكن أن نضيف إلى مساهماته في هذا الباب المقدمتان اللتان كتبهما لمسرحيته «وادي المخازن» و«بين الأمواج والقراصنة» بما اشتملتا عليه من آراء سديدة وقضايا نظرية دقيقة. من هنا فإن الحديث عن الشعر المسرحي عند حسن الطريبق يمكن أن يُتناول من زاويتين: 1 الزاوية النظرية وتمثلها أبحاثه وكتاباته 2 الزاوية التطبيقية وتمثلها كتابته وممارسته لهذا الفن. بالنسبة للزاوية الأولى يمكن أن نستنبط من أبحاثه ومقالاته مجموعة من الآراء، القيمة والنتائج المحددة التي انتهى إليها بعد رحلات البحث والتقصي وبعد معاشرة طويلة واستنطاق دقيق للنصوص والتجارب ومعاشرة للمبدعين والنقاد، حيث وقف أمام إنتاج المغاربة في هذا الباب فأحصى المحاولات وتصفح الأشكال المختلفة للإبداع فانتهى إلى أن أي محاولة لإعطاء تقسيمات معينة للمسرحيات الشعرية المغربية الموجودة لن تعدو (أن تكون عملا مؤقتا يتقيد شرط وجوده باللحظة الزمانية ولا يصلح ليكون دلالة على ما بعدها، مراعاة لما ستسفر عنه التجربة من عطاءات أخرى ومساهمات جديدة لاشك أنها ستضيف إضافات أو على الأقل ستساعد على تجديد تنويهات أخرى قد تتطلب تقسيمات مغايرة من حيث النوعية والعدد) (1) وبناء على هذا قسم المسرحيات الشعرية التي أنتجها المغاربة إلى: مسرحيات تاريخية قديمة تتعلق بتاريخ المغرب مسرحيات تاريخية ترتبط بالنضال الوطني والقومي في فترة الحماية مسرحيات تاريخية ذات استهواء فني وأدبي مسرحيات فنية عاطفية مسرحيات ذات استبطان رمزي. فهذه المسرحيات على اختلاف مواضيعها، وأساليبها، وطرائق تركيبها، وطبيعة موادها المسرحية تبقى قابلة لأن تكون مشخصة لظاهرة الشعر المسرحي المغربي بوصفها ظاهرة من ظواهر تطور الشعر والمسرح في المغرب. من هنا يرى الدكتور حسن الطريبق أن الشعر المسرحي في المغرب في بعضه منحاز إلى نفسه لا يراعي أصحابه أنهم يواجهون جنسين معقدين هما: الشعر والمسرح إلا في حدود ضيقة. وهذا ما جعل أغلب نزوعات الشعراء فيه كانت تميل إلى قيم تشكيله بصورة هي أقل بكثير من حيث الصياغة وجمال التعبير، والجرس الموسيقي والتعامل مع فنية الأداء ، مما كان معروفا لدى شعراء عرب أقدمين، فالانحياز إلى الشعر على حساب المسرح، كان دون أن يكون شعريا مكتمل التبرعم في شجرة الشعر المكتفية بوافر ظلالها وناضر خضرتها وبهائها. ومعنى هذا أن ذلك لم يكن بإطلاق وباشتراك كل الشعراء المسرحيين المغاربة في اعتماده لأن هناك بعض الشعراء قد حافظوا على روح الشعر العربي القيم وأضافوا إلى ذلك شيئا غير قليل من الاعتبارات المسرحية من حدث ودراما ومن عموم التفعيلات في تقابل مشروع بين الشعر والمسرح وهذا ما أشار إليه الدكتور حسن الطريبق بقوله: (نريد أن نوضح نقطة حساسة وهي أننا لا نشترط لكي تنجح المسرحية أن تكون متقيدة تقييدا صارما بالقواعد المسرحية المعروفة، لا تقوم على المراجع والوثائق بل تقوم على المنطق ، وأنها لا تُقرر بالمثال بقدر ما تقرر بما أوتي الجنس البشري من تمييز طبيعي وأن التمييز الطبيعي لا يستند سوى إلى قوة المخيلة وقدرة المبدع على اقتحام المستغلقات الفكرية والفلسفية بوعي وثقافة وبطول تجربة. فالمسرحية الشعرية في نظره كل عمل جانس بين أصول الشعر ومكونات المسرح فاستطاع المبدع فيه المحافظة على رونق الشعر وصفاء لغته وبيانه، مع استحضار عناصر الفن المسرحي وتوظيف مقوماته ومكوناته الفنية. فإلى أي حد استطاع الشاعر حسن الطريبق أن يوفر هذا في أعماله الإبداعية، هذا ما سنحاول الوقوف عليه في الشق الثاني من هذه المداخلة والمتعلق بالحديث عن مسرحياته الشعرية وقد سبقت الإشارة إلى أنه أنتج مجموعة من المسرحيات منها ما يدخل في مجال بعث التراث واستحضار شخصيات التاريخ وأحداثه في حلة فنية تسمح بتأمل أحداث الماضي والحديث عن عظمة رجاله وتهدف إلى أخذ العبَر واستخلاص الدروس وتحت هذا النوع تدخل مسرحياته: مأساة المعتمد، ووادي المخازن، كوسيلة ومنها ذات استبطان رمزي وإشارات تاريخية ذكية تعتمد التلميح دون التصريح والإشارات اللبيبة دون التصريحات المباشرة وهو ما نقف عليه في مسرحيته «بين الأمواج والقراصنة» لقد كتب حسن الطريبق مسرحه الشعري بوعي تاريخي وحس وطني استقى أحداثه من التاريخ القديم ووظف في بنائه صورا تراثية فجاءت رقائعه في صورة قديمة لكن مضمونه ظل ناتجا عن محطة آتية جاءت متحدثة بأحداث جارية وموجبة بمواقف يمكن أن تتكرر في كل وقت وحين، ويكفي أن نستدل على هذا بما نفق عليه في مقطع من الفصل الثاني من مسرحية «بين الأمواج والقراصنة وهو عبارة عن حوار يدور بين أحمد وعنتر في ركن كئيب من المركب عند حلول المساء. أحمد: تقاذفنا الشر واستأثرت بنا الظلمات التي لا تني كأني، وقد قلقت غربتي أموت وأبعث في كفني وأحمل من كل ملحمة قساوة ما ضج من محن متى تنتهي كل هذي الهموم وتخرج منن محنة الشجن عنترة: لقد وقفت بي الظنون على نهاية ما في الأذى من غيوم قطعت متاهتها دموعي تسيل على الخد مثل السموم ضحكت علي وعُررت بي وألقت بي في الأذى والهموم. فعندما نتأمل هذا النموذج أو هذا الحوار نجد في إشارات ذكية وبناء فنيا يخدم الأحداث المرصد لها ويصور لحظات القهر والعذاب بصفة عامة بحيث يمكن أن يوظف هذا المشهد في كل حدث وفي أي عصر بما يكتنفه من تشخيص درامي وحركية التحاور وسردية التواصل والتفاهم ورمزية الاستهداف البعيد ونتابع سلسلة التناسل الحدثي من غيرما اعتمال أو افتعال لموقف غيردي قيمة. من هنا فإن الشاعر في هذا المشهد وفي غيره من النماذج المماثلة كان على بصارة يقظة بما يأتيه ويعالجه، فجمع بين الشعر والمسرح جمعا حميم حاول فيه أن يحتفظ للشعر بما يجب أن يكون له من إيقاع وحسن أداء، وحرص في الوقت نفسه على أن يوظفه ليكون وعاء كافيا لحمل حدثية مسرحية رامزة وفاعلة. إن الشاعر حسن الطريبق كان ينطلق بوعيه ومن وعيه في بناء معمار مسرحيته وفي استخدام لغته، وهذا ما يشير إليه في مقدمة مسرحيته «وادي المخازن» حين يقول بعد أن تحدت التجارب المسرحية الشعرية في العالم العربي: (فبوعي من ذلك كله كتبت هذه التمثيلية وحاولت أن أجمع بين جنسي الشعر والمسرح بطريقتي الخاصة. وبين العمود والتفعيلة مزاوجة أراها مجدية ومقبولة وقادرة على التقليل من المفارقة الموجودة بين الجنسين المذكورين عند دون جموح أو انحياز شعري كامل. فالحدث عندي يتسربل في ديكور قديم لكن المضمون يبقى ناتجا عن محلة آنية جاءت متحدثة بأحداث جارية، لكنها لم تحمل باطنها في ظاهرها، وهذا يعني أنها ذات دلالة رمزية. بالإضافة إلى هذا فإن حسن الطريبق يحتفظ في مسرحه الشعري بقدر كبير جهدا من جمالية الشعر بوصفه فنا متكاملا، لكنه يتواءم مع الموقف من حيث كونٌه جنسا لابد أن يعايش جنسا آخر ويقبل التكيف المتبادل معه لأجل تفعيل الحدث وتفعيل دواعي المسرحية بإدخال نفسه فيها مما يميز الجنسي معا الشعر والمسرح ويعطيهما بعدا مركبا منهما معا. هامش: * رئيس المجلس العلمي بطنجة 1) الشعر المسرحي في المغرب حدوده وآفاقه : ج I ص: 8