ملامحُ جدّتي(*) أتذكّرُها أتذكّرُ لآلئَ الوجْد في وجنتيها وفي عينيها الحنوَ يلتمعُ، أتذكّرُ إشراقةَ الحدْسِ تزنّرُها آثارُ جمالْ يعطّرُ فجراً يحيّي قرنفلةً وسنى، كما أتذكّر في مرايا السّؤالْ سحابةَ موتٍ داكنةً لا تنقشعُ، كيف لا، وأنا كلمةٌ واحدةٌ من قاموس صبابتها وزهرة يابسةٌ طهرُها يتوغّلُ في أوراقٍ ذهبيةٍ طالما غنّى في المذكّرة العاشقة إيقاعُ مهابتِها وأنا في رحلتها فصلٌ طويلٌ من فصولِ الجنرالْ(**)... وُلدتُ في ربيع صبوةٍ تفُضُّ مرمرَ الصّمتِ في دمِها، وظل الولعُ الحارُّ بين يديها يهدهدُني إلى أنْ خاطتْ بيرقَ اسمي بما نسَلَتْه من بروقِ منامتِهِ، لم تبلغْني نأمةٌ عن بذارٍ تناوبت الفصولُ على ريّ تعاويذِهِ، كان يتضرّعُ في منتصفِ الليلِ حينما يشتدّ بها الولَهُ، ولم أعرفْ كيفَ كانتْ براكينُهُ العاتياتُ تقابلُ مزمورَ غدرانِها في أعالي الخيالْ، ولكنني قد ظللتُ منشغلاً بأريج حكاياتِ سيرتِهِ أكثرَ مما انشغلْتُ بحرقتِها تتضوّعُ سرّاً دافئاً في مجالسِ الشّتاءِ المقرورة ... كانتْ جوارحُها تبتسِمُ لكلّ عاذلٍ عَذَلا: إنْ كنتَ تريدُ فضيلةَ العَتَمَة، رجاءً، لا توقدْ فضيحةَ الفانوس... فأنا قدْ رأيتُ تحت دوحَةِ النياشينِ والصّولجانْ ما لم أرَهُ تحت أجراس الكنيسة... قالتْ لهم لما رأيتُ النّورْ: لسميّه "اقتطعْتُ قطعةً من أذني" حبّاً لهُ، ومثلُهُ يكونُ امتدادي المعرّشُ فارساً في السّلمِ، ومحارباً في المعركة. وكان لي بعدَ رحيلِ جدّتي أن التمّتْ جيوشي إلى أن ضاقتْ بها جَنَبَاتُ الصّبواتْ وتراكمتْ أسلحتي كالنّملِ بعضُها في الوجدان أمزجةٌ، وبعيداً عن مهدِ الاسمِ الأبنوسِ كان البعضُ الآخرُ في الوجْدِ صفاتْ... هل صدَقَتْ رؤيتها؟ ربما، كنتُ في ساحةِ المعادلاتِ فارسا غير أنني عكس سميّي وخلافاً لما بهِ قد بشّرتْ فانا ظللتُ أكرهُ الحربَ وأخافُ دويَّ مقالبها. (*) حاشيةٌ بخطّ الحفيد علمتُ أنّ جدّتي تنهّدَتْ عندما جاءها الموتُ، واسترسلتْ: رأيتُ فيما يراهُ المسحورُ على صدر اللذّة الكبرى في شرفةٍ مفتوحةٍ على المطلقِ أنّ الفجرَ الملهوفْ حينما انهمرتْ جدائلُهُ كان قابَ قوسينِ أو أدنى من تسميّتهِ بمرادفٍ من مرادفاتِ الهوى الرقراقْ، لكنّ الشّعاع المتبتّلَ توَتّرَ في كوّتِهِ: إنّ هذا قليلٌ في حقّ الصّفة المنداحةِ والموصوفْ حسناً، إنّ الصّفةَ الحرّى رحمٌ خِصْبٌ للحبّ المترمّدِ في محرقةِ الحرْبِ، يقلّدُ تحليقَ الموصوفِ مثالاً آخرَ للخلاقْ، في سرّ الشّوقِ تُغيّبُ هالتُهُ القمرا... (**) حاشيةٌ مرقونةٌ من أرشيفِ الحفيدة طوالَ مؤاخاتِه للسّوطِ والكمامة أطفأ شموعَ الشيّوعيين في أثينا، ورابطَ في البحرِ أكثرَ من سنتينْ، وباختصارٍ، خاضَ ثلاثَ حروبٍ كانتْ كما ظلّ يعيدُ تستعيدُ ملاحمَ طروادَة... ولأنّهُ ظلّ يحبُّ الحياةَ كثيراً، لم تُغرقْ صبواتِهِ عاصفةٌ، لم تخدشْ ذراعَيْهِ أسلاكُ سياجٍ شائكةٌ تمرّدَتْ على أزهارِها، لم تصبْه ضربةُ شمسٍ، ولا نزلةُ بردٍ، ولم يصرعْهُ دوارٌ في أعلى صواري البارجة، لم تنلْ من عُمْرِهِ قذائفُ كانتْ تنهالُ كالبركانِ على خندقِهِ، ولا لدغتْهُ حيّةٌ تتبّعتْ في الصّباح بريقَهْ... وطوالَ استراحةِ المحاربِ، كان عصفوراً وديعاً في قفَصِ الجدّة يُسمعُها بعضَ أنّاتِ ريتسوس، معترفاً بفداحةِ جَلْدِ الماندولينْ وما أكثر ما كان يقاومُ صولةَ صورتِهِ تتسلّلُ طعناتٍ للصّدر، يغني لعينيْ إلهته تارةً كيْ يغافلها، وتارةً يذوبُ في دموعها الرقيقة... لكنهُ حين باغتهُ الموتُ، كان غزالاً شامخاً ينتظرُ الغزالةَ الرّفيقة وفجأةً تهاوى من عليائِهِ كجَبَلِ، وهو يُداعبُ براعمَ الورودِ في الحديقة.../ أتلانتا في ربيع 2013