لم يتم تأكيد نبأ وصول الجاسوس المزدوج كيم فيلبي إلى موسكو في ذلك الوقت، كما يؤكد ايفانز في كتابه. ولم تنشر الصحافة السوفييتية أي أنباء عنه مطلقاً. ولم يستدل على أي عنوان له في موسكو وكذلك لم يكن اسمه مدوناً في دفتر دليل التليفونات. ولكن بعض المراقبين كانوا يتحدثون عن قيامهم بالتعرف إليه في بعض الأماكن في موسكو لكن بعد برهة قصيرة اختفى من جديد، والتزم المسؤلون في جهازي الاستخبارات البريطانية بفرعيها الداخلي والخارجي الصمت ازاء اختفاء فيلبي، ولم يعلقا على ذلك مطلقاً وكان العذر الذي يلتمسه المسؤولون في أجهزة التجسس البريطانية هو تمسكهم بمتطلبات قانون سرية المعلومات وإلا فإنهم قد يتعرضون للمساءلة القانونية والمحاكمة. وقال أحدهم لإيفانز "لا تجلب لي المتاعب يا والدي العجوز". وبعد عدة أشهر قضاها المؤلف وهو في حالة احباط مرضية أمل إزاء الاخفاق الكامل في معرفة أي تفاصيل عن أسباب اختفاء فيلبي أو ملابسات هروبه إلى موسكو تمكن فيل نايتلي الصحافي البارز ضمن فريق التحقيقات الصحافية في "الصنداي تايمز" من الوصول إلى بعض الخيوط المهمة. فقد كشف له أحد أصدقائه في جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية بعد مأدبة غداء حافلة بكؤوس الشمبانيا أن فيلبي كان جاسوساً مزدوجاً فقد كان يعمل أيضا كرئيس لفرع مناهضة الاتحاد السوفييتي في جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية. ويقول ايفانز إن اكتشاف "السر الخاص" بأن فيلبي كان عميلاً مزدوجاً كان معناه أن كل العمليات الخاصة بالتجسس على الاتحاد السوفييتي كان محكوماً عليها بالفشل الذريع منذ البداية، وكذلك فإن كل الجواسيس البريطانيين في موسكو وبقية عواصم دول أوروبا الشرقية كانوا معرضين للهلاك والاغتيال. وقامت صحيفة "الصنداي تايمز" كما يقول المؤلف بمحاولة تجميع خيوط هذه القصة المثيرة وتسليط الأضواء على فصولها والكشف عن حقيقة فيلبي. وكان السؤال المثير للحيرة الكبيرة هو لماذا لم يتم معرفة دور فيلبي الخفي خلال هذه الفترة الطويلة؟. ويتساءل ايفانز عن أسباب عدم إماطة الجواسيس السوفييتي الذين حصلوا على حق اللجوء السياسي في لندن اللثام عن حقيقة فيلبي؟. وتلقى ايفانز رسالة عندئذ من سكرتير أول سابق في السفارة البريطانية في أنقرة وهو جون ريد، يعرب فيها عن قلقه لأن التحقيقات التي كانت الصحيفة قد بدأت في نشرها عن فيلبي قد تعرضه للخطر بسبب بعض الأخطاء التي وقع فيها. وبدأت ألغاز القصة تتكشف بعد أن أعلن ريد في حديث خاص مع الصحيفة أن مسؤولاً كبيراً في الاستخبارات السوفييتية "كي . جي . بي" وهو كونستناتين فولكوف الذي كان يعمل في تركيا دخل فجأة القنصلية البريطانية في اسطانبول في يوم شديد الحرارة في صيف عام 1945 وذلك ليطلب اللجوء السياسي. وطلب الجاسوس الخطير تسهيل مهمته للوصول إلى قبرص وكذلك ضرورة تلقيه تعويضات مالية كبيرة. وفي مقابل ذلك فإنه على استعداد للكشف عن الأسماء الحقيقية لثلاثة من العملاء الذين يعملون في بريطانيا لمصلحة الاتحاد السوفييتي. وقال الجاسوس السوفييتي ان اثنين منهم يعملان كدبلوماسيين في وزارة الخارجية البريطانية، وكذلك فإن احدهما هو رئيس هيئة لمكافحة التجسس في لندن، ولكن السفير البريطاني عندئذ في تركيا السير موريس بيليرمون لم يكن يريد ان يتدخل مطلقا في النشاط "الخبيث" الخاص بالجواسيس، وطلب من ريد أن يعمل على احاطة علم المسؤولين في لندن بهذا التطور لأنه لا يريد ان ينخرط في مثل هذا العمل الاستخباراتي دون ضمانات. وبالفعل بعث ريد بالمعلومات عن هذا الجاسوس السوفييتي في برقية سرية إلى وزارة الخارجية البريطانية وانتظر وصول الرد واستغرق الأمر أسبوعين كاملين قبل وصول مسؤول في الاستخبارات البريطانية لكي يستجوب فولكوف. وكان هذا المسؤول هو كيم فيلبي ولم يتم بالتالي الكشف عن حقيقة فولكوف ولم يتسن معرفة مكان وجوده مطلقاً بعد ذلك. ويذكر ايفانز انه من الواضح ان فيلبي أدرك انه كان على وشك افتضاح أمره والكشف عن عمله كجاسوس مزدوج ويبدو أن فيلبي تمكن بعد الاتصال بالاستخبارات السوفييتية من تسهيل سفر فولكوف ولكن ليس إلى قبرص كما كان يريد. فقد اتضح ان طائرة عسكرية سوفييتية هبطت على نحو غير روتيني في مطار اسطانبول وفي ظرف دقائق قليلة أقلعت من جديد مرة اخرى بعد ان تم نقل شخص ملثم على محفة إلى الطائرة. ويعترف ريد بأن هذا الحادث أقنعه أن فيلبي كان إما عميلا للسوفييت أو انه كان شخصاً يتسم بالاستهتار وعدم الكفاءة . ولكن ريد يؤكد الآن انه أصبح مقتنعا بخيانة فيلبي وعمالته للسوفييت. ويتابع هاري ايفانز في الفصل التالي من هذا الكتاب المثير تفاصيل خيانة فيلبي وانكشاف امره بعد اعوام طويلة بحيث اصبح يمثل قصة خيانة العصر كما يقولون. ومن الجدير بالذكر ان معاهد الإعلام البريطانية والغربية تحرص حالياً على تدريس أساليب التحقيقات الصحافية التي أرسى قواعدها ايفانز عندما كان رئيساً لتحرير "الصنداي تايمز". ومن بين الخبطات الصحافية الشهيرة التي مازالت لها أصداؤها حتى اليوم هي قصة عقار "الثاليدمويد" الذي كانت الحوامل تتعاطاه لمنع حالات الاغماء في بداية فترة الحمل. وقامت المطبوعة البارزة بسلسلة من التحقيقات المهمة كشفت فيها عن تسبب هذا الدواء في إصابة المواليد بالتشوهات الخلقية، ومازالت تداعيات هذه الخبطة الصحافية تتفاعل حتى اليوم في المجتمع البريطاني. بدأت رحلة هاري ايفانز في مدينة مانشستر بشمالي انجلترا حيث عمل في صحيفة محلية بارزة هناك وامتدت بعد ذلك إلى لندن لرئاسة تحرير "الصنداي تايمز" و"التايمز" لفترة قصيرة، وبعدها استقر الصحافي المخضرم في نيويوركوواشنطن حيث اصبح مدرسة اعلامية شامخة ولكن المؤلف يركز في هذا الجزء الخاص بهروب فيلبي إلى موسكو في "رحلة الخيانة" في خضم فترة الحرب الباردة وسعى كل طرف فيها على تحقيق مكاسب إلى حساب الطرف الآخر، فقد كانت صدمة لندن عنيفة جداً بعد خيانة فيلبي وخاصة انه يشغل مثل هذا المنصب الحساس، فقد كانت المفارقة انه كان مسؤولاً عن مكافحة الشيوعية، بينما كان هو في قرارة نفسه من أنصار هذا النظام. ومن المؤكد ان كتاب ايفانز الحافل بذكرياته عن هذه الخبطات الصحافية المثيرة بما فيها هروب فيلبي يعكس لنا في حقيقة الأمر المدرسة القديمة الكلاسيكية في الصحافة خلال القرن العشرين التي كانت تعتمد على الأمانة والتصميم والدقة والموضوعية. وعلى الرغم من اننا الآن في عصر الكمبيوتر وثورة المعلومات نعيش في ظل 24 ساعة من السيل الاعلامي، إلا ان هذه المبادئ القديمة لا تزال هي الهادية امام اجيال الصحافيين الجدد. ويروي ايفانز في هذا السياق كيف كان فريق التحقيقات الصحافية الذي يعمل بتشجيع ووحي منه في "الصنداي تايمز" يشعر بالاحباط لفترة طويلة لأنه كان يواجه عملية تعتيم منظمة من قبل المؤسسة الحاكمة في بريطانيا إزاء الكشف عن حقائق قصة هروب فيلبي وكانت اسئلة عديدة تحيط بهذه القضية ومن بينها كما يشير المؤلف: "هل كان فيلبي محل ثقة كبيرة من وزارة الخارجية البريطانية بحيث انها لم تكتشف حقيقته خلال خدمته في واشنطن في عام 1949 وذلك تحت ساتر السكرتير الأول في السفارة البريطانية هناك، ان بعض تصرفاته كانت مثيرة للشبهات؟. وعلاوة على ذلك فإن تكهنات عديدة كانت قد ثارت حول دوره في هروب بيرجيس وماكلين قبله إلى الاتحاد السوفييتي، وكان العميلان كما اوضح ايفانز في الفصل السابق من الدبلوماسيين البارزين الذين عملوا ايضاً في واشنطن، وانطلاقاً من روح المغامرة الصحافية ومتابعة هذه الازمة الخطيرة أوفد ايفانز اثنين من المندوبين الصحافيين في الجريدة الاسبوعية إلى واشنطن وكان أحد هذين المندوبين هو فيل نايتلي الذي قام باتصالات مع وكالة الاستخبارات المركزية لمتابعة خيوط هذه القضية. ويقول ايفانز إن الوكالة كانت معجبة للغاية بأساليب العمل السري البريطاني خاصة الدور الذي يضطلع به جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية المعروف باسم "M16" وكان هذا الجهاز قد لعب دوراً رئيسياً في فك شفرة الألمان الحربية خلال الحرب العالمية الثانية، ما اسهم في هزيمة ألمانيا. وأبلغ مسؤول كبير في الوكالة الأمريكية نايتلي انه كان يعرف جيدا كيم فيلبي. غدا: إختراق المخابرات الأمريكية