1 الشعر الجديد قسمان : قسمٌ يُقرأ ويُدرس، ويُحلل فيبقى ماؤه متدفقا، رقراقا. وقسمٌ يُقرأ ويُتَلَذَّذُ بِمائه الْمُتَدفق كالشلال، لكن إذا اقتربَ النقدُ منه حجب عن القارئ العاشقِ ما به من ماء.و «سآتيك فردا « من هذا الصنف: يقرأ، يُتَلَذَّذُ بقراءته.. وكلُّ نقد له، في تقديري، سيحجب عن القارئ ما يتمتع به هذا الشعر من زخرف، وجمال. ولأن الأمر كذلك، فإني أخشى أن يتأثر تقدِيمِي هذا بهذا الانطباع الذي تَكَوَّنَ لَدَيَّ منذ القراءة الأولى، فموضوعُه الذاتُ وهي تريد أن تتحرر من صلصالها. وهو موضوع له حضور قوي في تَجْرِبَتِي الشعرية. هذا معناه أني وجدتُ ذاتي وأنا أقرأ هذه الثلاثيات، مما جعلني أشعرُ بأن هذه النصوص ليست غريبةً عنِّي؛ لهذا قرأتُها بحب، وكتبتُ عنها هذا التقديم بحب. يتأسس هذا العمل على عنصرين: عنصر مرتبط بالشاعرة، وآخر مرتبط بالشعر المنجز في هذه الثلاثيات. وهما معا يفرضان، عند القراءة، ربطَ العمل بالأدب النسوي، ثم بالشعر الصوفي. 2 تقوم الحضارة الغربية على الثنائية القائمة على الصراع. إذ ثمة صراع دائم بين المادي والروحي، بين العقل والحس، بين الرجل والمرأة... ولا بد، في هذه الحضارة، أن ينتهي الصراع بانتصار عنصر على آخر. على أن العنصر المنهزمَ يظل ينتظر الفرصةَ لِيَنْقَضَّ على من غلبه. وهذا يجعل من الطبيعي الحديث عن الأدب النسوي باعتباره أدبا يحمل قضية المرأة في مواجهة الرجل المستبد، والمسنود بالشرائع الدينية. أما الحضارة الإسلامية، وهي حضارة تقوم على الدين، لا على الفلسفة، شأن الحضارة الغربية، فإنها لا تعرف هذه الثنائية في شكلها الغربي القائم على الصراع، ولكن في شكل تآلف أو تزاوج. فالروح لا تقوم إلا بالجسد. والجسد لا يقوم إلا بالروح ولا نجد في هذه الحضارة، على مستوى الإنجاز الشعري، ما يميز شعر المرأة عن شعر الرجل. حَدَّثَنا تاريخ الأدب عن الخنساء، وعن شعرها الذي اتسم بالحزن، ورأى الكثير من الدارسين أن ذلك لكونها امرأة. وهذا في تقديري أمر غير صحيح، لأن الحزن نفسه يُمكن تلمسه عند شاعر عاش التجربة التي عاشتها الشاعرة. والحق أن حزن الخنساء حزنٌ فيه قوة، لكونها مسلمة: إنّها فقدت أعز ما تملك دون أن تستسلم، فبنت بكاءها رثاء رائعا فيه دعوةٌ غير مباشرة إلى الجهاد، وطلبِ الشهادة في سبيل الحق. مع «النهضة « انتقلت إلينا فلسفاتُ الحضارة الغربية؛ فسمحنا لظلالها أن تحجب عنا نور الإسلام، فصرنا نسمع بالأدب النسوي. وهو أدب، في تقديري، يتسم بعنصرين اثنين: الدعوة إلى اللذة من خلال الكشف عن أسرار الأنوثة ومفاتنها، والدعوة إلى شن حرب على الرجل. ونستطيع أن نقول إن بعض شعر مليكة العاصمي، ووفاة العمراني، وحبيبة الصوفي خاصة شعر نسوي بامتياز. لكن الأمر مختلف مع الزناتية، الشاعرةِ المرتبطة بالإسلام ارتباطا وثيقا، حيث إن الشعر عندها وسيلة وغاية. وسيلة للجهاد، وغاية باعتبارها شاعرة لا تستطيع أن تتنفس شيئا آخر غير الشعر. وهذا لا يعني أنها لم تهتم بالمرأة في مجتمع مسلم عطل شرع الله. إنها اهتمت بالموضوع كحبيبة الصوفي، لكن من رؤية مخالفة... (انظر مثلا قصائد: المومس، ونادلة، والفراشة المحترقة في مجموعتها الأولى «ورود من زناثة»). 3 تلف هذه المجموعة لغةُ العشق الإلهي. وهي لغة دشنتها امرأة توفيت سنة 185ه. إنها رابعة العدوية العابدة والزاهدة والعاشقة، إذ لم يسبقها على حد تعبير الدكتور محمد مصطفى حلمي « أحد إلى استعمال لفظة الحب استعمالا صريحا وتوجيهها إلى الله توجيها قويا «، وسيلتقط الشعراء المتصوفة هذه اللفظة وسيحافظ بعضُهم على بَيَانِها، وسيورد البعضُ الآخر هذه اللفظة في نسق يصعب فيه تمييز المادي عن الروحي. فأين سنضع» سآتيك فردا «؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال، لا بد من الوقوف عند عتبات هذا العمل الشعري وقوفا ينير الجوانب التي تلفها ظلال اللغة الإشارية. 4 العتبة الأولى: يمثلها عنوان المجموعة: « سآتيك فردا « يقوم هذا العنوان على دعامتين عروضية ولغوية. وهما، معا، تشجعان القارئ على استحضار عنوان إحدى المجموعات الشعرية للشاعر حسن الأمراني، وهي: «سآتيكِ بالسيف والأقحوان» القائمة هي أيضا على نفس الدعامتين. يتألف عنوان الشاعرة أمينة المريني عروضيا من قَسِيمٍ شعري وزنه «فَعُولُنْ فَعُولُنْ». وهذا معناه أنَّ هذا القسيم بحاجة إلى من يملأه؛ لِيُحَقِّقَ ذاتَه الإيقاعيةَ كاملةً. ولهذا فهو حائز في اختيار أحد الإيقاعين التاليين: إيقاع بسيط، وإيقاع مركب. إيقاع خفيف، وإيقاع مركب. إيقاع المتقارب، وإيقاع الطويل. تعكس الْحَيْرَةُ الإيقاعيةُ التِي واجهها العنوانُ الحيرةَ التي تعيشها الشاعرةُ وهي موزعةٌ بين سلطةِ المادة، وسلطةِ الروح، كما تعكس ذلك أشعارُ هذه المجموعة. إنها ما تزال تبحث عن ذاتها. وتسعى إلى التحرر من لهيب الصلصال اللاهب. بينما نجد عنوانَ مجموعة الشاعر حسن الأمراني عنوانا ثابتا، إذ تجاوز الحيرة حين اختار إيقاعَه البسيط الذي يكونه المتقارِبُ، ولم يسمح لإيقاع آخر أن يدخل معه في صراع. وهذا يعكس لنا طبيعة الشاعر حسن الأمراني الذي تجاوز الصراع الداخلي القائم بين قُوَّتَيْ المادة والروح. فقد اتضحت له السبيلُ، ورمى بذاته بين دفتيها. يتكون عنوان الشاعرين حسن الأمراني، وأمينة المريني لغويا من جملة مفيدةٍ تُحدد الشاعرةُ من خلالها الحالَ التي سيأتي بِها العاشق إلى محبوبه، بينما الشاعرُ الأمراني لم يهتم بِهذه الحال، وإنما اهتم بذكر الهديةِ التي سيقدمها وهي دمُه، لكن الضمير المتصل بالفعل عنده يفرض على القارئ، لمعرفة جنسه، الدخولَ إلى مقام النصوص المكونة لديوانه. بينما جِنْسُ الضمير واضحٌ في عنوان الشاعرة؛ لأن العنوان مستعار من قوله تعالى: ?وكُلُّهُمُ آتيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً?. وهذا معناه أن المخاطبَ فِي العنوان هو الله سبحانه وتعالى. العتبة الثانية: تقوم هذه العتبة على آيات من سورة مريم. وموضوعُ هذه السورة التوحيدُ، ونَفْيُ أن يكون لله ولدٌ شريك. وهذا هو الجوهرُ الذي ملأ مضمونَ السور المكية من أجل تثبيته في نفوس المؤمنين بالله. والشاعرة، هي تستحضر هذه السورة، تريد التعبير عن خروجها من مرحلة «جاهلية» مرت بِها ودخولها في مرحلة جديدةٍ تتعرف من خلالها على خالقها ، وهي تريد تصحيح سلوكها عن طريق معرفتها ربَّها الذي لم يَلِدْ ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. لكن ما دلالة الآيات ؟ اعتمادا على الظلال نقول إننا أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، فكل ما بهذا الكون من ملائكة، وإنس، وجن إلا وهو مملوك له: ينقادُ لحكمه، ويلتجئ إليه حين الحاجة، ويخضع له خضوعَ العبد للسيد. هذا السيدُ العظيم لا مجال للهروب منه، فقد أحصى ما خلقَ، وحصرهم وأحاط بهم، فهم تحت أمره وتدبيره، يعلم ما خَفِيَ من أحوالهم، وما ظهر.. لا يفوته شيء منها عن أشخاصهم وأفعالهم وأنفاسهم، وأقوالهم. فعينُ الله سبحانه وتعالى على كل امرئ منهم، كلٌّ يأتيه يوم القيامة وحيدا منفردا عن الأهل والأنصار، منقطعا لله تعالى، محتاجا إلى معونته ورحمته. يُستنتج من هذه الظلال أن العبد، المخلص في عبوديته، إذا ما قرأ هذه الآيات، لا بد أن يتملكه الخوف، والشعور بعظمة مولاه. والخوف هو الموضوع الأساسُ المهيمنُ على نصوص هذه المجموعة الشعرية. العتبة الثالثة: هذه العتبة هي عبارة عن دعاء من إنشاء الشاعرة. وهو دعاء صِيغ صياغة شعرية راقية تذكر بالصياغة نفسِها التي تسم أدعية أهل الزهَد والتقوى والصلاح ومناجاتهم. من خلال هذا الدعاء الشعري، ندرك أن الشعر عند الشاعرة شيء مدنس، قد لا يكون سبيلا تُوصل صاحبها إلى الذات المقدسة. إنه سَرَفٌ وزور. وهو كذلك لغوٌ وبُهتان. وكأني بالشاعرة، في هذا الدعاء، تتحدث عن نوع من الشعر كانت تُمارسه في «جاهليتها «، ولتصحيح سير هذا الشعر، تريد أن تجعله خالصا لله، وذلك بأن يكون موضوعه محبة الله. وكأني بِها تستحضر قوله تعالى: ?قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ?.. (آل عمران: 31). فحب الله يتم بحب محمد. وهذا يؤدي إلى أن الله يحب عبده ويغفر ذنوبه. والشاعرة تشعر بأنها مثقلةٌ بالذنوب، وتريد أن تتطهر منها. واعتبرت حبَّ الله هو الخلاص. لأن المحبة كما يرى الكرماني في شرحه صحيح مسلم هي إرادة الخير. ولهذا تدعو الله إلى أن يتقبل منها ما كان من الشعر فيه، وأن يغفر لها ما قالته لغير ذاته. 5 إن الرغبة في التقرب من الله عز وجل، والإحساسَ بالذنب الذي حط بكلكله زمنَ الجاهلية أمران طبعا أشعار هذه المجموعة على مستويين: أ?- مستوى العناوين ب?- مستوى المعجم أعطى هذان المستويان ثنائيةَ الجسدِ والروح، الطينِ والنور وذلك على الشكل التالي: أ?) ? انعتاق ? رق ? اشتباه ? وسواس ? زخرف ? تكوين ? دود ? غفلة ? نعش ? صحوة الريان ? الغرباء ? البئر ? الميزاب.. ب?) الروح ? البدن ? الطين ? عربد ? الوحل ? القيد ? العالم السفلي ? النور ? السر ? تجلى ? العشق ? الشوق ? الشهوة ? الليل ? الباب ? الصلصال ? الري ? الكأس ? الخلوة ? التيه... يلاحظ من خلال (أ) و(ب) أن ثمة علاقةً تربط العناوين بالمعجم، وشَكَّلَ هذا الترابطُ حالةً إيمانية تعيشها الشاعرة التي صَحَتْ بعد غفوة؛ لتجد نفسها مُمزقة بين قوتين: قوة الصلصال، وقوة النور. فلكي تسمو، لا بد من التطهير، ولا أحد غير الله ينقذ العبد من جسده، ولكن مع ذلك فهي مؤمنة بأن هذا لا يتم إلا إذا غير العبد ما بنفسه: تسامق القبحُ في روحي وفي بدني وجَاسَ في النبض تَيَّاهاً وأرَّقَني وعربدَتْ طينتي في الوحْلِ ما بَصُرَتْ قيدا بعالمها السفليِّ يَخْنُقُني فامْدُدْ حَبِيبِيَ كَفَّ الْمَنِّ ناصعةً ما غَيرُها من ظلام القبح يُخرجني يلخص هذا النص ما جاء في العناوين، وفي المعجم المستخرج من هذه المجموعة.. كما يلخص الموضوعَ الأساس الذي قامت عليه «سآتيك فردا» فالروح معربدة في الوحل. لكن ثمة رغبةً في الانعتاق من هذا العالم السفلي. ولكن الشاعرة ? مع ذلك ? تلح في جُل أشعار المجموعة على أن العبد مقيد إلى العالم السفلي: إذا رنوتَ عَتت في أُفْقِها سُجُفٌ وإن خطَوْتَ وجدتَ الخَطْوَ مأسورا هذا المناح الروحي والإيماني جعل الشاعرة تستعير شخصيات الأنبياء كمريم، وإبراهيم، وموسى، ويوسف عليهم أفضلُ الصلاة والسلام. هذه الاستعارة هي التي كانت في تقديري المولدةَ لذلك المعجم المشار إليه في هذا التقديم .. إِنَّها شخصيات عاشت صراعا مع أقوامها، لكن الصراع الذي عاشته الشاعرة صراع داخلي: تُخْبِرُنِي الْخُطْوَةُ كَيْفَ الْحُبُّ تَمَدَّدَ خَيْطاً بَيْنَ الْوَامِقِ وَالْمَوْمُوقْ كَيْفَ سَنَابِلُ وَادٍ مِنْ غَيْرِ زَرْعٍ لَبَّتْ فِي كَفِّ الْعَاشِقِ إِيمَاءَ الْمَعْشُوق صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا فَتَشَامَخَ فَيْضٌ فَوْقَ يَبابِ الْحَجَرِ الْمَشْنًوق يحيل هذا النص على قوله تعالى : « رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون»(إبراهيم 33). لقد أَسكن إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بعضَ ذريته بواد غير ذي زرع. لكن هذا الوادي الذي مرت به الشاعرة، أخبرتْها خطواتُها نحوه، بأن به سنابلَ: لأن المرءَ، حين يدخل هذا البلدَ الطيب، ويَقيم به الصلاةَ، يَرزقه الله من الثمرات. والشاعرة، لإيماها القوي، تَمَسَّكت بأنوار هذه البشارة. وهذا التمسك دعاها إلى الاستعداد للتضحية. وظل هذا الاستعداد حاضرا وهي تقول: خَيْطٌ مِنَ الزَهْوِ فِي الأَسْحارِ مَيّاسُ يَغارُ مِنه السَّنا وَالْبانُ والآسُ لاحَقْتُهُ خَبَباً فَاقْتَدَّ مِنْ دُبُرٍ قَمِيصِيَ الْمُجْتَبَى إِنْسٌ وَخَنَّاسُ أَكُلَّمَا لُذْتُ مِنْ صَلْصَالِي وَهِناً يَرُدُّنِي لِتُخُومِ الطِّينِ وَسْوَاسُ تستدعي هذه الأبياتُ قولَه تعالى في سورة يوسف ( وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا بِالْيَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنَ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم ) يوسف 25-26-27-28 في هذه الآيات البينات مراودةُ امرأة العزيز ليوسف عليه السلام، إذ غَلَّقت الأبواب . وحين التجأ إلى الباب قَدَّت قميصه من خلف. أي جذبته من ردائه رغبة منها فِي أن تجعله يستجيب لدنس الصلصال. استفادت الشاعرةُ من هذا الإطار القرآني ، فاستعارته مع تحوير خفيف؛ إذ صورت نفسَها وهي تواجه إغراءً كالإغراء الذي واجهه يوسف عليه السلام. هو أغرته امرأةُ العزيز، والشاعرةُ أغراها الشيطانُ/ الطينُ المستيقظ في أعماقها. ولما التجأت إلى الباب فَدَّ من دبر قميصها. وهذا دليل براءتها على رفض السقوط في وحل الطين . 6 اعتنت الشاعرة، في هذه المجموعة، بالإيقاع. حيث اختارت منه ما يلائم هذه التجربة. ويبدو أن الإيقاع البسيط هو الأكثر حضورا. في حين يحضر الإيقاع المركب، والمتمثل في بحر البسيط حضورا باهتا. لكن الأهم من كل هذا هو عناية الشاعرة بالبديع شأنَ الشعراء المتصوفة، باعتباره عنصرا جماليا يثري الجانب الصوتي في النص الشعري. وعندي أن الثراءَ الروحي هو الذي استدعى هذه الصناعةَ البديعية؛ لأنها مرتبطة بالنص الديني أكثر من ارتباطها بأي نص آخر. أمثلة : إِنِّي/ أَنَا الظِّلُّ أَوْدَى / بِهِ اللَّيْلُ لا بَعْدُ/ لا قَبْلُ لاَ وَجْهُ / لا شَكْلُ فِي بَابِكُمْ / كُلٌّ بَلْ مِنْكُمُ الْ / حَوْلُُ يقوم هذا النص على وزن شعبِي شاع كثيرا في الموشحات الأندلسية. وهو مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ. وهو وزن قصير يتهافتُ على إيقاعه المغنون، والمنشدون. ولأن جوَّ النص جوٌّ روحي ، فإن الشاعرةَ تريد تَمْديد زمن هذا الإيقاع عن طريق توليد إيقاعاتٍ جديدة من رحمه، وذلك على الشكل المحتمل التالي: فعَْلُنْ/ مَفاعيلُنْ فَعْلُنْ / مَفاعيلنْ مَفْعُولُنْ/ مَفْعُولُنْ مَفْعُولُنْ/ مَفْعًولُنْ مُسْتَفْعِلُنْ/ فَعْلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ / فَعْلُنْ لنقرأ المثال التالي : حَلَّقَ الرُّوحُ مَلِيًّا / وَصَفَا وَأَصَابَ السِّدْرَ ظِلاًّ / فَغَفَا وَرَأَى النِّبْقَ قِلالاً/ مِن سَناً فَارِهَاتٍ فَدَنَا وَارْ / تَشَفَا لَمْ يَزِدْهُ الرَّيُّ إِلاَّ / ظَمَأً وَانْغِلاقُ السِّرِّ إِلاَّ / شَغَفَا لا أريد أن أسترسل في تقديم الشواهد، لأن أكثر نصوص هذه المجموعة تقوم على الظاهرة الإيقاعية نفسها وبعد فنعود إلى السؤال الذي وضعناه في مستهل هذا التقديم : إن لغة الشعر الصوفي، حين تستعير لغةَ العشق، غالبا ما يجد القارئ نفسه عاجزا عن الفصل بين المقدس والمدنس في النص . ولهذا كان القارئُ يلجأ إلى التأويل حين يعلم أن الشاعرَ صوفِيّ. أما الشاعرة أمينة المريني فإنّها تقدم في النص ما يثبت أن الحديث إنما هو عن المقدس، وسأضرب لهذا مثالين رغبة في الاختصار: المثال الأول : قولها : أَزُورُكَ يَا ( عَلِيُّ ) وَبِي اشْتِيَاقٌ إِلَى مَرْآكَ لَوْ سَمَحَ الْحِجَابُ فَأَلْقَى بَيْنَنَا سَبْعاً وِضَاءً تُدَافِعُنِي ويُعْجِزُنِي التُّرَابُ وَيُنْعِشُنِي انْسِيَابُكَ فِي دِمَائِي إِذَا عَزَ اللِّقَاءُ أَوِ الْخِطَابُ المنادى في النص هو ( علي ): فهل يمكن اعتبارُ المقطوعة غزلا ماديا ؛ أي : هل المنادى بشر؟ إن المعجم المصاحب هذا المنادى من نحو « الحجاب، التراب...» يَمْنع أن يكون المنادى بشرا. وهذا يدفع إلى اعتباره منادىً مقدسا: إنه الله سبحانه وتعالى ، وأن ( عليا ) من أسمائه الحسنى. ولعل هذا ما يفسر كتابته بين قوسين كبيرين . المثال الثاني قولها : لَنْ أَقْبَلَنْ نُصُحَا مِمَّنْ وَشَى وَلَحَا فَلَوْ رَأَى جَسَدِي فِي مَحْوِهِ شَبَحَا لارْتَدَّ عَنْ ضُلَلٍ وَقَامَ مُصْطَبِحضا كلمةُ « وشى» الواردةُ في هذا النص تُوهم القارئَ بأنه يواجه نصا غزليا؛ باعتبار هذه الكلمةِ من مكونات النص الغزلي المادي القديم. لكن معجما آخرَ يتدخل؛ ليمنع هذه القراءة، وهو « الجسد، المحو». ويأتي البيتُ الثالث لتأكيد أن الأمر مقدس . إن هذا الواشي لو رأى ما رأته الشاعرةُ لقام واصطحبها للوصول إلى مصدر الرؤية . وبعد فهذه قراءة شاعر. لم تكشف هذه القراءةُ كلَّ أسرار هذه الأشعار ، ولكنها تتمنى أن تكون قد نجحت في دعوة القارئ إلى كشف ما تبقى من الأسرار وجدة :يناير 2001