هاتفني أحد اليائسين من الثقافة في المغرب، يريد أن يوقظني من سُباتي الإبداعي الذي أَعْمَهُ في ضلال حلمه الجميل، وقد استفاض في قوله المفعم بالشفقة، حتى ظننت أنه يهاتفني على حساب الدولة، وليس بتعبئة يدفع فاتورتها من جيبه السخي؛ ورغم أنه ليس نِفَرِيّاً، إلا أن حديثه كان يعتكز على مواقف ومخاطبات جوفاء، من قبيل القيل والقال، فهاتفني بكل أوتي من شطح: قم من نومك، لمن تملأ الصفحات، لمن تكتب، هذه أمة لا تقرأ؟؛ ورغم أني منحته أذني علكة يلوكها لآخر ضرس، إلا أن قلبي وفكري ظلا منيعين من كل تسرب لمثل هذه الأفكار المسمومة، التي لا تريد من النقد إلا استثارة النَّكد؛ ولكن أعترف أني لم أستهن بكلام هذا الهاتف أو أعتبره مجرد قرصة بعوضة سرعان ما يزول أثر لسعتها ولو امتصت كل الدماء، وأمعنتُ تفكيراً في الصمت الذي آل إلى خرسه المثقف المغربي، حتى جرَّ علينا أفاعي هذه الألسنة، التي ما كانت لترجم بالجهالة لو لم تترك العقولُ المفكرة المجتمع شاغراً من أصواتها الأجدر أن تكون عالية في هذه المرحلة العصيبة؛ مرحلة التحولات السياسة المأزومة في بلدنا وحتى العالم، التي تنتابها كل الفصول، دون أن تجد من يقول شيئاً يُمنطق هذا الجنون، أو حتى يقترح فصلا خامساً، يختلف عن ما تعودناه من فصول على مدار السنة، يتجاوز جغرافيا الورق!. أعترف أن كراهية الرجل الذي كلمني للثقافة، قد حولت الهاتف في أذني إلى ماسورة للوادي الحار، ولكنها بدل أن تُهيِّج في رأسي الذباب، جعلتني أدرك حجم الهوة السحيقة التي بين ما ينتجه أو لا ينتجه المثقف المغربي من أفكار تبقى خارج المدار الحضري والقروي أيضاً، وبين أفراد المجتمع الأحوج إلى من يقلب أو يُكهرب سكونية الواقع المدجن، بلاسع التأثير والتغيير، ويبث الحياة في الرأي العام الذي تغمره الرغبة في الحقيقة والقلق إلى الفعل؛ لقد ضجر الناس من قول لا يدرك مرجعياته النظرية إلا الباحث نفسه الذي يبقى حبيس الجامعة والكتاب إلى آخر الزمان؛ وصار الجميع يتوق إلى أن يُسمع هذا الباحث المُركَّز كمحلول نادر في أنابيق المختبرات، صوته في السياسة والحياة العامة، ويترجم لغته إلى واقع لا يرتدي قفازات كي يغدو ملموساً، إنه المثقف الذي يرتضي الإجابة على الأسئلة المعيشة التي تهم الصحافيين ورجال السياسة، وليس المثقف المتعالي الذي لو نظرت لأسفله، لوجدته يقف على كتب دبّجها بمدرار الحبر دون أن يقرأها أحد!. شكراً أيها الهاتف الذي من فرط ما عبّر عن كراهية قصوى للثقافة، جعلني أراجع قلبي ليحبها أكثر..!