تضاربت المعلومات و المصادر حول حقيقة و حجم ظاهرة تهريب الأموال و الرساميل الى خارج المملكة و لكنها تقاطعت عند إعتبار الأمر واقعا ماثلا يكتسي أهميته الآنية مع ظرفية الأزمة المالية و الاقتصادية التي تجتازها المملكة و التساؤلات التي يطرحها الرأي العام الوطني و معهم الفاعلون السياسيون و الاقتصاديون حول نجاعة التدابير و الاجراءات التي تنتهجها الدولة للحد من نزيف الأموال و الحسابات البنكية الموطنة بالمغرب . و كانت مصادر صحفية متفرقة قد نسبت الى المدير العام لمكتب الصرف بالمغرب، السيد جواد حمري تأكيده في تصريح للصحافة أنه تم تهريب حوالي 34 مليار درهم من الأصول المالية المغربية الى الخارج و هو ما يناهز نسبة 4 في المئة من الناتج الداخلي الخام. و تزامن التسريب الاعلامي الذي لم تتمكن من التأكد من صدقيته و حقيقته مع قرار للحكومة بتجميد 15 مليار درهم المرصودة ضمن ميزانية السنة الجارية التي صادق عليها البرلمان المغربي و المخصصة لميزانية الاستثمار بهدف التخفيف و إحتواء العجز المالي المتفاقم لخزينة الدولة و هو ما يعكس أجواء إنعدام الثقة بين الفاعلين الاقتصاديين و مؤسسات الدولة . و إذا صحت المعلومات المنسوبة إلى المسؤول الأول لمكتب الصرف و الذي يبدو أنها مستقاة من بيانات مؤسسة مصرفية دولية متخصصة و التي تفيد أن الأمر يتعلق فقط بحصيلة الحسابات البنكية المفتوحة و لا يهم القيم العقارية فإنها ستشكل سابقة منذرة و مقلقة تعكس الى أي حد تتسارع وتيرة النزيف المالي بالمملكة و تهدد أسس إقتصاد مبني على توازنات مالية هشة تنضاف الى العديد من الأصوات التي تعالت تحت قبة البرلمان و باللجان النيابية المختصة للتنبيه الى خطورة إستمرار فرار رؤوس الأموال المغربية الى الخارج بالعملة الصعبة . و تفيد تقديرات رقمية لتقرير أصدره مكتب "النزاهة المالية العالمية" بداية السنة حول "تهريب الأموال إلى الخارج" أن المغرب يحتل الرتبة 45 من بين 143 دولة في ما يخص تهريب الأموال إلى الخارج، إذ تم حسب ذات الوثيقة المرجعية تهريب حوالى 12 مليار و832 مليون دولار أي أزيد من 109 مليارات درهم خلال العقد الأول من القرن الحالي . و تتقاطع تقديرات مكتب النزاهة مع تصور الباحث الاقتصادي و الأستاذ الجامعي الدكتور الهاشمي بن الطاهر حول ظاهرة فرار الرساميل المغربية و الذي ننشر فيما يلي حوارا أجرته معه العلم لملامسة بعض جوانب الظاهرة و دوافعها الأستاذ الباحث في علوم الاقتصاد الدكتور الهاشمي بنطاهر تهريب الاموال و هجرة الادمغة وجهان لعملة واحدة العلم : أستاذ أولا ما هي المقاربة الموضوعية للخوض في ظاهرة تهريب الأموال ؟ د. بنطاهر :الحديث عن تهريب الاموال لا يمكن الا ان يجرنا الى الحديث بشكل عام عن حرية تنقل عوامل الانتاج و السلع من دولة الى اخرى و الذي هو في الحقيقة موضوع قديم قدم الايديولوجية الليبرالية حيث كان دعاة الليبرالية يرون في ذلك تحقيقا لمصلحة كل من يدعم هذه الحرية، إلا انه في الواقع كان من الصعب الالتزام بهذا المبدأ. فحرية تنقل اليد العاملة كأحد عوامل الانتاج على سبيل المثال لم تعرف سبيلها الى التحقق الا في اطار اتفاقيات محددة بين دول تعرف نفس المستوى في النمو الاقتصادي كدول الاتحاد الاوروبي بينما توضع الحواجز بشتى انواعها في وجه اليد العاملة القادمة من الدول الأقل نموا. لم يكن هناك أي استثناء لهذه القاعدة إلا إذا تعلق الأمر باليد العاملة المؤهلة في إطار ما سمي بسياسة الهجرة الانتقائية على الطريقة الأمريكية أو الكندية و هذا ما ادى الى هجرة الأدمغة نحو الدول الغنية بدون أن تثار حول هذا الموضوع أية حملة إعلامية كما هو الحال بالنسبة لتهريب الأموال مع العلم أن ذلك يستنزف أموالا طائلة تصرفها تلك الدول في تعليم أبنائها لعشرات السنين دون ان يكون لها اثر على اقتصادياتها . العلم : طيب ما هو المناخ و الظروف المواتية لهذه الظاهرة و المشجعة على بروزها ؟ ج : فيما يخص حرية تنقل الراسميل فغالبا ما يرتبط بتوفر عدد من الشروط منها ما هو متعلق بنسبة النمو الاقتصادي و منها ما هو مرتبط بنسبة الضغط الضريبي على رؤوس الاموال و منها ما يتعلق بسيادة القانون و استقلال العدالة و هناك كذالك ما هو مرتبط بالطابع الايديولوجي للحاكمين. فإذا حاولنا التمعن فيما يجري من حديث حول تهريب الاموال في الوقت الحالي ربما يعزى ذلك بالدرجة الاولى الى سببين رئيسيين اثنين. السبب الاول فيتعلق بدون شك بالأزمة الاقتصادية التي تعرفها عدد من الدول. اما السبب الثاني فربما يرتبط بالطبيعة الايديولوجية لبعض الحكومات و السياسات الضريبية التي تتبناها او يعتقد أنها قد تلجأ إليها. فالأزمة المالية الحالية التي تضرب اقتصاديات دول امريكا و اوروبا منذ 2008 قد تدفع ان لم تكن قد دفعت بعض الحكومات الى فرض بعض التعديلات الضريبية بهدف توفير السيولة المالية و الحفاظ على معدل الاستثمار ومنها من لجأ الى رفع نسبة الضريبة على الممتلكات ( (l_impôt sur la fortuneكما هو الحال بالنسبة لفرنسا في عهد الرئيس الحالي مما دفع اصحاب الثروات الى البحث عن وجهات بديلة تهربا من الضرائب. و تقدر الكلفة الاجمالية بالنسبة للدولة الفرنسية نتيجة الافلات من الضرائب ما قدره 8 ملايير أورو حسب موقع الجريدة الالكترونية ِcontrepoint بتاريخ 15 ابريل 2013 . من هنا نستنتج ان من بين الاسباب الاولى لتهريب الاموال نجد الضغط الضريبي و هذا ما يفسر اهتمام الصحافة بموضوع تهريب الأموال هي الوقت الحالي كما أصبح متداول على نطاق واسع بين وسائل الاعلام. العلم : هل ينطبق هذا التوصيف على حالة المغرب في رأيكم ؟ ج : بالنسبة للمغرب الذي لا يتوفر نظامه الضريبي على ضريبة على الممتلكات فلن يكون مجديا تبرير تهريب الأموال الذي أضحى كذالك إشكالية مغربية بحيث يتعدى سنويا نسبة مليار و 283 مليون دولار أمريكي حسب بعض المصادر( integrity financial (global و بالتالي قد يكون السبب في ذلك متعلق بالطبيعة الايديولوجية للمكون الرئيسي للحكومة الحالية و رغبته العلنية في محاربة بما يسمى بالفساد المالي و لو انه في الواقع ليس هناك ما يدل على كون الحكومة الحالية عازمة كل العزم على محاربة الفساد من خلال استصدار التدابير العملية للحد منه. كما انه قد يكون لما سمي بالربيع العربي أثاره على تهريب الأموال من خلال تداعياته على الاستقرار السياسي و بالتالي زعزعة ثقة أصحاب رؤوس الأموال و ربما يدفعها إلى البحث عن وجهات بديلة. في الواقع إن مسالة تهريب الأموال تبقى متعلقة بعامل التنافسية الاقتصادية حيث بقدر ما كان الاقتصاد الوطني قادرا على توفير المناخ السليم في ابعاده الاقتصادية (نسبة الضرائب و كلفة الأجور و وسائل الإنتاج بصفة عامة) و السياسية (الاستقرار السياسي) و القانونية (سيادة العدل و القانون) بقدر ما يكون المستفيد الأول من الاستثمارات الاجنبية ، و بالتالي لن يكون هناك حديث عن تهريب اموال بل عن جلب الاستثمارات الخارجية . و بقدر ما تكون تنافسية الاقتصاد ضعيفة بسبب كلفة وسائل الانتاج أو بسبب المستوى العالي للضرائب أو بسبب انعدام الاستقرار السياسي أوبسبب عدم احترام القوانين و انعدام العدالة بقدر ما يساهم ذلك في التفكير في ملاذ أمنة و مستقرة لرؤوس الأموال. حيث أن رأس المال معروف بخوفه الزائد : يخشى الضرائب و يخشى ارتفاع كلفة الإنتاج و يخشى انعدام الأمن المرتبط بانعدام القوانين المنظمة أو سوء تطبيقها كما يخشى انعدام الاستقرار السياسي. و ما يجب التذكير به في هذا الصدد هو ان حركة او تنقل الاموال ما هو إلا الوجه الاخر لحرية تنقل البضائع و اليد العاملة المؤهلة. في جميع الاحوال ان الدول الغنية و ذات الاقتصاديات القوية تكون دائما هي المستفيدة من الراسميل و اليد العاملة المتوفرة في عالم لم يعد فيه مكان للحدود و الحواجز الجمركية . بينما الاقتصاديات الضعيفة تكون في غالب الاحيان ضحية تهريب الاموال و هجرة الأدمغة مما يجعلها غير قادرة على توفير الشغل و العيش لمواطنيها و هذا ما يثير تخوفات الدول السائرة في طريق النمو لما لها من حاجة ماسة لرؤوس الاموال كي تخرج من الدائرة المغلقة. (Théorie du cercle vicieux du capital de Ragner Nurks)