أُوثر أن أتحدث في هذه المقالة، عن صلاح الوديع شاعراً، عِلْماً بأن الشعر ليس بضاعته الأدبية الوحيدة المُزجاة ولا الوتر الفرْد الذي يعزف عليه، فهو يكتب الرواية والمقالة الأدبية والسياسية والترجمة... كما يبتدئ من أعماله الصادرة منذ طلائع الثمانينيات من القرن الفارط إلى الآن . - جراح الصدر العاري. - العريس. - قصيدة تازمامارت. - مازال في القلب شن يستحق الانتباه. - إلهي، أشكوهم إليك. - المرور إلى الديمقراطية / مُترجم عن كي هيرمي. - إليك، سهام بنشقرون.. لكن الشعر يبقى، كما يبتدئ من هذه الأعمال أيضا، هو هواه ومأواه. ولا غرو، فالشعر نشيد الكلام. يقول إيلوار. وهو مسكن الذات، يقول هيدجر. يبقى صلاح الوديع شاعراً في كل الأحوال، وأنّى نقل قلمه وكلمه، سواء أكتب رواية أم مقالة أم سياسة أم ترجمة، أم شخص أمامك محض إنسان وديع، يبادلك عفْو الحديث. ولربما رضع الشاعر الشعر مع لبان الأم. فأبوه شاعر وأمه شاعرة، وما حوله يعبق بشذى الشعر والأدب. كما ينضح بروح النضال والالتزام. فهو فنن من دوحة باسقة وارفة. وأول عمل أدبي طلع به صلاح الوديع على الناس، كان هو ديوانه (جراح الصدر العاري)، الصادر سنة 1985، والذي يَرصد مرحلة ساخنة من حياة الشاعر وحياة المغرب، إبان سنوات الجمر والرصاص. وتجدر الإشارة، إلى أن الديوان الأول للأب، محمد الوديع الأسفي، كان بعنوان (الجرح العنيد). فكأن الجرح والجراح، صلة رحم أخرى بين الأب والإبن، والأدب الأصيل دوما، راشح من إناء مرحلته. والشاعر صلاح الوديع مناضل قديم / جديد، أبلى في النضال بلاءً حسنا و«خشنا» أيضا. أدى ثمنه غاليا من حياته وحريته، وهو ما صوره وجلاه في أعماله الإبداعية ذات النفس الملحمي. - جراح الصدر العاري. - العريس. - مازال في القلب شيء يستحق الانتباه. - قصيدة تازمامارت. لكن في عمق صلاح المناضل، يكمن صلاح الشاعر والإنسان الوديع. ولكل امرئ شيء من اسمه، كما قالت العرب. في عمق صلاح، يكمن الشاعر الإنسان المحب للحياة والمدافع عن الحياة والمناوئ للقبح، والذي يروم حياةً جميلة وآمنة وكريمة، لكل الناس، بلا ميْز أو حيفٍ أو طبقية. وذلك بالضبط، هو وكْده وقصْده، في شعره كما في نضاله. أوثر أن أتحدث إذن عن صلاح الوديع شاعراً. كما أوثر عطْفاً أن أدع جانبا الأعمال الإبداعية الملحمية للشاعر والتي أومأت إليها منذ قليل، لأقترب من الجانب الحميمي والإنساني للشاعر، من خلال باقته الشعرية الأخيرة، العبقة والندية (لئلا تنثرها الريح)، التي ينتقل فيها بشفافية عالية وحساسية راقية، من الصوت الملحمي إلى الصوت الغنائي. من قِراع الأسنة وصليل الزنازن، إلى حفيف الروم والكلمات. ولابد من نظرة سيميائية أولية على الإخراج الشعري الجميل، لهذه المجموعة الجميلة. صدرت المجموعة سنة 2010 في طباعة أنيقة عن دار الثقافة بالدارالبيضاء. طرّز غلافه بلوحة تشكيلية دالة الفنان أحمد جاريد. وتتصدر الغلاف الأخير، صورة فوتوغرافية أنيقة للشاعر من إنجاز الفنانة زليخة، يبدو فيها بملامح باسمة طلقة، ونظرات سارحة ذاهبة إلى البعيد. ذكّرتني هذه الصورة، بلقطة شعرية في الصفحة 86 / [ أن أُحلِّق ذقني بهدوء متلذذاً طامعا في قبلة منك] ألم أقل منذ قليل، إن في عمق صلاح، يكمن الشاعر الإنسان المحب للحياة والمدافع عن الحياة؟! هذه قطرة أولى فحسب، من فيض هذا الحب. وسنستحضر في مساق قراءتنا الأولية للمجموعة، قطرات وحسوات من هذا الغيث الشعري، مصيخين ومنصتين إلى وقع رذاذه في الأسماع والنفوس، مهتدين في ذلك بوصاة الشاعر في ص 43: - [أنت يا من ستكتب الرسائل ضع بين اللهفة والحنين بعضا من أشعاري...!] في المجموعة مطولة شعرية بعنوان (قطار)، مكونة من لقطات وشذرات شعرية قصيرة، هي رصْد مرهف لبعض المشاهد والمرئيات والمفردات، ونفض شفاف لتأملات وتداعيات واستيهامات حول الحياة والأحياء، من خلال قطار الحياة. وذلك بالضبط، هو حال هذه المجموعة الشعرية. إنها قطار شعري موضوع على سكة القلب. من خلاله يذرع الشاعر آفاق الحياة والأحياء، رائيا ومتأملا، هو الذي رأى نقرأ في ص105 : - [أريد أن أعترفْ أنني شخص آخر منذ بدأنا الرحلة على قطار وضعناه معاً على سكة القلبْ وها هو يجري إلى فضاء لا نهائي تقمصني من بداية القصيدة). ولربما أمكن اعتبار المجموعة بالفعل، قصيدة واحدة مسترسلة موزعة إلى وحدات أو لقطات. أو رحلة وجدانية ووجودية عبر قطار شعري موضوع على سكة القلب. في حين، تتكون المجموعة بنائيا، من خمسة عشر نصا مُفهرسا، تتخللها أرقام وعناوين داخلية كثيرة. والنصوص الخمسة الأولى في المجموعة، تدور في فلك المطولات، لكن في جميع الأحوال، يبقى النفس القصير هو الغالب على جُمل وفِقر هذه المجموعة، بما يعني أن المجموعة، من منظور بنائي عام، قائمة على أساس اللقطة الشعرية، أو اللمحة الشعرية، أو الشذرة الشعرية، أو القصيدة القصيرة جدا، على غرار القصة القصيرة جدا. هذا القِصر الشعري، أو بالأحرى هذا التقطير الشعري في المجموعة، يقترب من شعر «الهايكو»، حيث الشعر بالفعل، كما قال الشارع العربي، لمْحٌ تكفي إشارته، وليس بالهذر طوَّلت خطبه. وهذا ما حرص عليه صلاح الوديع تماما، وفق استراتيجية شعرية مفكر فيها بلا شك، في هذه المجموعة. وفي بعض الأحيان، تبدو اللقطات الشعرية وكأنها جمل شرطية عالقة. وهذه أمثلة على ذلك. وهي لقصرها لا تُكلف عنتاً. نقرأ في ص 69 : - [ أن ينام الأطفال لأتفرغ لمعاكستك تماما كيافعيْنّ] وفي ص 71 : - [أن أستمر في الكتابة حتى أستمر في الحياة]. وفي ص 85: - [أن يعني إرسال اللحية شيئا آخر غير الموت]. وفي ص 98: - [ أن أظلَّ مخلصاً لك حتى... في غدري إياك] هذا هو صنيع صلاح الوديع في هذه الباقة الشعرية المقطوفة برهافة وحصافة وأناقة. أن ينأى بك عن الهذر والثرثرة، ويسقيك من الكلام صفْوه، وخير الكلام دائما ما قل ودل ولم يمل. وهو صنيع سهل وممتنع، لا يقدر عليه سوى الشعراء - الشعراء. شغف بالحياة، وشغف بالشعر والكلمة. ومتعة اقتناص التفاصيل الصغرى المسكوت عنها أو اللامفكر فيها. ذلك ما يسم هذه الباقة اليانعة من الأزاهير. يقع الشاعر على تفاصيل ومفردات بالغة الدقة والرهافة، ويسبر غور أحاسيس حميمية ذاتية، بلغة وامضة سلسة ومكثفة، كأنها الإشارة تنوب متاب العبارة. ولغة الشاعر هذه، ثمرة لتجربة أدبية متمرسة ممتدة في الزمان، فالشاعر مُخضرم عايش أكثر من جيل. ومايزال حب الحياة ساكنا في الأطواء. وحب الحياة هذا، هو العُمق الشعري / الدلالي في مجموعة (لَئِلا تنثرها الريح). ما قام به صلاح الوديع في هذه المجموعة، هو نوع من الاحتفاء الديونيزوسي بالحياة والمرأة والطبيعة والطفولة.... وبالذات أيضا. ما قام به، هو نوع من الفرح بالحياة والدفاع عنها ضد كل أشكال القبح والبشاعة المتفشية في هذا العالم، وما الشعر تُرى، إن لم يكن فرحا بالحياة ودفاعا عنها. نقرأ في ص 57 : [أن أقْرأَ عُمْر الأَرْضِ على جُذُوع الشجر الواقفْ وأتصور أن الذي غرسها تعمد ذلك فقط ليحدثني عن حبه للحياة]. وقد يجمع في آن واحد، بين حب الحياة وحب الكتابة. فكلاهما مكمِّل للآخر. نقرأ في ص 71 : [ألا يتوقف القطار حتى لا أتوقف عن الكتابة أن أستمر في الكتابة حتى لا يتوقف القطار أن أستمر في الكتابة حتى أستمر في الحياة]. ولا يكتمل هذا الحب الديونيزوسي للحياة والكتابة، إلا بحبِّ المرأة وحضورها. فهي سيدة الحياة، وبهجة الحياة. من النص الغزلي الرقيق (كتبت) نقرأ هذا المقطع/المقاطع كتبت أحبِّك واختفت لم تدر أن عيونها سكنت هنالك حيثُ جرح القلب والكبد اتسع هذا الفؤاد تناثرت أشلاؤه وبقيت أجمعُ من شظاياه الحصى حتى اجتمع وأتيت لاهية تحركين جماره حتى اندلع كالفاتحين دخلت حجرة خاطري وجلست آمرةً وناهيةً ومُعلنةًَ سقوط المُمتنع ص. 110 111 112 113 ولا يندُّ عن النفس، هذا النفث الغزلي الجميل كما لا يندُّ عن الأذن، هذا الترجيع الموسيقي الجميلة للقافية المسكنة (العين) وللتفعيلة الرجزية/مستفعلن/متفاعلن. يُذكرنا صنيع صلاح الوديع في هذه المجموعة، بصنيع محمود درويش في مجموعته (ورد أقل). وبخاصة في رائعته (على هذه الأرض ما يستحق الحياة). فرغم كل المحن والفتن المُحدقة بالحياة. رغم شراسة هذا العالم وشريعة غابه، إلا أن على هذه الأرض، ما يستحق الحياة. تلك هي الرسالة الشعرية الثاوية في مجموعة صلاح. لا أريد التوغل أكثر في خمائل هذه المجموعة وأفْيائها، فالشَّواهد الآنفة، فيما أرى، ناطقة بلسان الحال. تلك إذن، باقةٌ من أغاني الحياة. لمَّها وضمَّها صلاح الوديع في هذه المجموعة الشعرية (لئلا تنثرها الريح). وأكيد، أنَّه لمَّها وضمَّها، كما تلح وتضم الأشياء والعوالق النفيسة دائما، لئلا تنثرها وتذروها الريح. صلاح الوديع/لئلا تنثرها الريح. ط./2010 دار الثقافة الدارالبيضاء.