في احدى الصباحات ، و قد ترقرق الدمع في مقلتيها، صممت العروس الصبية أن تتناسى حلم رجولة تناثر على عتبة الزواج. كانت بصيلات الشعر المنتزعة من فروة رأسها، قد علمت على جسدها وشما للقهر.كان ذلك ليلة تحولت أنهار الحب بأصدافها و لآلئها إلى سراب خادع.ذات يوم بنت بيتا من أحلام، أثثته بكل ما قرأته من معاني جميلة، و رؤى وردية للعشرة و الحياة.و نصبت نفسها سيدة له، في حين كرسها واقعها الجديد جارية ترفل في سرابيل من ذل، وتوارت شخصية الزوج/الحبيب خلف أتون النار لما بكى قلبها أغنية للصبر.أهداها الصبر أولى انتصاراتها، حين قصت شعرها الطويل، عندما أصبحت جدائله ، صيدا لارتعاشات الغضب في فرائص الزوج/الحبيب. ربق التابوهات في جيدها، يمنعها من الاحتجاج و السؤال. كل ما كان يؤرقها هو البحث عن السبيل لارضائه. أشياء كثيرة استعصى عليها فهمها، كلما حاولت أن تقارن بين ما وجدته في الكتب ، و بين ما تعيشه الآن. و عندما لم تسعفها الأجوبة الشافية ، حاولت أن تبحث لها ، بين حافتي الرحى ،عن حيز للعيش.تحايلت على العتمة بالمزيد من القراءة . احترفت اقتناص ومضات الرعد ، تنسج منها أياما صالحة للعيش، وبين ومضة و أخرى كانت تعيش أياما كليالي الحروب باردة و قاسية. و حتى لا ينبت في تربة تعاستها اليأس، كانت تزرع الأمل في أركان قوقعتها/البيت. تضفي عليها من أحلامها الدفينة ، أردية مخملية من نسيج مخيلتها. تتحول القوقعة الموحشة إلى بيت حقيقي، يتوج فيه الزوج، بفضل ما تربت عليه من قيم، سيدا ، سلمت بشرعية طغيانه و استبداده. لم يجد العقل الغض بين مسوغاته ما يمنحها حق الاحتجاج. كان أشد ما يؤلمها ذلك الصراخ الصباحي دون مبرر، و عدم تجاوبها مع أفكارها فيما تراه، أنه سيزيد حياتهما المشتركة بهاء و ألقا و استقرارا. كل مبادراتها كانت تقابل برفض غير مبرر. اعتصرتها الآلام. أصبحت لا تنتظر منه ما يفرحها. غيابه رحمة ، و حضوره قهر و اذلال. اعتنقت مازوشية تعينها على إفناء ذاتها في التنظيف المفرط للبيت و مقتنياته البسيطة. تجتهد و تبدع في تنسيقه و تنميقه، لتركن بعد ذلك إلى الكتب، ملاذها الوحيد، قبل أن تصبح هي الأخرى محط غضب للزوج، حيث ،غالبا، ما كان يستهين بها قائلا : تابعي مشيك وراء تلك الكتب و سترين ، إنهم يملأون رؤوسكن بالأفكار الطوباوية التي لا تسمن و لا تغني من جوع. كلما أشرقت الفرحة في عينيها، أطلت الإدانة من عينيه ، مدججة بمخالب الحقد . ابتلعت طموحها. ونت من تزاحم اللآءات، و من فحيح سم الكلام. يزيد حديثه من آلامها. تفقد الإيمان في تجاوبه معها. يتفاقم تنافرهما، غير أن معين إيمانياتها زودها بالرغبة في تجاهل كل الغصص التي شبت في حلق عمر زواجها الصغير. تواطأت مع أيامها ، في تجاهل نيرانه التي ينفثها كلما حل بالبيت. لم يعد لها ما تحلم به سوى أن يظل بيتها/ الحلم قائما. تكدست الأيام الرمادية في حياتها، لم تفلح محاولاتها الحثيثة في محو قتامتها.الأبواب المسدودة في وجه الأهل، و الضيوف و الصداقات، اقتلعت جذور الود الندية ، و ألقت بها في وجه رياح الغضب المزدوج تجاه عصفها. غضبها بكاء و توسل و احتجاج صامت. و غضبه إعصار مدمر يدمي المشاعر. حبست الحياة بين جدران الرتابة. و كعادتها، كان لابد لها أن تجعل لأوجاعها منطقا. و هي تنبش في ثنايا ذاكرتها، على ضوء نور قراءاتها،متلمسة طريق الخلاص من الموات الذي يبتلع أيام حياتها الزوجية،يركض بها الحلم. تسللت إليها أجواء العيد. أنعش ذاكرتها التي أنهكها التفكر و التدبر. استدعت كل ما اختزنته تجربتها الفتية ، حول الاستعدادات له.تحسست سمات أجوائه في مخيلتها. قررت أن تفرش لما غيبه الفقر في بيت أهلها، بساطا للتواجد ولو في أبسط قيمة. فكرت و خططت لتوفير أوقيات لحاجيات بسيطة تتكلف هي باجتهادها و إبداعها ، كي تصنع منها ما يكفي لزرع فرحة العيد في أرجاء بيتها. انبعث في الجسد الطري نشاط و حركة . شدت مئزرها حول خصرها، لفت رأسها بمنديل محاك بخيوط نسجت من بذر الكتان. لفها صفاء ذهني، توارت له همومها. جابت غرفتي البيت الصغير، بجدرانها و أرضياتها، جليا و نفضا و تلميعا. ثم دلفت إلى المطبخ تجلي أوانيه المعدودة، وموقده الغازي، ورفوفه المحدودة المحتويات. حتى صنبور الماء كان له نصيبه من التنظيف و التلميع. أخرجت من جراب تجربتها البسيطة كل مخزونها حول شغل البيت، و أضافت عليه من ابتكار شخصيتها الوثابة للتجديد و إضفاء سمة الجمال ما ساهم في إدخال نوع من السعادة على قلبها.و انثال له في يومها عبير كالسحر، تململ له صخر الحزن الجاثم على حياتها. وصلت في حملة التنظيف هذه، إلى فناء البيت، المفضي إلى بوابته. كان البيت يوجد ضمن مركب سكني خاص بموظفي إحدى الإدارات العمومية. كل دار من دوره مكونة من طابق واحد.كان الوقت صيفا. و نظرا للوضعية الآمنة التي يعرفها المركب، كان السكان يعمدون إلى ترك أبواب منازلهم مواربة، قصد استدراج الهواء لتلطيف أجواء البيوت، و إنعاشها بنسائمه. في الحقيقة لم يكن بيتها يعرف هذا النوع من التهوية، حتى أن إحدى الجارات المسنات، قالت لها يوما في أحد لقاءاتها النادرة بها : - أصبت يا بنيتي بغلق بابك « فان الباب المحلولة تدخل السباع و الغولة». وصية فضلى ، لدي من عيناتها الشيء الكثير، تمتمت الصبية بينها و بين نفسها. فتحت باب المنزل ، ثم استدارت لنفض الغبار عن السقف و الجدارين المكونين للفناء. كان لفح لهيب الشمس على الإسفلت الخارجي، قد ألهب عقربا شاردا، فتلمس الاحتماء بفناء البيت الذي وسمه طول الإغلاق بطراوة تغري كل محرور. راكمت المكنسة نفايات البيت عند الفناء. وجدت العقرب في النفايات من قشور بصل يابس، وغبار وخيوط و أوراق ملاذا لها، غرست فيه مقدمتها، بينما تركت ذؤابتها مرتفعة تحسبا لأي خطر داهم. بكل حماس أقبلت الصبية مهرولة، بإحدى يديها كيس نيلون، انحنت بنصفها العلوي على تل االنفايات الصغير، ثم مدت إليه يدها الفارغة ، قصد نقله للكيس. شيء ما استرعى انتباهها. كان لون قشور البصل مماثلا للون قشرة العقرب، و هذا ما انتبهت إليه العروس الشابة. انتفضت في رعب. لم يسبق لها أن رأت عقربا في حياتها ، لكن معلوماتها و فطنتها أسعفاها لإدراك أن هذه القشرة ذات الذؤابة، ما هي إلا جسد عقرب متربص. صرخت صرخة مدوية ارتجت لها جدران البيت الصغير. عصف بها الذعر. تخلت عنها صلابتها. فارقها وعيها لثوان. استفاق عقلها الباطن ينقب في مدوناته عن منقذ. رجل البيت. من المفروض أن رجل البيت النائم يستيقظ الآن. لا بد أن صرختها وصله دويها. لكن الثواني مرت تستقصي النجم في ليل شتاء داكن. ملأ العين حزن ثقيل. تغلغل بالشرايين يأس أسود. انتصب وشم الصباح الأول في بيت الزوجية، وجدائل شعرها الملتفة حول قبضة الزوج/ الحبيب، تتحول مقلعا، يلقيها حجرا منبوذا فوق الرخام البارد القاسي. أطل إصرار عنيد من بين جوانحها،غيمة ندية أعادت إليها صوابها. فزعت إلى مرقد الغول ، رجت بيديها المرتعشتين الجسد الممدد في استرخاء خامل. فتح الزوج عينيه الحمراوين في تكاسل. تطاير الشرر منهما. صوتها المبحوح بالصرخة، و إشارات يديها المرتعشتين، لم يحركا فيه ساكنا. حدجها بحدقتين تتدلى منهما إدانة دامية. انكمش الجسد المرعوب على نفسه. غادرته كينونته. تلاشى آخر ما تبقى لديها من آمال. أجهزت اللحظة على آخر فلول الرجاء في وجود فعلي للزوج/الحبيب. تهاوت الأرض من تحتها. لا لم تهو ، بل تصلبت. حمرة عين الغول، و الدخان الأسود لاشتعال المشاعر، اغتالا الخوف الكامن فيها. غسلت آلامها بدموعها. تطهرت من آثام الحب/الحالم. امتشقت سيف الواجب. أحرقت سفن الأهل. انتصبت أمام بحر الآتي، تقاوم وحدتها فيه. دخلت في طقس عشق من نوع آخر. مهما صدأت المشاعر في أدراج الأيام، ستظل الأحلام ثاوية بين الضلوع . ستمشي مشدودة إلى قدرها. مثقلة الخطو ستمشي. ستتحرك في مستقر لها. لن تقوض أوتاد بيتها. ستحترف لملمة الجراح. من بين سنابك الهول، ستتكشف لها أبعاد أخرى للحياة. ستبحر في الممكن، و تنسج من الأعاصير مجاديف للإبحار فيه. حملت الصبية ووضعت بنتا من برج العقرب .عجت حياتها بوهج الحياة. أفرخ حزنها نوارس عاشقة للشمس. يواسينها . يحكين لها حكاية فتاة تدعى: « قلب بلا هم «. يبددن همومها بحفيف ربيع مقبل. أشياء كثيرة داست عليها. طمست على جراحها. وحدها كانت تؤمن أن للأيام منعطفات تتلألأ عندها الآمال . [email protected]