وقفت أمام المرآة، تتأمل ربيعها السابع عشر.و كأنها تطالع وجهها في المرآة لأول مرة. بحثت في البحيرة المعلقة أمامها، عن الطفلة التي دأبت ملاعبتها على ضفافها، فوجدتها تنسحب في خفر، متخفية وراء غلالة عمر ندي آت . كانت سمات الطفولة ما زالت لم تغادر المحيا الغض، بينما ملامح أنوثة فائرة بدأت تزحف فوق جسد ما زال يبدع أفنانه. خليط من الأحاسيس الوليدة ملأ عليها كوامنها. غمرها فيض مزيج ما بين الغبطة و الخفر و عذرية التحولات الوافدة. سافرت المقلتان المتقدتان بالحياة الطرية، عبر قسمات الصورة السابحة في نور زجاج المرآة ، لتنسحب في فضول فوق النهد النافر هو الآخر في استحياء .استمرت الحدقتان في عملية مسح الجسد، المقابل للمرآة ، غير أن فضولهما امتد. تريدان أن تستكشفا جغرافية الظهر. استدارت نصف استدارة، و لوت رأسها إلى الوراء، و الحدقتان ما زالتا تقدحان فضولا. استدارة الرأس الصعبة، حركت الضفيرة من موقعها على الظهر. اكتشاف آخر انبلج على وجه المرآة، ضفيرة، سنبلة ذهبية، حزمة ضوء، أنارت الوجود من حولها.مدت يدها إليها ، كأنها تمسكها لأول مرة. كأنها لأول مرة تدرك أن هذه الضفيرة لها، و أنها تخصها هي وحدها. أخذتها بين يديها . نقلتها من موقع إقامتها الدائم، و مدتها أمامها في حنو، مسحت فوقها بأناملها الرقيقة .و كأم تهدهد طفلها الصغير، قبل أن تضعه في فراش نومه. قاومت إعجابها الوليد بضفيرتها ،و أعادتها إلى موقعها فوق الظهر. لكنها لم تستطع من أمام المرآة حراكا.تملكتها فكرة مجنونة ، انعكس تأثيرها على محياها، استحيت من المرآة التي فضحت ما اعتراها عندما التقت بضفيرتها،و بعدما رصدت ذلك اللقاء و دونت وقائعه،ترددت خجلا ، لكن الفكرة المجنونة، جعلتها تتخلص من وطأة الاستحياء، في دقائقها الأولى ، فاستبدت بها. كانت الضفيرة المستلقية فوق ظهرها ، رغم غفوها المصطنع، تومئ لها من جانب خفي، أن احلقيها. و توحي لها أن الخطوة تستحق المجازفة. و أن هذا الأمر يخصها وحدها. و أن فعلها هذا سوف لن يضير أحدا في شيء، و أن.....و أن....و أن.... حديث جريء يجتاحها لأول مرة في حياتها.لم تستطع الانفلات من براثن منطق أحكم قبضته على فكرها. و مشروعية جمالية، لم تدع لها أي خيار غير التنفيذ. امتدت اليد في ثقة إلى الرقبة، حيث يبتدئ مرقد الضفيرة، فحولت خط امتدادها الى الأمام . سالت الضفيرة فوق النهد كشلال منهمر، بعدما كانت ممددة فوق الظهر المستكين أشرق بداخلها بريق جديد الحمولة، بينما طيف ابتسامة جيوكندية ، يغالب ولادة صارخة. وشت المرآة بحمرة خدين ، أفرخها ألق اللحظة الوردية.انتشلها من نشوتها صوت باب حجرتها الذي فتح. في الحقيقة أفزعها دخول أمها. لم تستطع أن تجزم هل طرقت أمها الباب ، قبل أن تفتحه أم لا ؟ و هل نادتها أم لا...؟ لأنها كانت في دنيا غير الدنيا .و قبل أن تسترد حضور اللحظة، كانت أمها قد التقطت الصورة من المرآة. ارتعش جسدها الطري، تحت وطأة الكامن فيها، و الذي أيقظه دخول الأم المفاجئ . على جبين الأم ارتسم رعب العالم، و في عينيها انصبت مخاوف السنين.استفاقت من صدمة الرعب، و ضفيرتها ما زالت غافية فوق النهد الربيعي. وحده ظهرها كان يملأ صفحة المرآة هذه المرة. و جدت صعوبة و عسر في البحث عن شبح ابتسامة، ترسمها فوق شفتيها المرتعشتين، تخفف بها ثقل اللحظة.حاولت إخفاء حرجها خلف قناع بلادة مصطنعة. العنف يملأ وجه الأم. تكهنت أن كل خلية في جسمها الآن تزمجر حانقة ، و أنها حيرى لا تدري كيف يمكن لها أن تفجر غضبها هذا و تبرره. لم تستطع الأم أن تصمد طويلا، تحت سيطرة الصمت، فسرعان ما امتدت يدها نحو الضفيرة، في غلظة غير معتادة. انتزعتها من فوق النهد الغافي، فتطايرت سكينته شظايا، ذرتها رياح الخوف.طوحت بالضفيرة فوق الظهر الذي كان غارقا في بروده . انتفض كان وقعها فوقه كالسوط. قاوم دبيب ألم خفيف سرى في فقراته إلى أن تلاشى،ثم ما لبث أن عاد الى استكانته. هزها هول الموقف، لم تدر كيف و لماذا تمكنت أمها، من إعادة ضفيرتها إلى وضعها فوق ظهرها. ظلت معاول فضول ساذج تنكث موروثها الأخلاقي، تحاول أن تصل إلى تفسير ما جرى، بينما أدخل الزمن اللحظة المنفلتة من ربقته، مختبر العمر. كان اقتناص الفعل الأنثوي داخل المرآة من قبل الأم، أصاب لحظة ولادته بندوب الانفعال.مرت ثواني كأنها الدهر، و الصبية تمثال شمع يوثق للحظة ذعر مثالية. اجتاحتها فكرة كانت لها طوق نجاة في لجة نهر الرعب. الكراريس... نعم الكراريس الملقاة على حافة سريرها. انقضت عليها. التقطتها. احتضنتها بقوة. ضمتها لصدرها، تستمد منها بعض القوة، حتى لا يفتضح سر ما بها من جزع.شدت الجسد الطري حتى تخشب، و تضاءلت تضاريسه، تريد من وراء ذلك ، أن يمكنها حجم الجسد المتحول ، المروق من الفتحة الضيقة، المتبقية من باب الحجرة، الذي يملأه جسم أمها المتصلب هو الآخر دون حراك. انطلقت كالسهم، وهي لا تصدق أن أمها لم تمسك بها و لم تسألها. عادت الضفيرة إلى الاستقرار في موقعها فوق الظهر، و لم تستقر هواجس الأم المذعورة .غاص الكلام على شفاه الأم ، و خيم شبح عنف يرسم خطوطه فوق وجهها. مرت عليهما أيام باردة وقاسية. فارقت الصبية طفولتها، دون أن تتمكن من وداعها. توقف الحلم تحت أجفانها، و احتضرت بين حناياها، الفرحة الجنينية. احتضن الصبية قبو العقاب الغامض. أصبحت الأم كتومة و صارمة. أظلتهما غمامة حزن بليدة. علا صوت المزمار يعوي ، و ارتفع دوي الطبل ، يعلنان دخول العرس مرحلته الأخيرة، و أن الأم كتب لها ما أرادت، و أن ابنتها ستودع صندوق العفة في أمان. أسدلت الصبية بصرها على الضفيرة المشطورة نصفين، فوق الصدر المغلول بشرائط لؤلؤية زائفة، ثم أغمضت عينيها في استسلام. لم تدر ماذا توارى في العدم، أهو الجسد؟ أم الروح التي في الجسد؟ جفت الغيمة في سماء العمر الوليد، قبل أن يستقطرها رحيقا لمباهجه. انزرعت الهواجس رعبا، على أطراف حدود الجسد ، فطوقته رياح الخوف، و ما عاد للسكون به ملاذ. صنعوا ،حوله ، خرافاتهم كما شاؤوا. أبجديات تمجد عذرية محنطة ، و عفة مغتصبة، و تبني للعنوسة أقبية بلا نور. كأن استدارة حلقة تاء التأنيث غير كافية للإمساك بكل أطراف الذات. اختصرت المصائب أنثى. و أعطي صك الكيد للأنثى. و لم تسأل الأنثى عن أناها. لكن الصبية تساءلت كيف تعمد الأنثى بالقداسة بمجرد ما تصبح أما؟ استقبل البيت العروسين في أول زيارة لهما لبيت العائلة، كان طقسا احتفاليا، غير في عين الصبية معالم الوجوه و المكان.استراحت الصبية في مجلسها،عانقت نبض الطفولة الثاوي فيه. تنسمت عبق حلم كان يصعد صافيا في الأفق.سحبت في تثاقل متعمد ، المنديل من فوقت رأسها.لمعت خيوط الشعر الذهبي تحت وهج الأضواء . استوت في مجلسها يلفها هدوء فولاذي، بينما نشوة لئيمة تتغلغل في صدرها.صوبت نحو أمها المستسلمة لسعادتها، نظرات فضولية و فاحصة. كانت تنتظر وقع حدث ما على المشهد.كانت تتحرق توقا إلى حضور لحظة ما. أخذ الكلام الأم لحظات طويلة بالنسبة للصبية، إلى أن أخذتها موجة الحديث صوب ابنتها، لتناولها نصيبها من الثرثرة المباحة لها الآن . تسمر بصر الأم. ابتلعت الصدمة بسمتها.عربد الصمت في المقل. تقاطعت النظرات لثواني، ثم أخذت كل واحدة طريقها. واصلت نظرات الأم رحلتها نحو مسقط الضفيرة. غابت الضفيرة.بينما بدأت نظرات الصبية ترصد ارتسامات محيا الأم لمصرع الضفيرة.ارتد بصر الأم محملا بالخيبة. تبدأ عملية الرجم بالنظرات تنطلق من الأم نحو ابنتها.ظلت النظرة المنشدة إلى موقع الضفيرة الفارغ، تصارع الانفعالات . صمتت الأم بقوة اللحظة، بينما انهمر سيل الكلام داخل الصبية : _ آسفة أمي ، تخلصت من الضفيرة بعدما غادرت البوابة الكبيرة، ولم أشبع بعد من مراتع رحابها. و قبل أن تكبر البوابة الصغيرة، التي قذفت فيها. و قبل أن يسيجها الصبار و العوسج ،قررت أن لا تذهب نفسي عليها سدى. سوف أفتح النوافذ و لن أبكي. ألم يقل الشاعر « ان البيت أجمل من طريق البيت؟»1 آسفة أمي من عدمي سأمشي2 سأغير مجرى الأساطير القديمة ، سأجتاز أسيجة النهد و الخصر و الضفيرة، و أعدو نحو حلمي الذي لم يكتمل. من قصيدة «مأساة النرجس و ملهاة الفضة» للشاعر محمود درويش _من نفس القصيدة