كلما طالعتني أعمال الفنان الفوتوغرافي ابن مدينة شفشاون أحمد ابن الأمين العلمي، كلما أبحرت في كيمياء لوحاته تاركا لبصري هروبه نحو ارتدادات الذات ، كأن ضوءا ناصعا يتخطَّفني بحدِّ الدهشة: ظلال ، مسافات ، شجر سامق ، شوارع وأزقة، أصابع الصباح ، عتمات تنوح في العراء ، غيمة ضائعة ، وجوه تسافر أو تأتي ، فوانيس ترسم خطوط الأقمار على وجوهها وتفاصيل أخرى... في أعماله الأخيرة شيء ما يستدعيك للوقوف أكثر من مرة على هدوئها الصاخب،تجيل النظر وتعمِّق يديك في الأفق ، لتصاب بحريق لا يوصف ، حريق بارد كالندى. فالأمكنة في أعماله تصير من لحم ودم، من طين وحضارة ، وأيضا من توجُّع ويقظة، يبعث فيها دفئا آخر وينفث في سماءاتها موسيقى لاتنام. يجوب ويجوب كمن يبحث عن ياقوتة في صحراء مستحيلة ، يطرق أبواب المدى وتلال الطريق ويسأل الزهر والمطر والنهر البعيد... إنه فنان مختلف، دائم ودائب البحث ، السؤال غزاله الشارد وحجابه المطلق. أجدني دائما أغمر حواسي بأعماله وأتيه في مرجعياتها ، موغلا في مسالك التوهج. فهو يعيد ابتعاث الأمكنة وخلقها بعين جديدة، لأن التصوير وسيلته للخروج من الرتابة ، هو انتصار على القبح واكتشاف لاينتهي. الفنان أحمد ابن الأمين العلمي ، فوتوغرافي ملحّ لكنه كتوم عن الظهور، وهو اختيار وأسلوب حياة ، يمضي في بحثه الجمالي وفي الإلحاح على فكرته ، مُشيِّدا هُوية الأمكنة ، لاخيار أمامه غير الانتصار ، محولا مفهوم الإبداع إلى ثورة مستمرة. فعدسته تنحت مساراتها وحكاياها منذ أكثر من أربعين سنة ، جلها حفر في ذكريات وأحداث ووقائع ونسيج مُتفرد في المشاهد البصرية . هو من افتتح منذ زمن بعيد ، زمن سحر الأبيض والأسود استوديو للتصوير كان بيتا لكل وجوه المدينة وتفاصيلها وجسرا لكل الفوتوغرافيين الشباب . كما لازالت خزانته الفوتوغرافية ذخيرة حية تنطوي على آلاف الصور، بل متحفا جماليا يؤرخ لذاكرة المدينة وحيواتها، كما يؤرخ لمدن وعواصم مغربية وأوروبية يتنقل بينها. غالبا ما ألتقيه في مناسبات عابرة أو في صدفة طريق ، بعيدا عن ضجيج المقاهي وأقنعتها الجارحة ، ليُسِرَّ لي بسفر جديد للبحث عن طرائق تخييلية متوثبة وصيد ثمين، جديد ونادر. فثقافة المكان عنده هي منظور أشمل للأمكنة وعدسته دائبة القدرة على التقاط اللحظات المقيمة والعابرة. هذا الفنان خجول بسليقته وهي طبيعة كل المتواضعين الكبار: صامت ، غامض ، قلق وصريح. لوحاته بصمته : تاريخ ، بشر ، جغرافيا واقتحام للمستقبل واستحضار للذاكرة ، تفتح مساحات شاسعة على الرؤيا تحاصر الزمن مثلما تحاصر الواقع ، تسائل العابر والخفي والعوالم الغامضة لتنتج إصرارا لايشيخ ، تساعدنا على اكتشاف أنفسنا من خلال اكتشاف الآخر وخيوط الفضاءات والأشياء. الصورة عنده غيم لاينتهي،هي معاناة قبل وبعد أن تكون متعة... ولمسته دائبة البحث عن معنى الحياة ومتاهات الظلال وفصول الأيام الآفلة والقادمة.