يعرض لأول مرة بالمغرب بمدينة مكناس أب الهندسة الثقافية بفرنسا كلود مولار، الذي جمع في اهتماماته الثقافية بين التأليف الجمالي والتدبير الثقافي والتصوير الفوتوغرافي، حيث وظف معارفه النظرية التي ضمنها في مؤلفاته المرجعية (الهندسية الثقافية، السلطة الخامسة، المهنة: مهندس ثقافي) في إعداد وإنجاز مجموعة من الأحداث الفنية داخل فرنسا وخارجها، بعد الاشتغال على «البورتريهات» الطبيعية لمدينة بومبيي الرومانية بجنوب إيطاليا، مدينة غطاها بركان «فيزون» إلى جانب مدينة «هيركولانوم» 49 سنة قبل الميلاد. وخلفت أحداث هذا البركان المأساوية مقتل ما يناهز 156 ألف نسمة. في هذا السياق يقول كلود مولار: «لا يمكن زيارة أنقاض مآثر بومبيي بدون أن تتأثر عميقا بهذه المأساة الرهيبة». يرحل بنا المتخيل نحو المنحوتات والرسومات والأثاث والوحدات المعمارية بكل أشكالها، وواقعية الأجساد المرئية بفضل التقنية البارعة في صياغتها تحت الرماد: عدد من الرؤى المتعلقة بالقيامة التي تبرز هول مملكة الأموات. إنها أيضا متحف في العراء. أصبح سندا واقعيا لظلال الضحايا الذين عاشوا هناك وسكنوا الأمكنة. إن ذاكرة هذه المدينة الرومانية التي أوحت لكلود مولار بفكرة البحث في الأصول من خلال سبك تصور جديد في العملية الإبداعية، ألا وهو «أصول الكائنات» حيث يحاول هذا المصور الفتوغرافي التشكيلي التقاط كل المعالم المشهدية التي تحيل على الوجه الإنساني في ترابط كبير بين القوى الطبيعية والقوى الثقافية، معتبرا وصول كائنات طبيعية «بومبيي» بكل أبعادها الأرضية أعمالا فنية وثقافية للمدينة ولحضارتها، مما جعل منها قبرا واسعا ومعهدا إثنوغرافيا يؤرخ لهذه الحقبة الزمنية الغابرة. من هنا أتت فكرة إعادة اكتشاف وتكريم الملامح البارزة لهذه الوجوه الآدمية التي تشاكلت من الناحية الرمزية والتناظرية مع الوجوه العملاقة للبركان. إن هذه التجربة الجديدة في مجال الأنثروبولوجيا الفنية تقدم الوجه الآخر للمدن التاريخية من خلال ركام الوجوه التي تسكن كائناتها وأشياءها والتي حاول علم الحفريات تقصي آثارها وأشكالها وألوانها، فمن خلال ظلالها يتم رصد نورها عبر الفن الفوتوغرافي، ويتم إحياؤها من جديد من خلال عرضها على أنظار الجمهور لكي تحيا في كل لحظة. يصرح كلود مولار في هذا الشأن: «إن الوجه هو مهد الصورة وأصلها الأولي، فهو الذي يشكل العلامة الأيقونية للكائنات، ويحدد بالتالي هويتها الإتنوغرافية، كما يمثل سر مقاومتها الرمزية للموت وللمحو والنسيان، فالمكان كمتحف للذاكرة الجماعية يحيا من خلال وجوهه الممتدة والحاضرة في كل أرجائه. هذا الاستغلال الجمالي والمعرفي علىهذا الوجه هو الذي دفعني إلى التفكير في تأسيس مبحث فني جديد يرصد أصول كائنات الرسم التي تنضاف إلى بورتريهات الرسوم الجدارية، والرسومات الطبيعية الخامة، وكأننا بصدد وجوه ما بعد الموت التي تقاوم قدرتها المأساوية لتشغل حيزا داخل متحف المتخيل «لأندري مالو». حيث الظل هو سيد الأمكنة ومؤلف الواقع التشكيلي والتراثي والتاريخي، الاجتماعي أيضا». امتدادا لهذه التجربة الفنية والأنطروبولوجية، يعرض كلود شارل مولار وجوهه الفوتوغرافية التي وسمهاب: «وجوه ما قبل الآلهة». بكل من المركز الثقافي الفرنسي وقاعة باب منصور. وساحة لهديم بمكناس. يتعلق الأمر بأعمال شكلتها العناصر الطبيعية على نحو تلقائي وبدون أي تدخل لفعل الإنسان. فإذا كان الفنان فرانسيس بيكين يؤكد أن الفن هو الإنسان مضافا إلى الطبيعة. فإن كلود مولار ينتصر لمقولة «الإنسان مضافا إلى الطبيعة. مدشنا بذلك فصلا جديدا في تاريخ النظر والإدراك البصري. ويقول في هذا الصدد: «الروح الأساسية للكائن الإنساني هي روح العين، فوحدها العين قادرة على التشكل من الوجه للقبض على القوى الكونية والأجرومية للمقدس، هذا الانبهار بتاريخ العين الأولى هوما أحاول الكشف عنه في أصول الكائنات المقنعة كأنها أطياف أو مومياءات تحكي عن استيهاماتنا وتاريخنا إنها وجوه محايثة وعمودية تشتغل على التعدد الثقافي وتنوع العناصر الطبيعية الأربعة (الماء، الهواء، التراب، النار)، لتعيد تحيين الصور الأولى ذات المنزع الطبيعي الذي يتجاوز كل الحدود الجغرافية والزمانية ويصالح بين الثنائيات الضدية، يصبح اللامرئي مرئيا والمجرد محسوسا، والظل نورا». لقد حققت الأعمال المعروضة لكلود مولار رهانها التفاعلي مع عامة الناس بمكناس، كما أثارت صدمة بصرية على مستوى تلقيها، إذ لأول مرة يتم عرض وجوه أركيولوجية خارجة عن المألوف والمعتاد تسافر بالذاكرة إلى تخوم العهود القديمة، وتذكر المنشغلين بالجمال البصري بمقولة الفيلسوف جيل دولوز: نسمي الوجه علامة اللا تشكل والتحول وتدرج الأشكال». كما أن الوجوه الكريستالية تحيل على مبدأ التبلور وتقدم إشكالا وتنويعات لا نهائية تمثل شفافية أصول الكائنات في صيرورتها ونورها، حيث في الزجاج يصبح الظل حافة كما هو الشأن في لعبة المجوهرات للفنان فيرميل. ينم معرض كلود مولار عن ولعه بحالات المادة، حيث يجد مساحة جيو شعرية، يصبح من خلالها وعبرها الباطن ظاهرا والخارج داخلا وكأننا بصدد الإنعكاسات، فكل الأعمال الفوتوغرافية نشيد للبدايات الأولى وللإرهاصات الجينية للكائنات والأشياء. حول هذا البعد الثقافي، يوضح كلود مولار:«إن صوري الفوتوغرافية بمثابة توثيق بصري لإدراكي لروح الأمكنة التي ترددت على زيارتها، وذلك بناء على منطق النظرة الكبيرة بتعبير الشاعر ريكليه، إذ يصبح العابر أزليا. فأنا أقدم خرائطية للأنواع الطبيعية الحاضرة أو الغابرة، لأصوغ رسالة كاملة: حكمة الوجود في هشاشته وفي عوالمه المتعددة». من بين المصادر الفنية التي ألهمت مخيلة الفنان كلود مولار جمالية القناع بكل ما تحمله من معاني ودلالات وجودية، والقناع من منظوره هو بطاقة الكائن وعلامته المميزة التي تدل على نزعة المحاكاة لدى الإنسان والتي تستدرج المشاهدين لاكتشاف ما وراء القناع الذي شكل دائما لازمة للموت والحياة معا. كل هذه العوالم المشهدية ألهمت الفنان كلود مولار الذي لا يخفي تأثره بأطروحة كلود ليفي ستراوس، التي تؤكد الانفتاح على الآخر، وتعرف الفن بكونه مسألة إضافية مرتبطة بالذات وبالآخر، وهو عالم منذور للتحولات والإبدالات، فبعد الموت تصبح الأجساد مسكونة بوجوه تدل على آثارها. عن هذا المعرض يقول كلود مولار:» أنا سعيد جدا بأن أعرض بالمغرب الذي أعتبره من البلدان النموذجية من حيث الانفتاح والحوار والتبادل، وقد سرني كثيرا مدى التجاوب الكبير الذي خلفته أعمالي المعروضة بالساحة العمومية، فقد تحقق مبدأ التواصل مع الوجوه الغريبة التي رصدتها من الناحية الفتوغرافية والتي أعطتني فكرة الاشتغال على الأصول المرتبطة بالموقع الأثري لمدينة وليلي، حيث تسكن آلاف الوجوه كل معالم هذا الفضاء الروماني، وتروي أزمنته الغابرة». للإشارة فكلود مولار يعتبر من المثقفين البارزين بفرنسا الذين يرجع لهم الفضل في تفعيل مفهوم الهندسة الثقافية وتطبيقه على مستوى تنظيم عدد وازن من الأحداث الثقافية، بالإضافة إلى إنشاء مجموعة من المرافق الثقافية وفي مقدمتها مركز جورج بامبيدو، وقد تقلد عدة مناصب هامة من بينها:الكاتب العام للمعهد الوطني للسمعي البصري .