أعتبر الكتابة الشعرية توثيقا مفتوحا للتجليات العابرة للفكر والوجدان لحظة اندماج الحواس في بعضها كي تقوى على التقاط ما لا يلتقط ساعة الهدنة مع الجسد والنفس.. لذلك لا أفكر في الشكل الذي سيأتي عبره ذلك التوثيق، لأن اللحظة الحاسمة تكون أقوى من التفكير في الإواليات. وهذه الحالة هي أشبه ما يكون عليه الأمر في ساعة الولادة الطبيعية، عندما لا تعرف الأم ملامح وليدها ولكنها تدرك بالحدس حجمه وتحس بأنه قطعة منها. وهذا لا يمنع بالطبع الخلو إليه للنظر في ما ينقصه والتفرغ لرعايته بما يحتاجه من غذاء وتطبيب.. كذلك الأمر بالنسبة للنص الشعري الخارج لتوّه من أتون العملية الإبداعية؛ فالمكونات تولد متزامنة ومندمغة بكيمياء العلاقات، ولكنها تحتاج إلى ترميم هنا وحذف هناك وزيادة هنالك ما دام النص ما زال في طور النقاهة. هكذا يسعى التجنيس إلى النص وليس العكس صحيحا. وهذا ما يجعل النص الشعري يقترح لغته الخاصة دونما اكتراث بالشروط الفنية الجاهزة. فالإيقاع فيه رهين بانثيال الكلام والدفقات الشعورية وفق منطق التداعي: قد يكون مفعّلا وقد يكون مرسلا وقد يكونهما معا. ثم إن إيقاع النص يوجد طرفه الثاني عند القارئ؛ فالنص والقارئ يقترحان معا نموذجا إيقاعيا قد لا يرضي قارئا ثانيا وهكذا دواليك، وقس على هذا ما تبقى من المكونات النصية؛ أما الرؤية الشعرية للنص فلا أحد يدعي القبض على حدودها لا الشاعر ولا القارئ إلا في سياق الاحتكام للخلفية المعرفية التي تقابل بعد عملية تنظيم محكم وممنهج بالبنيات المشعة لأجزاء النص والدلالات التي تظهر وتختفي في كليته. . ولماذا هذا كله ؟ لأن الفكر والوجدان في اتحادهما المطلق قد يصلان، إذا تحقق الشرط الإبداعي، إلى الكشف عن جزء من الحقيقة كشفا لا يطوله العلم مهما حشد من وسائل وسوائل إلى مختبره. فالنص الشعري هو تلك اللحظة الخاطفة التي تقرر كل شيء؛ أعني اللحظة التي لن تأتي إلا بعد حين قد يقصر أو يطول تبعا لاختمار التجربة ونضج الشروط.. إن في النص شيئا آخر غير المتعة ومتاهة حل الألغاز وتضييق مسافات الانزياح، فقد كادت الأساطير القديمة أن تحل لغز الوجود، وربما صدّق أصحابها أنها حلّته بالفعل وماتوا مقتنعين بفتحهم، وعلينا نحن أن نبدأ من النقطة التي انتهوا إليها، ولكن في سياقنا المعرفي الخاص وفي ظل شرطنا العلمي الجديد. من هنا لا نعجب عندما نرى زمننا المتبجح بفتوحاته التكنولوجية يؤمن بالتواجد المتزامن للشعر وللعلم. فنسبية العلم متناهية، أما مطلقية الشعر فمفتوحة على اللامتناهي. قد يموت الشاعر ولكنه يترك في نصوصه بذورا تموزية واعدة بما لا يموت. هذه هي المعادلة التي أبهجت ممجدي الموت من الشعراء.. وهذا هو القبس الضوئي الذي هربته اللغة من زمن الآلهة. الضوء الذي قد يعمي إذا لم يتحصن الناظر بما يكفي من وسائل النظر إلى شيء شبيه بالكسوف. ففي نقطة التقاء الكون اللغوي بالرؤية الكونية تتجلى حقيقة الكتابة الشعرية وما تكشف عنه من حقائق.. فالقدرة على التذويب والصهر وإخراج أشكال فاتنة بلا حاجة إلى بوتقات أو قوالب جاهزة هي مهمة الشاعر المدجج بنيران التجربة؛ والشكل حينئذ رهين بحركة صاحبه، وإيقاعه متحقق من إيقاع هذه الحركة التي تتجاوز حساب العروض، وبذلك يغدو (الميكانوغراف) الراصد للذبذبات الصوتية أشبه ما يكون بآلة حاسبة معطوبة، تتراقص أرقامها ذات الشمال وذات اليمين وفي الأخير يقرر مكبرها: (إن في الأمر خطأ !). لحن عسكري لأغنية عطفية .. قد يبدو العنوان غريبا وصادما للمتلقي الذي له الحق في أن يتساءل: وما علاقة العسكر بالعواطف؟ هل ثمة مبرر موضوعي يؤطر تجربة النصوص التي يضمها الديوان؟ لعبة العناوين خادعة وماكرة في معظم الأعمال الإبداعية، ولكنها في الآن ذاته تُبقي على خيوط رفيعة تربطها بالعمل موضوع التسمية.. خيوط لا تحتكم في العادة إلى المبرر الدلالي الذي يجعلها مباشرة وناتئة.. إذ ما جدوى انتقاء عنوان لا يثير فضول القارئ ولا يستثير محفزات القراءة.. فالعنوان علامة سيميائية عامة ينبغي أن يختزل ويكثف مسماه، وعليه في الوقت نفسه أن يكون شاملا ومدمجا للعمل برمته.. صحيح أن عنوان هذا الديوان جزئي وخاص باعتباره عنوانا لقصيدة وردت في الديوان، إلا أنه يأخذ مشروعية التسمية من الأجواء العامة التي تفيض بها نصوص هذا العمل الشعري بوجه عام.. كيف خطرت عبارة العنوان؟ عادة ما أكتب نصوصي أو أراجعها، وأنا أستمع إلى الموسيقى.. وهذا طقس محبب إليّ، إذ تعمل الأنغام على توجيهي إلى تخوم استلهامية، تضعف اللحظة الواقعية، وتدخلني في أجواء حلمية.. وحدث أن كنت أستمع إلى مقطوعة كان العزف فيها سمفونيا، وارتفعت إيقاعاتها فجأة بشكل يذكر بالموسيقى العسكرية، وكنت ? لحظتئذ ? أبحث عن عنوان لقصيدتي.. وبعد قليل انطلق صوت المغنية شجيا حزينا، يتغنى بكلام الحب والمعاناة.. فأحببت ذلك التنافر بين العزف الصاخب وبين كلمات الأغنية التي كانت أساسا عن الحب..فجاءت عبارة العنوان إلى الذهن كلمعة ضوء: لحن عسكري لأغنية عاطفية.. فأحببت العبارة واخترتها تسمية مشروعة لعملي الإبداعي. نصوص هذا الديوان قديمة وجديدة: قديمة لأن معظمها سبق نشره، واطلع عليها القارئ المغربي المهتم بالشعر في ملاحق ثقافية وفي مجلات. وجديدة: لأن الديوان وجه بالأساس إلى القارئ العربي بالمشرق، والذي لا يعرف إلا القليل عن الشعر المغربي، واخترت دار نشر لبنانية لتكون واسطة بين نصوصي وبين هذا القارئ. وهي دار النهضة العربية البيروتية التي يرجع إليها الفضل في نشر مجموعة من الأعمال الشعرية المغربية، بغيرة فنية من صاحبة هذه الدار، وهي الناشرة والروائية لينة كريدية، التي يسعدني ? بهذه المناسبة ? أن أتقدم إليها بعبارات الشكر والامتنان، لجرأتها على قبول دخول مغامرة نشر الشعر في زمن تجاري يستبعد من مشروعاته إصدار الأعمال الشعرية التي لا يقبل عليها إلا المتخصصون. ماذا تقول نصوص «لحن عسكري لأغنية عاطفية» لقارئها؟ يقول الشاعر عبد الرحيم الخصار من مقال له عن الديوان نشر بجريدة السفير اللبنانية بتاريخ 19 يوليوز 2011: « يقف صاحب »لحن عسكري لأغنية عاطفية« أعزل أمام الخراب الذي يتنامى حوله، تبدو له الأرض برمتها كما لو أنها ساحة حرب، تجنّد فيها الجميع للعنف، بينما يبقى هو الوحيد الذي لم يتأهب لهذه الأهوال، وبالرغم من كل شيء فهو يعلن أنه غير خائف مما سيأتي». ويقول الناقد اللبناني جهاد الترك في مقال له عن هذا الديوان نشر في جريدة المستقبل اللبنانية بتاريخ 16 مارس 2011: « يكاد لا يخلو نص في الكتاب من النزوع الحقيقي إلى تجاوز المفردة الواحدة والمشهد الواحد والصورة الواحدة إلى احتمالات تتراءى له في أفق ضبابي كثيف. ومع ذلك، يدنو المساوي من هذا الأفق الغامض بما يستحوذ عليه من تقنيات يمكن الاعتداد بها في تكوين الصورة الشعرية». أما صاحب الديوان فيقول: إن نصوص الديوان تقول لقارئها ما يريد بحسب حاجته، وحسب كفاياته في التواصل الفني والجمالي.. فبقدر إيمانه بالشعر، وبقدر أدواته في فك شفرات الخطاب الشعري يكون له ما يريد.. لأن العبرة هنا بالكيف لا بالمقول. المقول كثير وقليل، واضح وغامض. والقارئ الحاذق هو الذي يعيد صياغة الشعر من جديد: يفككه ويعيد تركيبه وفق السنن القائم بينه وبين الشاعر.. والسنن موجود في كيمياء الصياغة، لعل التكثيف والرمز والتناص والمرجع مفاهيم دالة عليها، إن حباً أو موتاً أو أملاً أو قيمةً متسامية. الموضوع الجاهز تخلى عنه الوصف والسرد وجافاه الإنشاء والخبر. الموضوع يتشظى بتشظي اللحظة الشعرية، وعلو درجة الإبداع بعلو مزاج الكتابة عندما يستسلم الشاعر لدوخة ممتعة لها الصحو القليل والخيال الكثير.. صحو يبقي فقط على منطق التوالد اللغوي، ويقي الوقوع في أخطائه.. صحو يمسك بالخيوط الرفيعة للانكسارات والانتصارات والاستشرافات، وخيال يرفع حرارة الوقوع في الأخطاء المعجمية والتركيبية والإيقاعية... (ألم يُسَوِّ جان كوهين بين الشعر والخطأ)؟ أما التفاوت الإبداعي فيقترن بقوة الحساسية؛ لأنها هي القادرة على تزويج الصحو القليل للخيال الكثير. كل الشعراء يحبون الخير والحق والجمال، وقليل منهم يزكي هذا الحب. لأن تزكيته تكون باجتراح المعادلة الكيميائية التي هي منهج في الإبداع.. هذا هو الشعور الذي كان يستبد بي وأنا أقبل على كتابة نصوص هذا الديوان في سياقات زمنية وحيوية مختلفة، فأرجو أن أكون من الخطائين بالمفهوم الذي قال به جان كوهين !! * نص الكلمة التي ألقها الشاعر في حفل توقيع ديوانه (لحن عسكري لأغنية عاطفية) ضمن فعاليات المعرض الجهوي للكتاب الذي نظمته المديرية الجهوية للثقافة بفاس، يوم 28 دجنبر 2011.