في سياق تتبعي كغيري من هواة متابعة ما تقدمه بعض الفضائيات العربية من برامج تتناول بعض القضايا التي تهم الإنسان العربي أو القضايا الإنسانية بصفة عامة ، استمعت وشاهدت بإمعان الحلقة الأولى من شهادته على العصر التي شرع في تقديمها الأستاذ عبد الهادي بوطالب والتي كنت أظن أنها ستكون غنية في مضمونها وشكلها، نظرا للصورة التي كونتها لنفسي عن الأستاذ بوطالب وأنا أتتبع في منتصف الخمسينات عموده اليومي في جريدة الرأي لعام (هذه سبيلي) ، وهي مقالات تمتاز بالنسبة لي ولبعض الأصدقاء في تلك المرحلة بالمسحة الأدبية واختيار الكلمات والجمل بدقة وعناية ، وهو ما كان يستهوينا أكثر نظرا لأن المواقف السياسية التي كان يعبر عنها هي مواقف حزب الشورى والاستقلال ومواقفنا نحن كانت الالتزام بمواقف حزب الاستقلال. ومع ذلك فإن الرأي العام ومقالات (هذه سبيلي) حاضرة يوميا بيننا، والذي أريد تسجيله هنا هو إنني شخصيا ليس لي موقف من شخص الأستاذ بوطالب إلا الموقف الطبيعي الذي يحصل بين المختلفين سياسيا والاختلاف من طبيعة الحال لا يفسد للود قضية ، وان كان هذا الموقف تغير قليلا عندما بدأ الأستاذ بوطالب يغير مواقفه السياسية وانتماءاته الحزبية حسب الظروف والأحوال، وأعود إلى موضوع هذه السطور وهو ما يعني حزب الاستقلال في شهادة الأستاذ بوطالب على العصر. ان المتتبع لما أفضى به الأستاذ أبو طالب يدرك أنه لا يزال في نفسه شيء من حزب الاستقلال وان هذا الشيء لم يستطيع التحرر منه رغم طول هذه السنوات كلها فهو لا تتاح له فرصة للنيل من الغريم القديم الذي كان حتى يستغلها للتعبير عن هذا الذي لا يزال في نفسه، ورغم ان الأستاذ في شهادته التي نُشرت أخبر ( لجنة الإنصاف والمصالحة) انه لا يحمل في نفسه حقدا لحزب الاستقلال وهو شيء يحمد له إلا أن الكلام الذي يند مرة تلو المرة يدل على وجود بقية من الحنين إلى ذلك العهد الذي كانت فيه الخصومات متأججة وكانت المواقف متباينة. ففي شهادته الأخيرة "الحلقة الأولى" يصر على مواقف معينة من حزب الاستقلال في قضايا يعرف جميع من له إلمام بتاريخ المغرب في المرحلة التي يتحدث عنها خلفياتها وحقائقها ولا داعي للعودة إليها ولكن أريد فقط أن أشير إلى أمر واحد أو ملاحظة واحدة من جملة الملاحظات التي سجلتها في ذاكرتي على هذه الحلقة وهذه الملاحظة تتعلق بحوادث الريف التي ذكر الأستاذ ان حزب الاستقلال قمعها وله ضلع فيها لأن حزب الاستقلال حسب تعبيره عندما يحكم لا يريد أن يتظاهرأحد. ان حوادث الريف عام 1959 كثر حولها الكلام واستغلت أبشع استغلال في مهاجمة حزب الاستقلال الذي لم يكن له أي دور فيها ، فعندما بدأت مظاهر هذه الأحداث تلوح في الأفق خرج حزب الاستقلال من الحكومة ، وقد اعتبر الأستاذ هذا الخروج تصحيحا للوضع من طرف محمد الخامس، وهذا غير صحيح فاستقالة حكومة الحاج بلافريج رحمه الله يرجع السبب الأساس فيها إلى الخلافات الداخلية في الحزب والتي أدت إلى استقالة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد وتلتها استقالة رئيس الحكومة المرحوم بلافريج بعد ذلك، والكل يعلم ان هذه المرحلة كان المستهدف بالعنف هم ميسروا حزب الاستقلال وبالرجوع الى صحافة ذلك العهد نلاحظ ما يتعرض له الحزب ومناضلوه من عنف ومضايقات عبر الزعيم علال عن هذه الحالة في مقال افتتاحي له بجريدة صحراء المغرب بعنوان (ليس في قوس الصبر منزع) وتصحيحا للمعلومة الواردة في الشهادة فإن الذي تم قمع أهل الريف أثناء تحمله المسؤولية في سنة 1959م هي حكومة حزب يتولى المسؤولية في قيادته الأستاذ عبد الهادي بوطالب كما هو معروف تاريخيا . ولابد من الإشارة هنا أيضا إلى تصحيح آخر وهو ان الأستاذ عبد الهادي بوطالب الذي لم يترك فرصة الا وتغنى فيها بالشورى والديمقراطية والتعددية أعلن في مؤتمر حزبه الجديد في شتنبر 1959 مع أصدقائه في قيادة هذا الحزب انه لا حزبية بعد اليوم بمعنى ان الأستاذ بوطالب كان من بين من أعلن لأول مرة في المغرب تأسيس الحزب الوحيد وإلغاء بقية الأحزاب، وفي ظل حكم هذا الحزب الوحيد تم قمع الريف والريفيين وهو أمر لم يبادر الأستاذ إلى تصحيح موقفه منه بالانسحاب من الحزب أو التنديد بالحكومة التي كان يجلس مع قادتها في قيادة حزبه الجديد. اما حزب الاستقلال فإن الذي يعرفه الجميع هو أن الترسانة القانونية في موضوع الحريات العامة في المغرب لا تزال مذيلة بتوقيع أمينه العام الأسبق الحاج أحمد بلافريج رحمه الله ولاشك أن الأستاذ بوطالب يذكر هذا جيدا. ومع هذا وذاك فإنني أتمنى ان تكون الحلقات المقبلة من هذه الشهادة مساهمة ايجابية في بلورة ما خفي من تاريخ المغرب في الحقبة التي تتناولها الشهادة.