تعرضت النخب الوطنية المتنورة في العالم عبر التاريخ لأصناف متعددة من الأحقاد والتصفيات والملاحقات، وتعرض بعضها لأنواع الإغراءات والضغوط، أو العقوبات، بينما لم يستعص البعض الآخر على التطويع وكان في خدمة الأهداف والأعتاب متلائما مع الأوضاع أو متماهيا مع المفاسد أو مائلا مع الرياح حيث تميل. ولم تخرج النخب العربية وضمنها المغربية عن منطق التاريخ. وقد استهدفت النخب في العقود الأخيرة من طرف الأنظمة السائدة الوطنية والدولية بمخططات، ترمي إلى تهميشها وإحكام الخناق عليها وتمييع تمثيليتها توصلا لإخضاعها وتدجينها. واستطاعت الجهات الحاملة لهذا المشروع السيطرة على فئة معينة واستعمالها. غير أن تأبي فئة أخرى أو تعذر الوصول إليها، سيما بعد انبثاق مرحلة الانفتاح والتوافق، فرض اللجوء إلى مخطط صيغ في شكل تحفيزات مختلفة همت نوعيات متخصصة. بعض هذه التحفيزات أخذت شكل تمويلات مباشرة ومواقع وامتيازات. وبعضها أخذ أشكالا غير مباشرة، فقد تمت تعبئة الفاعلين حسب ما يمكن أن يقدمه كل منهم. سبق ذلك دراسات فردية ووضع بطاقات شخصية مدققة حول مؤهلات واهتمامات وسيكولوجية المستهدفين لإيجاد المداخل الممكنة للتعامل، مع إبعاد الكائنات غير المرغوب فيها من دائرة الضوء، بل ربما حتى إزاحتها من المجال بشكل من الأشكال، فقد كان ضروريا لكي تنجح المعزوفة أن ينسجم العزف وتتجانس الأصوات. برنامج عمالة النخب الوطنية للخارج معروف كركيزة محورية في مشروع النظام العالمي الجديد. فقد أعلن رسميا في سياسات عدد من الدول الكبرى على الأقل بعد 11 شتنبر اعتماد مخطط واسع لتجنيد مخبرين ومتعاونين في البلاد المستهدفة ومنها البلاد العربية والإسلامية، مع التركيز على الفاعلين الميدانيين، وعلى الفعاليات القائمة على تأطير المواطنين والتأثير في الرأي العام أو المؤهلة لذلك، عبر عملية انتقاء دقيقة، ومن ثم تكوين شبكات متعددة المهام والوظائف، تشمل مختلف الأصناف، ثم إرساء تنسيقيات للتعاون فيما بينها. كما وضعت استراتيجيات لإنجاح هذا البرنامج. ورصدت ميزانيات هامة لتمويل المجندين، ترفع كل سنة لمواجهة متطلبات هذه الشبكات التي تضطلع ببرامج ومشاريع واضحة ومخططة سلفا، تقوم عليها الجهات الممولة وتتعهدها وتضبط مساراتها وتقوم نتائجها بشكل دقيق، وتراجع كل الانزياحات المحتملة، وتتابعها عن قرب بالدعم والمساعدة والمساندة والحماية والمراقبة والتوجيه والتأطير والتكوين ورفع القدرات، وتطهير المشروع ونفضه في أية لحظة من العناصر قليلة الولاء أو المردودية. ويخضع المستهدفون للخدمة لاختبارات قبلية، وعمليات انتقاء لاختيار المؤهلين فكريا اقتصاديا اجتماعيا للقيام بالمهمات المطلوبة. ويستفيدون من تكوينات مسبقة لتأهيلهم للقيام بالوظائف الموكولة إليهم. كما يستفيدون من تحفيزات مختلفة، ممثلة في التلميع والتسويق الإعلامي، ومنح جوائز دولية، والاستمتاع بأسفار ولقاءات واستضافات وزيارات، وغير ذلك من التحفيزات التي تنخرط في نفس الآن في إطار الترويج للمشروع الرئيسي، والتعبئة الشاملة الوطنية والدولية للإقناع به. شمل هذا البرنامج الواسع من التكوينات والتحفيزات شخصيات وهيئات مدنية سياسية حزبية إعلامية ثقافية جامعية وغيرها. وبالطبع فإن برامج كثيرة تعتبر جزءا من هذا المشروع، تسجل على أنها مساعدات ودعما للتنمية الوطنية والمحلية، يتسلمها الموكلون للقيام بهذا النوع من الخدمات. بل قد تدخل في إطار البرامج الرسمية التي تلتزم بها الدولة والاتفاقيات التي تنفذها. يمكن القول باستثناء شرفاء الوطن العصيين، أنه تم استصفاء المجال الواسع في الحياة العامة لمن يسمون بنشطاء أو فعاليات تمثلوا في نوعية من الكائنات الانتهازية المتهافتة، التي تملك كفاءة عالية في المناورة والتغطية على سلوكياتها بالتخريجات الملائمة المتماهية مع النسق المطلوب. من ثم يمكن ملاحظة ما برز في المجال العمومي، السياسي الاقتصادي الاجتماعي الإعلامي الثقافي العلمي المعرفي، من نشطاء وأنشطة وخطابات وتسابقات وطفح على الواجهات وقفز وتسلق مما يعكس نوعية النخب الجديدة التي تتصدر مشاهد العصر فتمتص مصداقية المصطلح بوجودها مدسوسة في صفوف النخب والكفاءات والأطر المعول عليها لتصحيح مسارات الأشياء فإذا هي معنية بتصحيح مسارها الشخصي وبمهام ومشاريع أخرى قذرة لا تمت بصلة للمهمة النبيلة للنخب الشريفة. الغريب أن عددا من الفعاليات التي تجتذب المواطنين بخطاباتها الحماسية الوطنية تجدها في الميدان تترجم حماسها لفائدة مشاريع خلفية ونيل مكاسب شخصية تتهافت لتحصيلها بكل السبل غير الأخلاقية. هذه الظاهرة أصبحت تواجهك بطابعها المحير، وتجعلك أمام نخب فاقدة للقيم رديئة ومدجنة يصاب المرء بسببها بالإحباط في العملية الإصلاحية وإمكانية تحققها. لقد أصيبت نخبنا المعاصرة بقدر لا يصدق من السقوط الأخلاقي والتلون وفساد التربية، ولم تعد معنية بهموم المواطن كما هي معنية بنوازع التموقع والهيمنة والفساد وتحصيل المنافع وعرض نفسها وخدماتها لفائدة من يدفع أو يضمن مصلحة أو مكانة أو موقعا، ما يجعلها قابلة للتلون حسب متغيرات المرجع. المحزن أنه بعد مقاومة طويلة من طرف البنيات الوطنية لعمليات ومخططات الاختراق بهذه الأصناف الهجينة من العناصر والأفكار والقيم الفاسدة فإنها لم تلبث أن وقعت في فخاخها وأحابيلها. بل أصبحت تخطب ودها وتوسع لها وتقع تحت رحمتها لدرجة التورط معها في مستنقعات الفساد والانحراف والانتهازية، ما حولها إلى بنيات طاردة للمناضلين الأحرار والوطنيين الشرفاء، واستصفاها لكائنات متوحشة مفترسة وفاسدة، وانتهى بهذه البنيات المفترض فيها أن تكون طليعة وظهر الوطن والمواطن إلى حالة من العجز والترهل، وجعلها فاقدة لأية مصداقية أو احترام. هناك أزمة بنيوية في جهازي المجتمع والسلطة.