تقتضي الأعراف أن يلتزم المسؤول وحتى الموظف والإطار في المؤسسة الخاصة بشيء من التحفظ إزاء الأسرار التي تسنى له الإطلاع عليها بمناسبة المسؤولية التي تولاها، فلا يفشي ما اؤتمن عليه من أسرار قبل وقت معين يقدره البعض بعشر سنوات وحتى 20 سنة، خاصة إذا كان الأمر يهم شأنا حكوميا وخاصة إذا ما تعلق بأشخاص. وفي البلدان المتقدمة والديمقراطية تنشر أسرار المواقف بعد 25 سنة على الأقل، وتصدر سنويا أسرار كثيرة تفصح عن أشياء في أحيان كثيرة لم تكن معروفة. أما بالنسبة للأشخاص فإن الأمر يتطلب عادة 50 سنة حتى تسقط حقوق التتبع نهائيا وبالتقادم. وكثيرا ما يهم هذا الأمر أشخاصا في دولة معينة قدموا معلومات استخبارية لدولة أخرى كما يهم مواقف وزراء توجب الحفاظ عليها لأنها تمس أمن الدولة الداخلي أو الخارجي. وفي تونس أقدم وزير الداخلية السابق فرحات الراجحي الذي تم تعيينه في ثاني حكومة شكلها الوزير الأول محمد الغنوشي بعد الثورة ، وهو قاض مرموق ، على الإدلاء بتصريحات اعتبرت في أدنى الإحتمالات خروجا عن واجب التحفظ حول أسرار توصل إليها عبر منصبه ، ويبدو أنها كمعلومات كانت خاطئة من جهة واستنتاجية من جهة أخرى مما قد يحيل إلى اعتبارها استنتاجات رسمية. وكان الوزير الراجحي الذي لم تكن له تجربة سياسية ولا يعرف أحد كيف حط في وزارة الداخلية، قد لاقى شعبية كبيرة في إبانه بتصريحات جذابة إلا أن عددا من المراقبين الفطنين اعتبروها ديماغوجية شعبوية. وبعد وصول الحكومة الإنتقالية الثالثة على إثر استقالة محمد الغنوشي من الوزارة الأولى وتولى الأمر رئيس حكومة جديد هو الباجي قائد السبسي وله تجربة سياسية طويلة جدا ويعتبر رجلا في قمة الذكاء ، حافظ على وزير الداخلية الراجحي، لكنه سرعان ما لم يقتنع بأدائه بسبب استمرار انخرام الأمن في البلاد وعدم سيطرته على الجهاز، فأقاله وعينه في منصب رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان ، وجاء بوزير له تجربة في الداخلية ضبط الأمور بصورة فعالة. ولكن يبدو أن الراجحي لم يرض بنصيبه فأطلق تصريحات على الفايس بوك ذهبت من اتهام الوزير الأول بأنه كذاب إلى حد القول بأن قائد الجيش ينوي القيام بانقلاب عسكري إذا حصل حزب النهضة الإسلامي على الأغلبية في الإنتخابات المقبلة، مرورا بالتأكيد على أن هناك حكومة ظل تحكم البلاد فعلا يتولاها رجل كان مقربا من الرئيس السابق بن علي قبل أن يغضب عليه ويلاحقه. وقد أدت هذه التصريحات إلى إشعال فتيل اللهيب في البلاد ، فانتظمت المظاهرات بعد أن خمد لهيبها ، وتمت زعزعة حالة أمنية هشة ، وعادت عمليات التخريب وحرق محلات الشرطة بما أدى بالحكومة لمنع الجولان ليلا في العاصمة وضواحيها. وإذ تمت تنحية الراجحي من منصبه الجديد وإقالته بصورة معلنة مع احتمالات إحالته على المحاكم ،فقد بدا أن الحكومة تجد نفسها في مواجهة أزمة جديدة بعد أن ارتفعت المطالب بتعويض رئيسها الباجي قائد السبسي، باعتباره من الجند القديم للرئيس السابق رغم أنه لم يتول أي منصب وزاري منذ 7 نوفمبر 1987 تاريخ انقلاب بن علي على بورقيبة. ومن هنا فإن المتعقلين الذين لا يهمهم كثيرا الوزير الأول يسعون لإطفاء لهيب مستعر على اعتبار أن الأهم الآن هو الوصول لإنجاز انتخابات المجلس التأسيسي في 24 يوليوز المقبل، وأن فرحات الراجحي قد أضر بتصريحات غير مسؤولة في وقت تحتاج فيه البلاد أكثر من أي وقت مضى إلى استقرار سياسي بات مهددا. *كاتب صحفي رئيس التحرير السابق لجريدة الصباح التونسية